اصلاح ديني

كلمة موجزة عن الإصلاح الديني في أوروبا

إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية، وجدنا أن الإصلاح الديني سبق التنوير الفلسفي بقرن على الأقل أو حتى قرنين؛ فمارتن لوثر ظهر في القرن السادس عشر، وزعماء التنوير الفلسفي من أمثال فولتير وروسو وكانط وسواهم ظهروا في القرن الثامن عشر. لوثر نظف المسيحية من الشوائب والأخطاء والمفاسد بما فيها جشع رجال الدين وانحرافهم عن السراط المستقيم. وقد تجلى ذلك بشكل فاقع من خلال متاجرتهم بالإيمان وبيع صكوك الغفران للشعب البسيط الجاهل. فإذا كان الإيمان الذي هو قدس الأقداس قد أصبح سلعة تباع وتشترى بالمال فما بالك بما تبقى؟ هذا يعني أن الفساد عم المجتمع كله، فإذا ما فسد الدين، أو فسد فهم الدين، فسد كل شيء. ضد هذا الوضع الفاسد للمسيحية الأوروبية ثار مارتن لوثر وانتفض انتفاضة عارمة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور. وطهر المسيحية من شوائبها وتراكماتها وأسس دينا جديدا تقريبا، هو: البروتستانتية. ولهذا السبب يعتبره الألمان أعظم شخصية في تاريخهم كله. ثم انتشرت أفكاره الإصلاحية في كل أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم. وهذا أكبر دليل على أن المسيحية كانت عطشى للتغيير، وتنتظر قائدها المنقذ الذي يشعل الشرارة الأولى. فكان أن ظهر لوثر هذا، حيث لا يتوقع أحد ظهوره، لأن المسيحية في الشمال الألماني كانت الأقل فسادالكن لوثر الذي أصلح المسيحية وعالجها من أمراضها الداخلية، ظل مسيحيا ولم يخرج على المنظور الديني للوجود. أما فلاسفة التنوير الذين جاؤوا بعده بمائتي سنة، فقد خرجوا على الدين المسيحي عن طريق تحقيق خطوة إضافية بالقياس إليه. لماذا؟ لأن الدين كان قد وقع مرة أخرى في غياهب الفساد والظلام، وأصبح قمعيا من جديد. ثم بشكل أخص لأن الصراع المذهبي الذي جرى بين المذهب الذي أسسه لوثر (أي المذهب البروتستانتي) والمذهب الكاثوليكي البابوي الروماني دمر أوروبا تقريبا. لقد أدى إلى حصول مجازر مرعبة ذهبت بمئات الألوف، بل وحتى بالملايين في شتى أنحاء أوروبا. ولهذا السبب فلم تعد دعوات الإصلاح الديني كافية. لم يعد كافيا الدعوة إلى إصلاح الدين. وإنما أصبح ملحا وعاجلا نقد العقيدة الدينية ذاتها. لهذا السبب خرج فلاسفة التنوير على المسيحية كلها بعد أن نقدوا عقائدها نقدا جذريا راديكاليا لا هوادة فيه. فإذا كانت هذه العقائد تؤدي إلى كل هذه المجازر والمذابح والحروب الأهلية، فهذا يعني أنه يوجد خطأ أو خلل في العقيدة المقدسة ذاتها. هذا الشيء لم يتجرأ عليه لوثر في عصره على الرغم من صدقه وراديكاليته الثورية التغييرية. لماذا؟ لأن الخروج على الدين في عصره كان من رابع المستحيلات. كان يمثل اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه آنذاك. كان يلزم أن يمر قرنان وتنتشر الأفكار الحديثة وتتطور التقنيات الصناعية، ويثق الإنسان الأوروبي بنفسه وبقدراته لكي يتجرأ على الخروج من الدين كسياج طائفي مغلق على ذاته. ولهذا السبب يقول بعضهم بأن فلسفة كانط ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري؛ بمعنى أنها تشكل قفزة جديدة في اتجاه التحرر من أغلال الدين وعقائد القرون الوسطى المسيحية. لهذا السبب ألف كانط كتابه الشهير: لدين ضمن حدود العقل فقط. بمعنى أن الدين أصبح يخضع للعقل وليس العقل للدين، أو قل بأنه يحق للعقل البشري أن يغربل العقائد الدينية غربلة صارمة فما توافق منها مع العقل والعلم أبقيناه، وما تناقض معهما تخلينا عنه.

لهاشم صالح

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate