السياسة والكذب
أصبح مصطلح “السياسية” مصطلحاً ملوثاً, بفعل الممارسة الخاطئة لجمهور غالب من السياسيين في المرتبة الأولى, وربما التلوث الأكبر كان بسبب الفهم الخاطئ لمفهوم السياسة ومضامينها الحقيقية لدى الأجيال الجديدة.
السياسة في الأصل مصطلح عربي صميم أصلاً وفرعاً ومضموناً, فهي مشتقة من فعل (ساس) (يسوس), وهي بمعنى حسن التدبير والقيام على الشيء بما يصلحه, وسائس الخيل هو القادر على ترويضها وجعلها قادرة على ممارسة دورها وما أعدت له بكفاءة, وساس القوم بمعنى أحسن قيادتهم.
لكن خرجت علينا علومٌ حديثة للسياسة, حاولت تجريدها من القيم النبيلة ومن الخلق ومن الدين, بحيث أصبح التعريف العام للسياسة (فن الممكن), كل ما يمكنك فعله من أجل تحصيل هدفك وغايتك, من دون النظر إلى خلق أو دين أو رادع من ضمير, وهذا ما حاول ميكافيلي, في كتابه المعروف “الأمير” أن يضع مفهوم السياسة, وتتلمذ على يديه مجموعة كبيرة من دهاقنة السياسة في العالم, منظرين وممارسين.
ولذلك أصبح الكذب لوناً من ألوان السياسة, إذ لا يستطيع السياسي الاستغناء عن الكذب; من أجل تسيير أموره بسلاسة وبعدد أقل من المشاكل والصعوبات, ولذلك بحسب هذا المفهوم لم يعد الكذب عيباً أو حراماً على (السائس), بل ربما يكون من أهم متطلبات مهنة السياسة في العصر الحديث, مصداقاً للمثل العامّي القائل:”الكذب ملح الرجال”.
وأصبح تعدد الوجوه والخطاب بأكثر من لسان, ومخاطبة كل جهة بلسان, ومقابلة كل فئة بوجه, من متطلبات العمل السياسي كذلك, إلى درجة أنّ بعضهم يعتبر السياسة فنا من فنون التمثيل, بمعنى أنّ السياسي ينبغي أن يكون قادراً على تقمص الأدوار, وقادراً على الخروج على العامة بلغاتٍ عديدة وأشكال كثيرة من أجل إرضاء جميع الأذواق, وتلبية جميع الرغبات.
ومن خلال هذا المفهوم يتحدث كثيرون عن وجوب إبعاد الدين عن السياسة; لأنّ ذلك مدعاةٌ حسب رأيهم لتوليث الدين بآلاعيب السياسة ومخادعة السياسيين, وهناك قومٌ يذهبون إلى عدم إدخال الذين في السياسة من أجل أهداف أخرى تقوم على منع استغلال أثر الفتوى والتدين في ممارسة الناس السياسية.
السياسة في الفكر الإسلامي علمٌ شريف وعملٌ نبيل شكلاً ومضموناً, غايةً وهدفاً وفعلاً وممارسةً, ولذلك يقول الإمام الغزالي رحمه الله: السياسة أشرف علوم الدين, ويقول ابن عقيل الحنبلي: السياسي ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
واستقر التعريف العام الجامع لمصطلح السياسة في الشرع: كل ما يصدر عن وليّ الأمر من أوامر وأفعال تحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
ولا تتحقق مصالح العباد بالكذب والخداع, وإجادة فنّ التمثيل وتعدد الوجوه, والقدرة على خداع الجماهير, بل إنّ جوهر السياسة أن يصدق الرائد أهله, وأن يمحضهم النصح, ويرشدهم إلى الحقّ, ويكشف الزيف ويحارب النفاق والمنافقين, ويقطع ألسنة الكذابين, فالقائد لا يستخدم الكذب ولا يلجأ إلى الكذب ولا يضطر إليه مهما كانت الظروف; لأنّ الكذب يهدم القيم, ويفسد المعاملات, ويحطّم العهود, ويؤدي إلى انهيار الحياة.
السياسة في الإسلام أمانة وصدق وإخلاص, وطهر ووضوح وجرأة في قول الحق, وبعد عن التزوير وبعد عن اللف والدوران, والسياسي البارع الذي يكشف الكذب ويحاربه, والقادر على استخراج الحقيقة وتجليتها; من أجل صناعة الثقة بين القائد والشعب, ولذلك ورد في الأثر أنّ المؤمن يقتل ويزني ويخطئ, ولكن المؤمن لا يكذب; لأنّ الله لعن الكذابين ولعن المنافقين, ولعن شهادة الزور, ولعن ذا الوجهين, ولعن نقض العهد والإخلاف بالوعد.
لد.رحيل الغرايبة
عمون- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية