اصلاح ديني

حوار حول العقل والعلمنة والإيمان الديني في زمن الحداثة الفائضة.

يتناول المفكر اللبناني د. محمود حيدر* في حواره مع مركز آفاق للدراسات والبحوث قضايا جوهرية ومسائل تأسيسية فيما يتعلق بالفكر الغربي الحداثي  من جهة تتبع التحولات المعرفية حول العقل والعلمنة والإيمان الديني في زمن الحداثة الفائضة .وترتكز إجاباته تحليلا ونقدا على تفعيل حلقات التفكير النقدي حول تلك القضايا الحيوية في حقول الفكر المعاصر والفلسفة  من  خلال تتبع الآثار المترتبة على ذلك والتي تشهدها المجتمعات الغربية.

واستخدم  الدكتور حيدر مصطلح ” جائحة العقل” في توصيفه للكيفية التي استُعمل فيها العقل لإعمار الحضارة الحديثة واستحكامه بالعقل الغربي الحديث، منوها إلى أن الكثير كتبوا عن معايب العقل الحديث وعجزه عن إدراك الوجود من أمثال هنري برغسون وإتيان جلسون ومارتن هايدغر.  

ويرى الدكتور أن العقل الحسير هو الذي يدير الحضارة الإنسانية منذ اليونان إلى ما بعد الحداثة.

مبينا أن أظهر الجنايات التي اقترفها العقل الحديث، اختراعه لمذهب حمله اسمه ليكون ولياً على حياة الإنسانية المعاصرة ومرشداً لها.

ويعتقد أن من أظهر الشواهد على بهتان وتهافت الأطروحة العقلانية هي “العقلانية الاستعمارية”.

مرجعا انتقال الحداثة بلا رويَّة من تقديس العقل إلى تقديس الشيء الذي صنعه العقل، إلى تقديس الغرب ابتداء للعقل، ثم انتهى إلى تقديس الشيء الذي صنّعه العقل.

مطالبا المجتمعات العربية والإسلامية بأن تقوم بمراجعات هادئة ومتدبرة لمفهوم العلمانية لكي تنتهي من الدوامة الفكرية التي افترضها عالم المفاهيم المتدفق علينا بزخم هائل من الغرب.

كامل الحوار ..

س: ما يحدث في بدايات الألفية الثالثة يحفِّز على إعادة النظر بوضعية ودور العقل نفسه.. والسؤال هو أيُّ عقل يحكم الحضارة المعاصرة اليوم.. هل هو العقل اليوناني الذي وضع أرسطو مقولاته وقواعده المنطقية أرسطو، أم أن ثمة عقلاً آخر هو ذاك الذي صنعته الحداثة لنفسها وظهر ما ظهر فيه من معاثر واختلالات؟

كثيرون ممن سوَّقوا ونظَّروا للعقل المحض، أو ما سُمِّيَ- اللوغوس الذي وضع هندسته الإجمالية الفيلسوف الإغريقي أرسطو- لم يتنبَّهوا الى الخلل الجوهري في تكوينه. خصوصاً عندما أشاح الآخذون به قديماً وحديثاً بأبصارهم ببصره عن الأصل الذي جاءت منه الموجودات. لقد ظن هذا العقل انه يستطيع بواسطة العلم أن يحيط بكل شيء. ولمَّا حسِبَ انه أفلح بالميثاق الأعظم الذي سيتيح له فك لغز الوجود من خلال ثورته العلمية، وقع في تيه الانانية وجنون العظمة.. فقد اخذته العزَّة بـ “أناه” حتى ظن أنه الإله الفائق الذكاء، الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا وقف على سرًها.. أو انه الكائن الفريد المكتفي بذاته، وليس له بعدئذٍ من حاجة الى من يسد نقصه متى استشعر النقص، ولا الى من يمده بالإغتناء متى استشعر الفقر… منذ جناية ارسطو الاولى الى جنايات الوَرَثة المحدثين، من الذين استطابوا الاستراحة الابدية في دنيا المحسوسات اتخذت هجرة العقل دربة غلوائها حتى استحالت “جائحة” تجري على غير هدى وسط عالم مسكون بالهلع…وليس من شك أن العقل الحديث بهذه الصفات قد تحول الى مصدر ينتج التشاؤم والقلق أكثر مما يوفر للإنسان سعادته المنشودة.

س: حتى لا يُفهم من كلامكم انكم ذهبتم الى ذمِّ العقل على نحو الإطلاق.. حبذا لو أوضحتم ما تقصدونه من جائحة العقل؟

ج:أشكركم على هذا السؤال الإستدراكي لأجل بيان مقصودنا. بالتأكيد ليس يعني توصيفي لمسارات العقل في التاريخ الحديث إنقاصاً من جلال العقل وجمال ما يختزنه من الحكمة ومحاسن التدبير.. ما قصدته على وجه الضبط – هو الكيفية التي استُعمِل فيها العقل لإعمار الحضارة الحديثة.. بطبيعة الحال، فإن نقد العقل الأداتي للحداثة ليس أمراً مستجداً. فما ذهبتُ إليه لتبيين المعاثر التي استحكمت بالعقل الغربي الحديث له ما يؤيِّده في التراث الفلسفي النقدي في الغرب. كثيرون كتبوا عن معايب العقل الحديث وعجزه عن إدراك حقائق الوجود. من هؤلاء فلاسفة وعلماء اجتماع مثل هنري برغسون وإتيان جلسون وهنري كوربان وبول تيليتش ومارتن هايدغر وسواهم الكثير. في هذا الإطار يمكنني أن أشير بشيء من التوسع الإجمالي إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي برغسون لجهة تركيزه على محدودية العقل وعدم قدرته على إدراك حقائق الوجود. فالعقل عنده يبقى قاصراً عن إدراك ما يحتجب من هذه الحقائق ان لم يتجاوز ذاته. وذلك على أساس ان المعرفة العقليّة هي معرفة نسبيّة؛ ولأنها كذلك، فلن يكون بإمكانها أن تصل إلى إدراك ما يكون عليه الشيء في الواقع.

وللمزيد من البيان أقول، ان العقل في أصل نشأته وعلَّةِ وجوده، هو أول الموجودات وأشرفها. بل يبقى تلك الجوهرة النادرة الذي ينفرد به الكائن الآدمي دون غيره من المخلوقات. والعقل على ما اعتقد وأتصور هو السر الذي لا ينفك مصدر حيَرة لحامِلهِ منذ اول الخلق.. لكن محل الإشكال هنا، هو بالتحديد ما رسمه له الإغريق من هندسات، وبخاصةٍ ما وضعه منطق أرسطو من مراسيم دنيوية محضة، حيث شكلت الفلسفة الحديثة تتويجاً صارخاً لها. أستطيع القول بناء على المنعطف الأرسطي واستحواذه على نظام التفكير البشري أن الحضارة المعاصرة بلغت الآن نقطة النهاية في “ماراثون العقل المنفصل” الذي افتتحه الإغريق، وختمته الحداثة. لقد بذلت الفلسفة مذ ولدت، والى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته)، والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع).. لكنها ستنتهي الى معضلة العجز عن الوصل بينهما باعتبارهما يعودان الى أصل واحد.. كانت أن العقل قاصرٌ عن اجتياز دنيا المقولات العشر، ولا ينبغي لهذا العقل معرفة ما وراء عالم الحس، لأنها معرفة مستحيلة. وعلى هذا النحو كان لأهل الفلسفة الاولى وورثتها من الحداثيين، ان يريحوا العقل من الإعتناء بالمبدأ المؤسِّس للوجود ثم ليستغرقوا في لجّة لا قاع لها من الانهمام والعناية بالموجودات الفانية… هذا ما نلقّاه الآن من معاثر الحضارة الحديثة، لمّا غزاها الكورونا وهي في ذروة استعلائها واعتزازها بذاتها. اننا بالفعل أمام خيبة كبرى تدعونا الى وصف الحداثة الفائضة، بأنها المشهد الاخير لحضارة العقل الحسير ومعاثره الكبرى؟..

س: ما الذي تقصده من عبارة العقل الحسير، كوصف للعقل الذي انصدم بالوباء ولا يزال يقود ما أسميته الحداثة الفائضة عن حدِّها؟

ج- أعني بالعقل الحسير عقل الحداثة وما بعد الحداثة الذي يعيش الحسرة حيال حادث كوني لم يدخل في حساباته ولم يستطع احتواءه. لكن التمظهر الأشد قسوة لغفلة هذا العقل الذي استراحت إليه الحداثة قروناً طويلة، هو ان “دابَّة الارض” التي ظهرت على حين بغتة، سوف تغلب دابة العقل المكتفي بذكائه… أشير هنا إلى أن الحكماء والعرفاء يرون ان العقل الذي يستغرق في دنيا معاشه هو نفسه العقل الذي يتحسَّر على ما كان أعرض عنه. أي الشيء الذي يشكل جوهره ومعناه وعلةُ كماله كموجود ينبغي أن يكون خليفة لله وسيداً على الكون.

من أظهر الجنايات التي اقترفها العقل الحديث، اختراعُه لمذهبٍ حمّله اسمه ليكون ولياً على حياة الانسانية المعاصرة ومرشداً لها..  يدَّعي اصحاب العقلانية ان لديهم حُزمة كاملة من الإجابات الكبرى، على حُزمةٍ كاملةٍ من الاسئلة الكبرى: من السؤال لماذا كان الوجود وليس العدم، الى الاستفهام عن الكيفيات المناسبة لإدارة المجتمع والدولة وحركة التاريخ… وعليه فقد عُدّت النزعة العقلانية وفق الصورة التي ظهرت بها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب، نسَقاً ميتافيزيقياً ناجزاً.. بل إنها عوملت في أكثر المواضع والأحيان، كبديل من الدين… وللإيضاح أكثر أقول أن من مفارقات العقلانية أنها تعاملت مع العلم كموضوع من مواضيع نشاطها الفكري. وضمن هذا المنحى تم الاستيلاء على مقاليد الثورة العلمية وتوظيفها لخدمة ايديولوجيتها الحاكمة على حضارة الحداثة برمتها. على هذا الاساس سنرى كيف اسَّست العقلانية لسيادتها عبر قاعدتين ستمهِّدان معاً لانكشاف العقل الحديث وانفضاح معاثره الكبرى:

*القاعدة الاولى: إعتقاد العقلانية بأن العلم و التفكير العلمي قادران لوحدهما ان يحدِّدا ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وان كل شيء يجب ان يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، او اي فرع آخر من فروع العلم.. اما امور مثل الايمان بالغيب والنزعات الروحية، بل وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والاخلاق، فقد اختزلتها النظرة العقلانية الى مجرد متغيِّرات في كيمياء الدماغ الذي يتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو- بيولوجية المرتبطة بتطور الكائن البشري…

* القاعدة الثانية: تقوم على الإعتقاد بأن الغاية من تحصيل المعارف هي التحكُّم بالعالم الخارجي والهيمنة المطلقة على الطبيعة. وبذلك يصبح همُّ الغرب مركوزاً في العثور على الطريق الامثل لتحقيق هيمنته وإشباع جوعه الضاري للثروة والتكاثر.. ولو حلّ الفساد في سماء أهل الارض، وفي بحرهم وبرِّهم وما تحت الثرى..

أعود الى القول، نحواً من أربعة قرون مرَّت على تسيُّد المذهب العقلاني. إذن، لنرَ ونحن في لجَّة الجائحة، ما النتيجة التي ترتَّبت على هذه التسيُّد الذي طال زمانه واستطال..؟؟ الحاصل أن النزعة العقلانية على الغرب، ووضعت كل منجزاته العلمية والمعرفية والتقنية تحت سطوة سلطانها…وكان من حصاد هذا الاستحواذ ان انحكمت الحضارة المعاصرة بعقيدة صمّاء لا ترى الى الانسان، ولا الى الطبيعة إلا بوصفهما حقلَ رماية لعقل بات أدنى الى دابَّة هائمة، “تثير الارض ولا تسقي الحرث” ولا تركن الى محراب آمن …..

س: دعنا نعطي شاهداً تاريخياً على ما أسميته جائحة العقلانية، والتي أدت الى ما يشبه الانفصام في الشخصية الغربية، أي بين القيم التي تحدثت عنها ثورة التنوير، والسلوك التاريخي للدول والحكومات التي ورثتها؟

ج: أعتقد ان من أظهر الشواهد على بهتان وتهافت الأطروحة العقلانية هي “العقلانية الاستعمارية. تلك التي انطلقت من مبدأ يقول ان غاية العقل تكمن بدوره في جلب المنافع لأصحاب هذا المبدأ نفسه. وهذه برأيي عقلانية تجردَّت من القيم الأخلاقية مع بديهيات حقوق الإنسان. اسمح لي هنا أن أشرح لكم هذا الإشكال بشيءٍ من التأنِّي: في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية. في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت الى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدَ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانية من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة “المحضة” والقياس المحض. ذلك بأن تحديد “طبيعة الأشياء” وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر “عقلانيّاً” الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة “الحروب العادلة” التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقَّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس، والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في “العقلانية” المابعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الانسانية كسبيلٍ للعدل والسلام العالميَيْن، تعود لتؤكد ـ وبذريعة العقلانية إياها ـ أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة (أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً: إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ. أضيف أخيراً إن العقلانية المنزوعة الأخلاق ـ بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء والسيطرة ـ هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

أعتقد أنك توافقني الرأي بأن القرن العشرين الممتلئ بالحروب والعداوات بين الشعوب والدول كان قرن الجدل السلبي بامتياز بين ايديولوجيتين دفعتا بالعالم غير مرة الى حافة الهاوية. خذ مثلاً، الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم الحرب الباردة، ثم العولمة التي أعلنت نهاية التاريخ لتسود الليبرالية في أقصى مراتب وحشيتها. كل ذلك ما كان ليكون لو لم يكن الجدل الإقصائي هو الحاكم على منطق القوى السائدة. أريد هنا أن أقارب هذه المعضلة من منطقة الفكر الفلسفي من أجل ان نعيد تأسيس ميثاق جديد لمبادئ الحوار. إنني على يقين من أن الحقيقة لا تولد إلا عن لطف المناظرة. اللطف ُيخرِجُها من الرحم الودود التي هي فيه، نقية لا يشوبها نقص ولا تعتري نقاءها شائبة. وهذا النوع من التناظر اللطيف لا يراه إلا العقل الذي ينسرح في امتداده الى ما وراء الافق المحكوم الى المصالح والمنافع الضيقة.

س: ألا ترى ان التقنيات الهائلة التي أنتجتها الحداثة الصناعية تنم عن حقيقة لا تقبل الشك وهي أن الغرب استطاع ان يتبوّأ عرش العالم لما انتصر للعقل والعلم؟

ج: غير أن الحقيقة التي يمكن تدبّرها بالمعاينة هي أن الغرب ابتدأ بتقديس العقل، ثم انتهى الى تقديس الشيء الذي صنّعه العقل.. لنتصور اليوم أي مآل صارت إليه الأمور… ان الشيء الذي صنّعه العقل التقني راح ينفلت من عقاله، وينشر على الملأ كله فزعه الأكبر. ليس ثمة ما يدعو الى الاستغراب، ان الحداثة انتقلت بلا رويَّة من تقديس العقل الى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. وهذه الفَرَضية موصولة بالتساؤل عن حضارة استهلت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت الى عبادة الفرد، ثم لتنتهي الى عبادة الآلة؟.. مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الانسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي. لنقرأ الصوَر الثلاث بشيء من التفصيل: الإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والانسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، كان قادراً منذ بدايات الإنسانية على انتاج أساطير لا تحصى. أما الانسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصة، فهو انسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. يحضرني في هذا الصدد ما يقوله المفكر الفرنسي إدغار موران في سياق مطالعاته النقدية لما سماه سلوكيات البربرية الأوروبية. أن ترياق “الهذيان” و”الحمق” يمكث في أعماق العقل الحديث. هذا العقل الذي مضى الى عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. وعليه صار بإمكان العقلنة برأيه أن تخدم الهوى، وتقود الى الهذيان.

من هنا أستطيع القول ان مآلات الحداثة التقنية في هذا السياق لا تبدو إلا كمحصول لعقلٍ استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المرِّوع للإنسانية المعاصرة. هذا هو بالضبط ما أوْقَدَ حماسة هايدغر الى نقد ما جَنَتْهُ التقنية على الإنسان الحديث. لكن القضية عنده تتعدى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفية والعميقة.

    من البيِّن ان الحداثة بنسختها النيوليبرالية عندما استشعرت مأزقها الأصلي، أي البحث الشاقّ عن بَدْءٍ جديد، راحت تحثُّ السير نحو انعطافة تمنحها القدرة على ترميم صدوعها، وإعادة تشكيل العالم الجديد طبقاً لأغراضها. وهكذا وجدت في “العولمة” ضالّتها الكبرى لتعثر على هذه الانعطافة. ألقت بجميع أثقالها داخل شبكة عنكبوتية من الأنباء والمعلومات والصور والرموز، وحوَّلتها إلى منظومة للتحكم والسيطرة. استعملت النيوليبرالية منظومتها المستحدثة بغلوّ صارخٍ، وراحت تزيل الستر عن الأصل الذي جاءت منه، ثم لترمي به في العراء. الميديا العابرة لكل الحدود التي أطلقتها العولمة بقيادة أميركا الذي أطلقته الحداثة الفائضة، من أجل ان تهيمن على العقول والمشاعر، سيكون له ارتدادات انقلابية على منبتها الأصلي. ظنَّت أنها بتوسيط الميديا تستطيع أن تبشِّر العالم كله بمشروعها الإنقاذي. ثم انبرت تقنع البشرية بأن روح الغرب هي روح التاريخ الانساني كله، وأن كل شيء في العالم الحديث بات رهن قِيَمِها وأحكامها. أما حاصل التجربة العولمية كان في جانب أساسي منه كارثياً على كل صعيد. وليس انتشار المعامل الجرثومية والبيولوجية فضلاً عن النووية، سوى التعبير الصريح عن الكون المفتوح على الجوائح الظاهرة والخفية. فلو حَسِبَت حكومات الحداثة ما ستؤول اليه أحوالها لحظة انفجار ثورة الاتصالات، لانعطفت عن مسارها واجْتَنَبت سوء الخاتمة. وبمحض إرادتها أطلقت الحداثة الفائضة عن طريق الميديا كمّاً ضخماً مما اختزنته على مدى قرون من قيم ومعارف وأسرار. لقد أمست التلفزة الكونية – على سبيل المثال – معادلاً تكنولوجياً للإيديولوجيات الليبرالية فقد باتت أشبه بتقنية أسطورية تستند إلى جماهير عريضة، تتكاثر كلما تطور سلطانها المعنوي. لهذه الغاية سعت مراكز التحكم بعالم الميديا الى بثِّ كل ما يشجع على القبول الأعمى بالمنتج الأثيري. وهذا بالضبط ما كان لاحظه الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي في بداية التسعينيات، لمّا بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء، ودعوة إلى الغوغائية والخمول، والتوجه نحو رأي عام تتلاعب به الدعاية والإعلانات. أراد غارودي ان ينبِّه الى أن التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ، ولكنه يصنعها بالتلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق، وإلى تهديم كل روح ساعية الى النقد الخلاَّق، وكل فكر يشعر بالمسؤولية. ولكي نستدل على هذه الأحكام حيال الميديا ووسائل التواصل، أنظر كيف تتم الآن تغطية تداعيات جائحة كورونا على كل صعيد. أوليست أخبار هذا الفيروس في كثيرٍ من الأحيان، تبدو أشد قسوة على المواطن العالمي من الفايروس نفسه على المستويات النفسية والاجتماعية وحتى العلاقات بين الدول؟

س: هناك من يرى البعض أن الغرب علماني وكفى، ومن ثم ليس هناك ما يدعونا الى متابعة شأنه الديني… والسؤال كيف تقيمون هذا المسلك الذي ينظر باستسهال وتبسيط شديد الى قضايا الدين في الغرب مستنداً الى نظرة سطحية تقول ان الكنائس لا تجد من يقيم الصلوات فيها، وأن الكنيسة في الغرب تعاني من هشاشة في خطابها الديني؟

ج: مع أن الدخول الى فكرة العلمنة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذر لافت بين مفكري وفلاسفة الغرب، فلا ينفك  التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربية والاسلامية بطريقة فيها الكثير من التبسيط والاختزال. من أجل ذلك سيكون علينا في المجتمعات العربية والإسلامية أن نقوم بمراجعات هادئة ومتدبرة لمفهوم العلمانية لكي ننتهي من الدوامة الفكرية التي افترضها عالم المفاهيم المتدفق علينا بزخم هائل من الغرب. ما يحملني الى هذه الملحوظة في مستهل إجابتي على سؤالكم، هو ابتلاؤنا المستدام بغموض المفاهيم التي انتجتها الحداثة الغربية ولما تزل تستغرقنا.. وتلك مشكلة سيكون لنا معها مباحثة منفردة في مجال آخر. أما في ما يتصل بالسؤال فإن النقطة الجديرة بالمعاينة، هي وجوب معرفة حدود التمايز بين العلمنة كمفهوم نظري والعلمانية كما هي في حقل الاختبار والتجربة التاريخية. فإذا كان المفهوم هو على الدوام معيار البناء المعرفي لدى النخب التاريخية في العالمين العربي والاسلامي، فإن مفهوم العلمنة نفسه لم يتحدد بوضوح إلا وفقاً للاختبارات التي اكتسبت خصوصيتها في التاريخ الغربي الحديث. لكن لا بد من التنبيه الى أن علمنة الغرب كمثال ونموذج حضاري ليست واحدة، ولا هي جرت على النشأة نفسها في البلدان التي شهدت ثورات الحداثة ابتداءً من القرن الرابع عشر.  ففي كل بلد أوروبي كان للعلمنة فيه نسقٌ يناسب هويته وثقافته وجغرافيته المعرفية.

واليك بعض المقتبسات  تأتينا من خزائن الحداثة وتبيِّن علامات المشهد:

-الثورة الفرنسية على سبيل المثال أطلقت سياقاً خاصاً في سيرورة العلمنة. قد يكون هو السياق نفسه الذي حمل نخب البلاد الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين الى الأخذ بالنَسخة الفرنسية للعلمنة كوسيلة لبناء مدائنهم الفاضلة.

في المثال الفرنسي حيث كانت تقوم بين النظامين السياسي والديني صلة تلاحم وترابط، لم يكن النضال من أجل التحرر السياسي والاجتماعي لينفصل عن النضال ضد الهيمنة الابديولورجية للاهوت الديني المسيحي. لقد كان تأكيد استقلال الانسان وحريته يعني تأكيداً موازياً لاستقلالية العقل. على هذا النحو من الحراك كانت العلمانية و”الدَنْيَوَة” تشكلان سيرورة واحدة، وسيكون لها أن تفرز تصوراً للحداثة جمهورياً وجذرياً ووضعياً، تصوراً يقيم حدوداً واضحة بين الروحي والزمني، بين السياسي والديني.

أما في أميركا وبقية أنحاء أوروبا، فإن نزع القداسة عن العالم والمجتمع تمّ على نحو يكاد يخلو من الصدام مع سلطة الكهنوت الفكرية والسياسية، وهكذا أفضى هذا النزع الى ظهور ضرب من العلمانية من نوع خاص ومركب، ما حدا بالفيلسوف الفرنسي الكسيس دو توكفيل الى أن يرى في التناغم الحاصل بين الدين والسياسة احدى كبريات ركائز الديمقراطية في أميركا.

ويمكن أن نلاحظ في السياق نفسه كيف أن بريطانيا العظمى ليست اليوم بأقل حداثة أو أقل  “دَنْيَوَة”  بالنظر الى أن الديمقراطية تتكيَّف فيها تكيُّفاً افضل مع سلطة روحية معترف بها، أو الى أن الملكة ما فتئت تضطلع بوظيفة مزدوجة حيث تترأس الدولة وتترأس الكنيسة في الآن عينه.

ما أريد قوله هنا هو أن أهم ما في العلمنة انها اكثر المفاهيم التي انتجها الغرب قابلية للتأويل. فهي لا تنضبط عند تعريف واحد. قد تكون نظرية العلمنة هي النظرية الوحيدة التي استطاعت الارتقاء الى وضعية نموذجية ضمن العلوم الاجتماعية الحديثة.  فلقد اجمع كل آباء الحداثة والتنوير على تبنّيها : من ماركس ومن قبله، الى أوغست كونت وهربرت سبنسر الى دوركهايم وماكس فيبر، ناهيك عن كانط ومن عاصره، الى نيتشه وفرويد وسواهم. وفي الواقع فقد بلغ هذا الإجماع مبلغاً لم تعد العلمانية فيه تتعرض للتشكيك، بل لم تبرز الحاجة، على ما بدا، الى اختبارها، لأن الجميع سلّموا بها، ما يعني أن هذه النظرية، أو بالاحرى مقولة العلمنة، بالرغم من كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، لم تخضع اطلاقاً لدراسة رصينة، بل ولم يحدث ان صيغت صياغة صريحة ومنهجية.  ومهما يكن من تعدد مناحي التأويل، فثمة ما يشبه الاجماع على ان مفهوم العلمنة نشأ من الجدل الذي شهدته عهود الحداثة حين راحت تقوم بإجراءات التمايز والفصل بين النطاق الدنيوي الزمني للدولة والاقتصاد والعلم التجريبي، وبين الايمان الديني.

س: هل حضر الدين حاليا في الغرب بعد تراجعه مع بداية التنوير والحداثة الأوروبية، أم أن إحساسنا بحضور الدين هو الذي تغير، فالدين لم يفقد تأثيره، بل انه من غير من تموضعه داخل المجتمع الغربي، وانتقل من حالة الجلاء والسيطرة المكشوفة الى الخفاء والتأثير المتواري في ميدان الثقافة والتعليم بل والسياسة أيضاً، ومن ثم فالدين- على ما يبدو – لم يغب عن الغرب حتى في أشد أوقات تراجع الكنيسة كمؤسسة؟

ج: يفترض سؤالك الرجوع قليلاً الى البدايات. فقد  تزامنت بدايات ما سمي عصر التنوير مع إقصاء الكنيسة، وتجاهل الحتميات الإلهية الدينية. وهنا يمكن القول إن العوامل التي بلورت العلمانية، تكمن في الإخفاقات ذاتها، التي عاشتها القرون الوسطى. وهنا اسمح لي أن أشير الى بعض هذه العوامل:

أولاً: قصور التعاليم والأحكام المسيحية حيث إن سلطة الكنيسة النسبية – في بداية القرون الوسطى – تحولت إلى سلطة مطلقة فيما بعد، ممّا دفعها الى الإستبداد واستعمال القوة.

