حداثة و ديمقراطية

“بالخلاص يا شباب!” .. سجون وشجون

في كتابه “بالخلاص يا شباب!”، يقدّم الكاتب والناشط السوري ياسين الحاج صالح جملة من الانطباعات والخبرات التي اكتسبها من تجربته سجينا 16 عاما في ثلاثة سجون سورية بين عامي 1980 و1996. ويكتب في المقدمة إن كتابه هذا يقع في “موضع قلق”، فلا هو يندرج مرتاحاً في خانة “أدب السجون” بالمعنى المعتاد، ولا هو بحث اجتماعي، ولا هو كذلك سيرة ذاتية لسجين، ولا هو أخيراً وثيقة سياسية أو حقوقية، تفضح النظام. والحقيقة إن نصوص الكتاب حملت جوانب من كل هذه التصنيفات.

لا يُعنى الكتاب بالإغراق في وصف بشاعات السجون والتعذيب ومشاعر الضحية، بل يكتفي بأن يقول، باقتضاب، إنه تعرّض “لتعذيب معتدل” في “الدولاب” وعلى “بساط الريح”. يسرد بشكل عابر قصصا مثل إجباره على نقل الأحذية بفمه، بينما يُفرد مساحة لتأملاتٍ ذات سياقات أوسع من السجون، حافلة بالدلالات السياسية والحياتية أيضا.

حت نص بعنوان “الحياة والزمن في السجن”، يُصنف الكاتب السجون حسب قدرتها على تجميد الزمن لنزلائها، حيث إن تلقي النزلاء زيارات من الأهل، ووصولهم إلى بعض الكتب والصحف وسواها، كفيلان بقدر من معادلة الزمن داخل السجن وخارجه، بينما سجن تدمر الرهيب هو “السجن المطلق”، حيث لا زيارات من الأهل مطلقا، ومن غير المسموح دخول الكتب أو أي وسائل لقتل الوقت مثل ألعاب الورق، كما لا يستقرّ حال السجناء أبدا، بل تعذيب وخوف على مدار الأيام كافة.

ويرى صالح أن السلطات السورية، حين أقرّت قاعدة أن سجناء تدمر لا يفرج عنهم بشكل مباشر، بل يتم نقلهم إلى سجون آخرى، يمضون فيها أشهرا قبل خروجهم، فقد أفادتهم، بشكل ما، حيث يحتاج السجين فترة تأهيل يعادل فيها الزمن الذي قد يكون قد توقف عنده قبل عقد أو أكثر.

يسرد الكتاب ظواهر غير مطروقة، مثل الحنين للسجن، حيث تنتاب تلك المشاعر سجناء سابقين لأسباب مختلفة، وكذلك ظاهرة “الاستحباس”، حسب تعبيره، وتعني أن يصل السجين إلى قدر من الاستقرار يجعل وقت السجن ليس مقتطعا تماما من عمره، وتدخل في ذلك عوامل عدة، مثل الحالة المادية للسجين وأسرته، وظروف السجن. وهكذا وصل صالح إلى قمة “استحباسه” مع مطلع التسعينيات، حيث تم الإفراج عن أخويه، وتوفيت والدته، وصار منهمكا في القراءة والتثقف، بعدما تحسّنت ظروف السجن، حيث سُمح بالكتب والتلفاز وتوقف الأذى الجسدي.

يرفض صالح مقولات شائعة، مثل ترديد إن السجين في بلادنا قد خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير، حيث يراها تقلّص الفارق بين السجن وخارجه، وتظهر قدرا غير قليل من قلة الحساسية حيال تجربة السجن المروّعة، فضلا عن أنها تسوّغ التقاعس عن العمل العام في “السجن الكبير”.

في نص بعنوان “عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا”، يطرح الكاتب فكرة أن اتساع “القاعدة الاجتماعية” وطول المدى الزمني لسجن السياسيين يجعل ما حدث بمثابة “التجربة الوطنية”، كما يشكل السجناء السابقون مجتمعا غنيا بالتنوّعات الجديرة بالدراسة، كالموقف من المرأة، والقدرة على استعادة العمل أو الدراسة، والموقف من التنظيمات السياسية التي انتمى لها السجناء قبل سجنهم.

نُشر الكتاب عام 2011، وقد جرت مياه عطنة كثيرة تحت الجسور العربية بعدها، حيث توسّعت ظاهرة السجن السياسي في الدول العربية التي شهدت موجة انتقامية من الربيع العربي. وبينما ركّزت جهات بحثية غربية على ظاهرة التطرّف داخل السجون، فإن الإنتاج الأدبي والبحثي العربي لا يزالان محدودين للغاية، في ظل الحاجة لفهم الظاهرة والتنبؤ ببعض مآلاتها.

يقول صالح: “أعرف أن كثيرين استسلموا، تركوا أنفسهم لاختلاط نسيان مُشوِّش أو لتثبُّت الذاكرة على عذاب الماضي ومهانته؛ ترك بعضهم جرح روحه يندمل دون أن ينظفه ويطهره، ويرعى بعضهم جرحه كأعز ما يملك، يتركه ينزف كي يدّخر شراسة طازجة لمستقبل ينتقم فيه. لكن الاستسلام، بشكليه، ليس خطيراً عليهم وحدهم”.

لمحمد أبو الغيط.

العربي الجديد- موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate