نسبية النصر والهزيمة في الحروب الحديثة
لم تسفر أغلب حروب القرن الحادي والعشرين عن نتيجة حاسمة مطلقة، بل كان الاختلاف بشأن نتيجتها هو السائد؛ ليس بين عامة الناس فحسب، بل على الصعد السياسية الرسمية والأكاديمية والإعلامية أيضًا. وقد حدث ذلك في حروب عديدة؛ أربع منها على الأقل في منطقتنا العربية؛ وهي: حرب سورية، وحرب غزة، وحرب تموز في لبنان، وحرب العراق، فضلاً عن حرب أفغانستان. فما الذي تغير؟ أهي أساليب الحرب التي أضحت غير حاسمة أم امتلاك الخصم أدوات تحرم المنتصر قطف ثمار حربه؟ أم هل توسعت مدارك الناس في ما يتعلق بفهم دوافع الحروب ومتابعة مجرياتها، عبر فيض المعلومات، ما جعلها أكثر قدرة على محاكمة نتائجها؟
لقد دلت تلك الحروب على أنّ النصر الحاسم أصبح غاية يصعب تحقّقها، وأما النصر النسبي فصار دارجًا، بل أضحى رضا الطرفين المتحاربين عن هذا النصر الجزئي النسبي هدفًا لإقناع الرأي العام المحلي والخارجي بأنّ تحقيق بعض الأهداف هو نصر في حد ذاته، على الرغم من التكاليف المادية والبشرية والمعنوية المدفوعة مقابل تلك الأهداف الجزئية المتحقِّقة.
وقبل نقاش جدلية: مَنْ انتصر؟ تتعين الإجابة بإيجاز عن سؤال منهجي مهم: كيف يتحقق النصر وما معاييره ودلالاته؟ لندرك أولًا مدى تحقق تلك المعايير كي يُعلن النصر التام، وكي نرى ثانيًا أنّ نتائج الحرب أضحت عرضة للتقييم بعد أن غاب الحسم، ومن ثم أصبح تقدير النصر والهزيمة نسبيًا لا مطلقًا.
ثمة معايير صريحة ودلالات رمزية تدل على تحقق النصر؛ مثل اعتراف أحد الأطراف بالهزيمة، أو توقيع اتفاقية أو معاهدة سلام تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الطرفين، أو إعلان الاستسلام، أو إعلان فصيل مقاتل بوضع السلاح أو طلب العفو العام. وحتى تكون النتيجة حاسمة أيضًا، لا بد من أن يكون النصر المتحقق دائمًا لا مؤقتًا، بحيث لا تعقبه عودة النزاع مجددًا. وفي العادة، تؤدي تلك النتائج الواضحة إلى حل القضايا السياسية التي نشأت من أجلها الحرب من خلال فرض أحد الأطراف رؤيته وشروطه، وربما بمراعاة مطالب محددة للطرف المستسلم.
وبخلاف ذلك، يصبح مفهوم النصر تقييمًا أو رأيًا أو مجموعة آراء، وتبقى نتيجة الحرب مفتوحة للتأويلات والادعاءات. ومن هنا، فإنّ تعيين النصر، بغير تلك الحالات، تختلف فيه الآراء لاختلاف المدارك والتقييمات، وحتى الأهواء، فالنفس البشرية مفطورة غريزيًا ونفسيًا على المقولة الأولية: “أنا فزت، هو خسر”.
وثمة أسباب عديدة قد تصبح نتائج الحرب معها نسبية لا حاسمة، نركز في ما يلي على ثلاثة منها، وهي:
أولًا: عدم عدالة الحرب وفقدانها الصدقية؛ فقد ذهب المفكر الإستراتيجي كارل فون كلاوزفيتس إلى أنّ الحرب صراع مادي وأخلاقي، وأنّ القوى الأخلاقية قد توازن عدم تكافؤ القوى المادية. وبهذا، لا يكفي أن يجري خوض الحرب بالوسائل المادية القسرية، بل ثمة ضرورة أن تنطوي القضية التي شُنّت الحرب من أجلها على قضية عادلة وأن تكون ذات صدقية. ولا يعني ذلك القول بمثالية القوة الغازية كي تحقق النصر، ولا بأنّ عدالة قضية الطرف المقابل كفيلةٌ بدفع الهزيمة عنه؛ إذًا لاستسلم الناس إلى عدالة قضاياهم ومطالبهم. بل ما نعنيه، ونعتقد أنّ كلاوزفيتس ذا الرؤية العسكرية الواقعية عناه، هو أنّ وجود سبب أخلاقي لدى أحد طرفي الصراع يحفّزه لاستنفار طاقاته وقدراته كلها لدفع العدوان، فقد أقر كلاوزفيتس أيضًا بأنّ المدافع وإن كان ضعيفًا ماديًا فهو الأقوى، على المدى البعيد، ذلك أنّ فاعلًا مهمًا يشكل حاضنة للقضية العادلة، وهو الرأي العام محليًا، وفي بعض الحالات دوليًا أيضًا.
لقد حسم حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الحرب في ليبيا، وكوسوفا من قبلها، لأنّ تلك الحرب انطلقت من أهداف عادلة في نظر الرأي العام المحلي الليبي، ثم العالمي بما فيه الأميركي-الأوروبي المشارك في الحرب. فقد قُدِّر أن توافقت عدالة مطالب الليبيين مع تعاطف الرأي العام العالمي بسبب فداحة أفعال نظام القذافي، ومع الأهداف والمصالح الغربية الرسمية أيضًا. فلم تجد هجمات حلف شمال الأطلسي “الناتو” على قوات النظام الليبي من الليبيين إلا المؤازرة المادية والمعنوية؛ فحُسِمت الحرب نصرًا.
أما حرب العراق، فقامت على “ادعاءات” ثبت عدم صحتها، حتى من قبل جهات تحقيق أميركية. ولانتفاء السبب الأخلاقي أو عدالة القضية للطرف الغازي، استنكر الرأي العام المحلي العراقي، ونسبة كبيرة من الرأي العام حتى في الدول المشاركة في الغزو أيضًا، تلك المهمة غير العادلة أو غير الأخلاقية؛ فكان ذلك من بين أسباب عديدة ساهمت في استمرارها وعدم حسمها نهائيًا، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة أعلنت رسميًا “إنجاز المهمة” بعد نحو عشرين يومًا من الحرب. وبالفعل، فقد كانت الشواهد يومها تدل على انتصار مدوٍ لا يمكن دحضه. فالنظام الذي استهدفته قد سقط، وانهارت مؤسساته، أما قوات التحالف فقد جابت شوارع بغداد، وجنحت الأمور نحو الاستقرار. لكن ذلك النصر الذي بدا حاسمًا ما لبث أن صار نسبيًا، ثم اتضح لاحقًا أن تداعيات الحرب وتكاليفها كانت أخطر من الحرب ذاتها. وقاد ذلك إلى جدل في الولايات المتحدة بسبب إعلان إدارتها إنجاز المهمة قبل تحقق النصر الحاسم والدائم. وإنّ استمرار الصراع الذي خلفته الحرب حتى اليوم، وإن بأشكال متعددة، يؤكد بأن نتيجتها آنذاك كانت نسبية لا حاسمة، كما تدل الخسائر المادية والبشرية التي منيت بها الولايات المتحدة لاحقًا على أنّها وحلفاءها لم يحققوا جميع الأهداف ولا حل القضايا السياسية كلها.
ثانيًا: عدم انكسار الإرادة؛ فبانكسارها تحسم الحرب. وإنّ القصف والتدمير الأولي الشامل الذي تلجأ إليه قوى تملك قدرات هائلة، هدفه – بحسب أحد مذاهب الحرب – “الصدمة والترويع” لكسر إرادة الخصم، ومحاولة التأثير النفسي في جمهوره أو الرأي العام الحاضن له، بفعل الدمار الحاصل في البنى العسكرية والمدنية وما يسببه من يأس ومعاناة للناس في سبل معيشتهم للتسليم بالهزيمة. ثمّ إنّ الهدف الآخر للتدمير الأولي الشامل هو محاولة تجنيب المُهاجِم خوض حرب مباشرة مكلفة على الأرض، وبخاصة إن كانت القضية غير عادلة، كما تقدم. وفي الجهة المقابلة، ما لم تنكسر إرادة الخصم تبقى هناك احتمالات لاستيعاب الضربة الأولى، والتفكير باليوم التالي، وإعادة تنظيم الصفوف وخوض جولات من الصراع.
هذا ما حصل في أربعة حروب على الأقل منذ بداية القرن الحالي؛ أغلبها في المنطقة العربية، وهي: حرب سورية (2011- حتى الآن)، وحرب لبنان (2006)، وحرب غزة (شتاء 2008-2009)، إضافة إلى حرب أفغانستان (2001- حتى الآن). وفي الحروب الأربعة، ثمة طرف يستخدم قوة تدمير هائلة، ولم يظفر بالنصر الحاسم، لأنّ إرادة الخصم الذي يستند إلى تأييد شعبي لم تنكسر، و لأنّه استوعب الصدمة، وبدأ بخطة اليوم التالي، وحوَّل ما بدا أنها هزيمة محققة إلى رد العدوان وحرمان المهاجم النصر الحاسم والسريع.
لقد اختلفت “التقييمات” بشأن نتائج هذه الحروب حتى الآن. فأما حرب لبنان، فثمة جهات تحقيق إسرائيلية سمتها هزيمة لإسرائيل، لكنّ ثمة أطرافًا أخرى في الجيش والمؤسسات السياسية الإسرائيلية اعتبرت أنّ الحرب حققت أهدافها بتدمير جزء كبير من البنى التحتية لحزب الله أو على الأقل ردعته عن التفكير مجددًا في مهاجمة إسرائيل، وتستدلّ تلك الأطراف على ذلك بتصريحات أمين عام الحزب بأنه لو علم أنّ رد الفعل الإسرائيلي بهذا الحجم من التدمير لما أقدم على العملية التي كانت سببًا للحرب. إذًا، فالنتيجة ليست حاسمة نصرًا أو هزيمة للطرفين، بدليل احتفاظ كل طرف بتأهبه العسكري كاملًا.
وأما حرب غزة، فقد اختلفت الآراء أيضًا بشأن نتيجتها، إذ لم تنكسر إرادة حماس ولا الشعب الفلسطيني في غزة بسبب الهجمات الإسرائيلية المدمرة، ومن ثمّ لم تستطع إسرائيل تحقيق هدفها بإنهاء حكم حماس السياسي وتدمير قوتها العسكرية ولا استعادة الجندي الأسير. وبالمقابل، تقول إسرائيل بأنها حققت أغلب أهدافها، وبخاصة وضع حماس أمام تحد كبير؛ هو أنّ مهاجمة إسرائيل له تكاليف عالية ينبغي تحسبها، وهذا الوضع هو “الردع” المطلوب، وهو ليس لحماس فحسب، بل أيضًا بجعل حماس نفسها تضبط الهجمات على إسرائيل من قبل أي فصيل فلسطيني آخر. ومن جهتها، تعتبر حماس أنّ أهداف العملية الإسرائيلية لم تتحقق، سوى ما أحدثته من تدمير، بدليل رضوخ إسرائيل لمطالبها لاحقًا بمبادلة ذلك الجندي بأسرى فلسطينيين وعرب. بأي حال، هذه آراء نسبية متباينة – وهناك آراء غيرها أيضًا – بشأن نتيجة حرب جرت، وما دام الجدل يسود تلك الآراء، فيعني ذلك أن أحد الطرفين لم يسلم بالنتيجة الحاسمة التي يقول بها الطرف الآخر.
وبالنسبة إلى حرب أفغانستان، فلا تحتاج إلى كثير تحليل لمدى نسبية النصر والهزيمة فيها، فيكفي دليلًا على ذلك استمرارها حتى الآن، ويكفي القول إنّ إرادة طالبان لم تنكسر، وإنّ ثمة جمهورًا محليًا حاضنًا ساعد في منع تحقق الحسم المطلوب من الولايات المتحدة وحلف الناتو. وبهذا الصدد، يذهب وليام مارتل إلى أنّه عندما أجرت إدارة أوباما مراجعة إستراتيجية للسياسة الأميركية في أفغانستان، عمد المفكرون وصناع السياسة إلى إسقاط كلمة “النصر” من مناقشاتهم، كما أسقط أوباما هذه الكلمة من خطابه في 1 كانون الأول/ ديسمبر 2009 في أكاديمية الحرب الأميركية في ويست بوينت، وأحل مكانها “إيصال هذه الحرب إلى نتيجة ناجحة”. فما نوعية النجاح؟ لعله قصد بها إستراتيجية الانسحاب المعدة لعام 2014.
وأخيرًا، فعلى الرغم من اختلاف الحالة السورية عن الحالات السابقة في أنّ الخصم ليس خارجيًا (وإن كان ثمة رأي وجيه مفاده أنّ الثورة السورية تواجه الآن إيران وحزب الله وروسيا، وربما آخرين أيضًا)، فإن النتيجة واحدة: لم تنكسر إرادة الثورة السورية (المسلحة والتنسيقيات المدنية)، ولا إرادة الناس الذين عانوا “كل شيء” (لعل هاتين الكلمتين تعبران عما وصل إليه الحال)، على الرغم من الصدمات الكثيرة، والترويع والتدمير الشاملين. وبالمقابل، لم تستطع قوى المعارضة والثورة السورية تحقيق النصر الحاسم، لأسباب كثيرة معلومة؛ ليس أقلها التدمير الشامل والدعم الخارجي المشار إليهما، وعدم تقاطع مصالح الثورة بالضرورة مع مصالح الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، فضلًا عن انقسامات المعارضة ذاتها، وضعف أدائها السياسي أحيانًا. وحتى الآن، لم تحسم نتيجة الحرب، ويُعتقد أنّ العملية السياسية التي تضغط الأطراف الدولية لإدخال سورية فيها، هي إحدى أدوات جعل نتيجة الثورة الشعبية من جهة، وحرب النظام من جهة أخرى، نسبية لا حاسمة، بما لا يحقق أهدافهما كلها.
ثالثًا: القوة الجديدة المتمثلة بثورة المعلومات والاتصالات والإعلام؛ إذ أصبحت السيطرة على المعلومات وحجبها كليًا تواجه صعوبة بالغة، فالنقل المباشر لأخبار الحرب ومجرياتها لحظة بلحظة، وبمعظم اللغات، وتقديم تحليلات لها، ووصول صور الضحايا والآثار التي تتركها الأعمال العسكرية إلى الرأي العام العالمي، ساهم كله في تشكيل ضغوط غير مسبوقة في وضع حد لبعض الحروب قبل تحقيق الهدف النهائي الذي كان مرجوًا منها، ومن ثم قبل حسمها.
ولعل حروب العراق ولبنان وغزة شواهد على تأثير هذه القوة؛ فقد اضطلعت ثورة المعلومات والإعلام بدور في إثارة الرأي العام العالمي لتسيير المظاهرات الحاشدة، ومن ثم الضاغطة على الحكومات المشاركة في الحرب، لوضع حد لها من دون أن تحسمها؛ فالعديد من دول التحالف المشاركة في الحرب على العراق سحبت جنودها تحت تأثير عوامل من بينها الإعلام والرأي العام، كما اضطرت الولايات المتحدة نفسها إلى الانسحاب، وليس ذلك بسبب الخسائر فحسب، بل أيضًا تحت ضغط حملات الإعلام والمعلومات المؤثرة في حظوظ المترشحين للرئاسة فيها.
ولكن، لماذا لم يؤدِ الإعلام حتى الآن إلى وضع حد لأعمال الحرب الشاملة في سورية؟ فعلى الرغم من أنّ الكارثة الحاصلة في سورية تفوق أضرار حربي ليبيا وكوسوفا، لم يستدع ذلك حتى الآن تدخل الأطراف الدولية نفسها التي تدخلت “أخلاقيًا” في تلكما الحربين. والمستغرب أكثر، لمَ لمْ يتحرك الرأي العام في العالم بمظاهرات حاشدة كتلك التي شهدها إبان حربي لبنان أو غزة أو حتى العراق، للتنديد بمجازر يومية ترتكب، وللضغط على حكومات فاعلة للتدخل، على الرغم من أنّ الإعلام يبثُّ يوميًا صورًا مفزعة؟ إنّ قوة الإعلام والمعلومات تظل قوة نسبية أيضًا من حيث تأثيرها في نتيجة أي حرب، فهي لا تعد عاملًا حاسمًا، بل عاملًا مساعدًا مهمًا لعوامل أكثر أهمية لم تتوافر. أما على صعيد النظام في سورية، فإنّ الصور الفظيعة التي تبث عبر الإعلام لا تؤثر فيه، بل إنه يرجو أن تردع الخصم ومن يؤيده لإخضاعهم والتسليم له. وهو لا يخشى انهيار قاعدة انتخابية، ولا محاسبة دولية بَثَّت – ما يبدو – رسائل تطمين له حتى الآن، ولا رأيًا عامًا عالميًا يحتاج إلى دراسات تفسِّر سكونه!
إنّ اختبار نتائج الحروب في القرن الحالي، تبرهن على أنّ أي منها لم تحقق المعايير الحاسمة للنصر المطلق، ما عدا الحالة الليبية؛ فقد أدت تلك الحروب إلى النتيجة ذاتها: لم يحقق المهاجم نصرًا حاسمًا وفق أهدافه كلها، ولم يُهزم الخصم هزيمة مطلقة أدت إلى انهياره وانكسار إرادته. إنها النسبية القابلة لكل التأويلات في الحروب الحديثة.
المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات- موقع حزب الحداثة