ثانياً – الإصلاح الديني: وقد شكل عاملاً من عوامل إقصاء الدين تدريجياً عن المجتمع، وكان من أوائل المنظرين لهذه الحركة (مارتن لوثر 1483-1546م)، فقد طرح آراء جديدة من أجل إصلاح وتحسين شرعة المسيح، وإقامة الإستقرار فيها.

ثالثاً: تناحر الفصائل الدينية فيما بينها، مما أدى الى تصدع المقدس اللاهوتي للمسيحية، ومن ثم الى تمهيد الطريق لظهور العلمانية. كان مارتن لوثر من القساوسة المسيحيين، وكسائر زملائه لم يكن يعتقد بلزوم وساطة القساوسة لفهم الأناجيل الأربعة، بل كان يذهب إلى أن الإنسان بإمكانه أن يؤدي دور رجل الدين بنفسه، وبما أوتي من رؤى عقلية يتمتع بها كل إنسان، لذا قرر أن  يقف بوجه الأسطرة والخرافات المفتعلة التي نسبت للكنيسة والدين. وعلى هذا فقد خرج لوثر ذات يوم على الناس، ووقف في وسط المدينة حاملاً بيده مجموعة من صكوك الغفران ليمزّقها أمام الملأ، يومئذٍ دعا الناس إلى تحكيم عقولهم لفهم الدين لكن التمادي المفرط لدى الكنيسة لم يترك مجالاً للإصلاحات داخلها، ولم يبق أمامه سوى القضاء على الأنظمة والمؤسسات التي ترتبط بالدين، وبهذه الطريقة تهيّأت الأجواء لظهور العلمانية الحادة كردة فعل على استبداد اللاهوت وقسوته.

مع هذا فإن السؤال في الغرب اليوم يعود ليتجدد حول مآلات العلمنة. وهو سؤال يبدأ أصلاً من المنطقة المعرفية الكلاسيكية التي وضعت العلمانية على الطرف النقيض للدين قبل قرون خلت.

س: هل ثمة من أفق لإجراء حساب شامل مع العلمنة بما يعيد وضع المفهوم على نصاب المصالحة مع الايمان الديني… وبالتالي هل صراع العلمانية مع الدين في الغرب أوجد فراغاً عميقاً لدى الإنسان الغربي وهل تمتلك النخب من العلمانيين واللاهوتيين القدرة على إجراء حساب النقد والمراجعة والتجديد؟

ج: الجواب على سؤال كهذا فيه الكثير من المخاطرة.. لكنه سؤال جائز بأي حال… أما لماذا أقول ذلك، فلأنني لست متفائلاً على الأقل في المدى المنظور، من أن تتمكن النخب المفكِّرة والمستقلة عن دوائر سلطة القرار في الغرب، أن تجري مثل هذا الحساب. فقد اختُبرت الحداثة العلمانية على مدى قرون ثلاثة ولم تفلح بمبادرة تاريخية تعيد العلاقة بين شأن الدين وشأن الدنيا على نصاب التكامل والمصالحة. وهذا عائد الى جملة عوامل في مقدمها اجتياح ذهنية المنفعة حضارة الحداثة، وهيمنة قيم التقنية ورأس المال على القيم المعنوية والأخلاقية.

أعتقد أن الحضارة الغربية أكملت تجربتها وبلغت حداثتها وعلمانيتها درجة الاشباع. وما لم تستدرك النخب الغربية هذه الحال، فقد تؤول حضارتها الى التداعي والانهيار والتبدد.

س: أليس ما تقوله تقدير مبالغ فيه حيال حضارة باتت أسيرة عالمها التقني ولا تزال تمسك بزمام العالم؟

ج: لو نظرنا الى ظاهر المشهد في الغرب لصح القول اننا نبالغ في التقدير والتوقع. لكن لو استقرأنا ما يصرح به عدد من رواد الحداثة ونقادها فسندرك الى أي مدى كان التحذير من الانهيار بيِّناً. يحضرني في هذا المجال ثلاثة تعليقات: الأول للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو والثاني لعالم النفس المعروف سيغموند فرويد والثالث للفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدغر.

 1- يتساءل فوكو عما إذا كانت الحداثة لا تزال تشكل امتداداً لعصر الأنوار، أو أنها أحدثت قطيعة أو انحرافاً عن المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر. وبشيء من المرارة، والسخرية أضاف: “لا أعرف إن كنّا سنصبح راشدين ذات يوم.. أشياء كثيرة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حادث “الأنوار”لم يجعل منّا راشدين، وأننا لم نصبح كذلك بعد”… وما من ريب أن منشأ كلام فوكو مردُّه الى استشعارٍ عميق للمآل الذي بلغته مسارات الحداثة وبما ينبئ عن تهافتٍ أخلاقي بيِّنٍ لقيم التنوير ومبادئه الكبرى.

  2- أما فرويد فقد نبَّه الى هذه العقدة وهو يستطلع اللوحة السايكولوجية الأخلاقية للغرب إثر الحرب العالمية الأولى يقول: «ليست المسألة في أننا سقطنا إلى أدنى المستويات (عبر قتل بعضنا البعض)، بل أننا لم نرتقِ إلى المستوى الذي كنا نظن». من بعد ذلك تمدَّدَ الزمن ليظهر عالم جيوسياسي ثقافي جديد أمام الملأ. معه ما عاد بمقدور التسمية القديمة للغرب أن تلبي تعريفه البدئي بعد أن  ذوى التنوير تحت سطوة الاستحلال الكولونيالي. لكأن حادث الأنوار الذي آل إلى حداثة مكتظة بالعيوب، غاب مع الحداثة الفائضة عن مرآة  الفكر والقلب.

      3- أما مارتن هايدغر فسيمضي إلى حيث لم يقدر عليه الأولون من قبله. عنده الحداثة لم تفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوة جديدة من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. وعلى غالب الظن لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدّاً بات معه على دراية بما انتهى إليه مشروعها من صدوع لا ينفع معها نقدٌ ذاتي، أو تبريرٌ إيديولوجي. سيذهب هايدغر أبعد من هذا ليحكم على ميتافيزيقا الحداثة بعدم قدرتها على إحداث تغيير مباشر لحالة العالم الراهنة. وهذا – برأيه – لا يصدق على الفلسفة فحسب، بل على كل المحاولات والتأملات الإنسانية. الأمر الذي حدا به في سنواته الأخيرة الى القول “بأن الله وحده ما زال بإمكانه إنقاذنا”. ويضيف: أعتقد أن الإمكانية الأولى الباقية  للخلاص هي التحضير للجهوزية، أي التفكير من أجل ظهور الإله. فنحن ببساطة لا نموت ميتات بلا معنى، لكننا عندما ننحدر فإننا ننحدر بسبب من غياب الإله”.

أصل القضية اذن، عائدٌ بالأصل الى العيوب التكوينية لمشروع الحداثة. لعل الأظهر في تلك العيوب هو استبدال محورية الإنسان في الكون بمحورية الحضارة الغربية وقيامتها على العالم. فقد حلَّ المدى الجيو ـ حضاري للغرب محلَّ تساؤلٍ  مريب حول هويته ووجوده. تم استدعاء التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة من أجل تركيب هويةٍ تكون له منفردة بذاتها. ففي قلب التعريف الذاتي للغرب يتموضع مفهوم عالميته الحضارية. وبحسب المدَّعى يمسي  المفهوم عقيدة مترسِّخة: الغرب مركز جاذبية العالم، بَدْؤه وختامُه، وهو التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية. جغرافية الغرب الأم التي تمثلت بأوروبا منحت لنفسها رسالة “تحضيرية” في علاقتها مع الشعوب الأخرى. حتى أن مراياها الثقافية انصبغت مع الوقت برؤية عالمية لا ترى إلى الغير إلا بوصفه تابعاً محضاً أو مجال استخدام. وعلى هذا المنحى نظر عقل الغرب إلى التنوع كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. من أجل ذلك سينبري جمعٌ من فلاسفته وعلمائه، لا سيما علماء الطبيعة، ليقترحوا أساساً علمياً وفلسفياً لشرعنة “الحوْضَرة”، ومن ثمَّ لتسويغ مبدأ الوصاية على بقية العالم.

س: كيف ترون حضور المؤسسة الدينية في الغرب في ظل الواقع العلماني المحتضن للكنيسة، هل ما زالت لها تأثيرها الواضح في عالم السياسة، خاصة مع الصورة الشهيرة منذ شهور التي جمعت القادة الأوروبيين في ظل رعاية بابا الفاتيكان؟

ج: سؤالكم هذا يحيلنا أيضاً الى المراحل التأسيسية للحداثة. لقد حطَّت المنازعةُ بين الحداثة والكنيسة على أرض الفصل بين “دنيوية العلمنة” وجوهر المسيحية. لم تتوقف “العلمانية الحادة” لمّا  نازعت الكنيسة مقامها، على احتكار قيم السياسة والاجتماع ووضع نظريات الدولة. فإذا بها، تمضي إلى نهاية الرحلة لتنقلب على الكنيسة، وتُطيح لاهوتها السياسي، وتحكم على ادعائه امتلاك الحقيقة بالبطلان. بل إنها ستذهب مسافة أبعد في المواجهة، لتفتح باب المساءلة، حول مجمل ما أنجزته الفلسفة الحديثة في صعيديها القيمي والأخلاقي. ويمكنني القول ان الحداثة لما حققت غلبتها على اللاّهوت، وابتنت علمانيتها الحادة بعقل بارد، راحت تنظر إلى الكنيسة بوصفها نابض إرجاع للزمن،  وإلى المؤمنين بوصفهم كائنات أسطورية تُغرِقُ العالمَ بالظلمات. لكن يبدو أن تلك النظرة أخذت تتهيَّأ لمنقلب آخر.. صحيح أن الحداثة انتصرت على اللاّهوت، لكنها لم تستيقظ من نوام انتصارها بعد.. كان الفرنسيون يقولون بشي من السخرية أن جمهوريتهم لم تنتصر إلا بدحر الكنيسة.. لكنهم سرعان ما أدركوا أن هذا النصر كان أشبه بانتصار فرنسا على نصفها الآخر.

هذه الوضعية دفعت ببعض المفكرين وعلماء الاجتماع الى تشبِّه مآلات ما بعد الحداثة بتلك الصورة المنسوبة إلى جاهلية القرون الوسطى. وقد عنى بها تلك الجاهلية المستأنفة، والتي تأتينا هذه المرّة برداءٍ تكنولوجيّ “ما بعد حداثيّ”. وهذا  بالضبط ما قصده اللاهوتي الألماني ديتريش بونهوفر حين صبَّ جام نقده على حداثةٍ باتت مهووسة بعالمٍ صار عبداً لأهوائه وأشيائه. حداثة تحول فيها سيّدُ الآلة إلى عبدٍ لها، وانتهى تحرر الجماهير إلى رعب المقصلة. والقومية انتهت إلى الحرب.. وتفتَّحت مع الحداثة أبواب العدمية”. أما حين انتهت ما بعد الحداثة إلى الحديث عن الإنسان الأخير وعن موته، فإنها لم تكن لتفعل ذلك إلا لتكشف عن جاذبٍ إلى معنى ما فوق ميتافيزيقي.. بل ربما عن رغبة كامنة بيومٍ تستعاد فيه الإنسانيّة على نشأة الجمع بين أفق الألوهة وأفق الأنسنة على نصاب واحد.

         س: هل سؤال الإيمان ما زال حاضراً في مجتمعات الحداثة اليوم، وهل يمتلك الدين والمسيحية تحديداً القدرة على الإجابة عليه.. علماً أن القضية الدينية تعود الى حيويتها في المجتمعات الغربية، هل تعني هذه العودة برأيكم نهاية العلمانية، أو على أدنى تقدير انكفائها عن حضورها التاريخي؟

      ج: لا أتصور أن الأمر يجري على هذا النحو من الوضوح. صورة النقاش بين النخب الغربية نفسها لا تقر بمثل هذه المعادلة. لكن الأكثر قابلية وملاءمة لواقع التحولات هو ما يمكن أن نسميه بـ “الطريق الشائك والمتداخل”. بمعنى أن طوراً من العلمانية قد انتهى وهو طور الصدام المرير مع الإيمان الديني وبدأ طور مستحدث يقوم على التكيف مع أمر واقع فرضه ازدهار وتوسع الحالة الدينية في الغرب. العلمانية لم تنته ولم تمت لكنها وصلت الى منعطف يفترض عيها إعادة تشكيل مسارها بما يتلاءم مع يقظة الدين وعودته كفاعل تاريخي في حضارة الغرب المعاصرة.

س: يجري الحديث عن نظرية ما بعد العلمانية كأطروحة مستحدثة يجري نقاشها هذه الأيام بين النخب الفكرية في الغرب. ماذا عن هذه الأطروحة، وفي أي سياق نشأت؟

ج- ما بعد العلمانية، تجربة مستجدة في التفكير الغربي بشقيه العلماني واللاهوتي. تجربةٌ تتغيَّا وضع حدّ للاحتراب المديد بين خطّين متعاكسين: إما الإيمان المطلق بقوانين اللاّهوت وسلطاته المعرفية، وإما الإيمان بمطلق العقل المحض، وما يقرره من أحكام لادينية لفهم العالم. في هذه الآونة يجري الحديث في منتديات التفكير في أوروبا عن أن العلمانية وصلت إلى نهايتها وأن مرحلة ما بعد العلمانية قد بدأت. وان تأثير الدين بات يلعب دوراً أكبر في حياة الناس كما أنه عاد إلى صلب المجتمع الحديث. أعتقد ان مثل هذا الحديث، وعلى هذا المستوى من الجدَّة يشكل انعطافاً مهماً في المقاربات النقدية الجارية الآن، على الرغم من أنها مقاربات  لا تزال تقتصر على أصوات محدودة في البيئتين الأكاديمية والفلسفية. أما ما يتصل بطبيعة الأطروحة ومقاصدها فإن ما بعد العلمنة هي مقترح يقدم أساساً مفهوم على فكرة مركزية مفادها أن العلمانية قد تكون وصلت إلى نهايتها، وكما يبين الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس فإن مصطلح “المجتمع ما بعد العلماني” «لا يشير فقط إلى حقيقة أن الدين يستمر في توكيد وجوده في بيئات تزداد في علمانيتها، بل أيضاً، أن المجتمع الغربي في الوقت الحاضر لا يزال يضم نِسَباً وازنة من المجموعات الدينية”.

س: في أي سياق يجري طرح هذه الفكرةـ.. وهل ثمة استجابة لها من جانب النخب الأوروبية؟

ج- ربما عليّ أن أشير في إجابتي الأولية على هذا السؤال، الى أن طبيعة الاستجابة لأي فكرة غير مألوفة تظل في البداية ضعيفة من جانب الجمهور. بل حتى من قبل النخبة الحاكمة التي لا يروق لها أي فكرة تثير التوتر في منظومتها. وهنا يتساوى العقل الغربي مع العقل الشرقي في رفض الجديد. الشيء الأساسي في فكرة “المجتمع ما بعد العلماني” هو المجهود المبذول للتضييق على هذه الظاهرة في الغرب. واللافت أن الكثير من الدارسين يلاحظون أن هذه الظاهرة قد تصبح حقيقية في البلاد الإسلامية بما أنها في أساسها حوار بين الدين والدولة. مع أن مؤيدي هذه الأطروحة يقولون: أن المشروع «ما بعد العلماني لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الأوروبية الثرية. أو على بلاد مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا حيث استمر اختفاء الروابط الدينية بين الناس بشكل دراماتيكي خاصة في فترة ما بعد الحرب». كذلك يمكن تطبيق هذا المصطلح على الولايات المتحدة التي تظل بالنسبة إليه “رأس حربة الحداثة”. وبحسب ما يقول هابرماس فإن ما بعد العلماني يشير إلى تغيير في الوعي يرجع إلى ثلاث ظواهر:

الأولى: إدراك أن النزاع الديني له أثر على الصراعات الدولية.

الثانية: الاعتقاد بأن المؤسسات الدينية تلعب بشكل متزايد دور «كيانات تفسيرية» في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية.

الثالثة: واقع هجرة «العمال الزوار» واللاجئين خاصة أولئك القادمين من بلاد لها خلفيات ثقافية ودينية تقليدية.

ولذلك فهابرماس كمنظر لـ “ما بعد العلمانية” يدعم النظرة التي تزعم أن الدول الإسلامية وحتى الدول الأوروبية الشرقية لا يمكن أن تشهد فترة ما بعد علمانية، وعلى هذا الأساس راح يستثني الدول الإسلامية من ملاحظاته نظراً لطبيعة الإسلام كدين، كما يقول، حيث لا يتيح المجال للتحول السهل إلى الدولة العلمانية رغم تزايد أصوات المثقفين الليبراليين الذين يدعون إلى تجديد الشريعة بحيث يسهل الفصل بين الدين والدولة. بالإضافة إلى ذلك فهو يستثني الدول الأوروبية الشرقية من ملاحظاته ويرى أنه في المجتمع ما بعد العلماني لا بد من وجود بعض الشروط مثل دعوة المجتمعات الدينية إلى المشاركة في العملية الديموقراطية على أساس أن على هذه المجتمعات أن تحترم القيم الديموقراطية وأن تعي حقيقة أنها تعيش في مجتمع عام تعددي.

       س: لكن هل سيكون لهذا الطرح حظ النجاح بقطع النظر عما ذهب إليه هابرماس في استثناء المجتمعات الإسلامية منه وحصره بالمجتمعين الاوروبي والأميركي؟

    ج – يجب أن نعلم أولاً ان السمة الأساسية للعصر “ما بعد العلماني”  حسب نظرة هابرماس هو التعددية الثقافية التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلة زمنية واحدة وفي أغلب الأحيان هذه الفترة الزمنية تكون في إطار مجتمع غربي. يذكر عالم الإجتماع الإيطالي ومحلل فكر هابرماس ماسيمو روزاتي أن “مجتمعاً حقيقيّاً ما بعد علماني هو مجتمع متعدد الأديان حيث توضع التقاليد الأصيلة في البلاد مع المجتمعات الدينية المهاجرة إليها. بكلمات أخرى فإن التعددية الدينية جزء من الظروف الإجتماعية للمجتمع ما بعد العلماني”. في الواقع يحاول هابرماس أن يفتح حواراً بين الدين والعلمانية محاولاً حل النزاع بين التعددية الراديكالية والعلمانية الراديكالية مقترحاً إقامة حوار يتعلق بإدماج الأقليات الأجنبية في المجتمع المدني، وتشجيع أعضاء المجتمع على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية”.

لا ريب بأن ما يطرح في أوروبا والغرب عموماً حول “رجوع الديني”، هو عنوان إشكالي سيكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربية اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكري الغرب سعياً للعثور على منظور معرفي يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عرف بنظرية “ما بعد العلمانية”، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسية في هذا الاتجاه. وما يعزز آمال القائلين بهذه النظرية أن أوروبا الغنية بالميراثين العلماني والديني قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معاً بعد فِرقة طال أمدها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانية” ـ ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ـ إلى وجوب تخصيص إطار مرجعي يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة سواء بسواء بغية العيش المتناغم في أوروبا تعددية.

شغف التساؤل حول صيرورة الاحتدام الديني العلماني ومآلاته، لم يتوقف عند هذا المفرق.. كان ثمة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع في بداية العام 2004 البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعلمنة في أوروبا. ومع أن اللقاء لم يسفر يومئذٍ عما يمكن اعتباره ميثاقاً أوليّاً للمصالحة بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلماني، إلا أنه أطلق جدلاً قد لا ينتهي إلى مستقر في الأمد المنظور.

س: ما الذي جرى في هذا اللقاء بين هاتين الشخصيتين اللتين قدّمتا أفكاراً تجديدية كل من موقعه؟

ج: يمكنني القول على نحو مجمل أن اللقاء الفريد بين الرجلين، ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العملي لـ”الفكر العلماني” نافذة نجاة للخروج من مأزق الحداثة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي يمكنه إبداع الرؤى باتجاه الخير العام. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فليهتم الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثم أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كل الثقافات والتمثُّلات الدينية عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاص في إطار ما سماه بالوعي “ما بعد العلمانيّ” للمجتمع. أما إجمالي ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربية المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان ـ مواجهة التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان ـ فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي ـ  التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان ـ العقل والإيمان مدعوان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض…

س: هل هذا يعني أن ما بعد العلمانية هي صيغة توسُّط بين نقيضين تاريخيين؟…

ج: لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ مما دار بين اللاَّهوتي والفيلسوف، لقلنا إن ما حصل هو أشبه بإجراء ينبئ عن انصرام تاريخ غربي كامل من الجدل المزمن  حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضت معك أن تكون صيغة ما بعد العلمانية هي منطقة التوسط الفضلى بين نقيضين لدودين انتجا على مدى ثلاثة قرون متعاقبة توترات وحروباً وسجالات فكرية لم تنته تداعياتها الى يومنا هذا.

استطيع القول أن فكرة ما بعد العلمانية هي الصيغة الحضارية الأكثر تناسباً لتحقيق الوئام المفقود بين البيئات الدينية والبيئات العلمانية. أعتقد أن القضية هنا ليست متعلقة بالرغبة في ايجاد طريق يخرج التفكير الإنساني من لعبة الثنائيات الضدية: الدين أو العلمنة الله والعالم. القضية هنا هي حاصل تطور منطقي في حركة التاريخ وحضور الفكر الإنساني في هذه الحركة فعلى سبيل المثال: إن الحداثة الفائضة التي نعيش تدفقاتها اليوم مثلما ولدت من فضاء المراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وما بعدها، كذلك  وُلدت “ما بعد العلمانية” كمجاوزة لما اقترفته العلمنة من معايب ظهرت قرائِنُها صورة إثر صورةٍ وحدثاً إثر حدث.  لذا لم تتحول “مابعد العلمانية” إلى مقالة سارية في الزمن إلا بعدما أُشْبِعَت العلمنةُ جدلًا واختبارًا، حتى أوشكت أن تُهجر أو تُرمى في النسيان. والعلمانية شأن نظائرها الأخرى [كالأيديولوجيا والديمقراطية والحداثة والرأسمالية الليبرالية وسواها..] راحت تحفر السبيل إلى المابعد قصد التجدد والديمومة. وما كان ليتسنى لها هذا لولا أن كفّت عن الاستمرار في أداء وظائفها الكبرى. لكنّ القول بوصول العلمانية إلى خاتمتها، لا يعني في واقع الحال الحكم بموتها. فالختم هنا يدل على نهاية جيل تاريخي أدت العلمنة في خلاله مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتهيَّأ لتغيير مهمتها بما يناسب الزمن الذي حلّت فيه.

س: استكمالاً لمضمون السؤال السابق هناك أطروحة قدمها في تسعينيات القرن العشرين الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه تحت عنوان: “دين الخروج من الدين”. ما الذي يقصده منها، والى أي مدى تقترب هذه الأطروحة من الجدل المتفاعل في أوروبا حول فكرة ما بعد العلمانية؟

ج: أميل الى التأكيد بأن ليس ثمة علاقة مباشرة بين ما يطرحه غوشيه حول “دين الخروج من الدين” وما يقدمه كل من هابرماس وتشارل تايلور بصدد “ما بعد العلمانية”. لكنني أجد رابطاً داخلياً يجمع بين الأطروحتين. ذلك بأن كلا منهما تندرجان في سياق الاشتغال على حل مشكلة التناظر السلبي بين الدين والعلمنة، والسعي الى حل المعضلة التي عادت الى الاحتدام في عصر الحداثة الفائضة. لنعد الى الشطر الأول من السؤال:

ان نظرية “الخروج من الدين” (Sortir de la religion) كما يريدها غوشيه لا تعني التخلي عن المعتقد الديني وإنما الخروج من عالم  يكون الدين فيه بحد ذاته منظِّماً بنيوياً للعالم، ويوجه الشكل السياسي للمجتمعات ويعين بنينها الاقتصادية. إن المجتمعات الخارجة من الدين هي بالتحديد المجتمعات التي يمكن فيها  اعتبار العامل الديني بنية فوقية بالمقارنة مع بنية تحتية تعمل في غيابه على نحو تام. إن الخروج من الدين يعني في المحصلة، الانتقال الى عالم يستمر وجود الأديان فيه، ولكن ضمن شكل سياسي وتنظيم جماعي لم تعد تعني بتحديدهما. والخروج من الدين لا يناهض الدين من حيث الجوهر، وإنما يعادي المطامع الدنيوية للكنائس وليس الدين على الإطلاق. إنه، بكل بساطة، يطلب من المؤمنين أن يحتفظوا بإيمانهم الشخصي بالخلاص للعالم الآخر، وأن يدخلوا اللعبة المشتركة للاستقلالية عن الدين في هذا العالم المعاصر.

س: هل توضح لنا السياق الفكري الذي حمل الفيلسوف الفرنسي على صياغة هذه النظرية المثيرة للجدل، وكيف تعاملت معها في الدوائر اللاهوتية في أوروبا؟

          ج: لم يتوقف مارسيل غوشيه عن البحث والتحليل منذ دخوله  عالم الفكر. وهو منذ بداياته الأولى ظل ينتظر لحظة ما للخروج من “المياه الراكدة” للفكر الفرنسي.. لقد التقط فرصته المنتظرة، بانطلاق حركة الشبيبة عام 1968 ودخل من خلالها عالم الفكر الناقد الذي تمثل آنذاك بـ “المدرسة البنيوية”. وهذه المدرسة كما هو معلوم  سيطرت على مفاصل واتجاهات التأثير لدى الانتلجانسيا الفرنسية من خلال عدد من كبار المفكرين أمثال جان بول سارتر، جاك لاكان، ميشيل فوكو… ولكن بعد زوال “حركة التمرد”، وتداعي آمال التغيير، وتفرق صفوف “الرفاق”، لم يطرح غوشيه جانباً كل ما في جعبته، إنما أبقى على “برنامج علم موحد للإنسان يتكون من علوم اللغة واللاوعي والتاريخ”، ومنذ ذلك الحين لم يعد برنامجه الفكري منحصراً في نقد الحداثة، وإنما، تكرس لفهم صيرورتها، ومستقبلها. من خلال هذا الفهم تكونت لديه الماهية العقلية، التي ترجمت عملياً عبر التزامه، وتقاربه الفكري، مع عدد من البحاثة أمثال عالم الاجتماع كلود لوفور، وعالم الإثنيات بيار كلاستر، والطبيب النفساني غلاديس سوين، وعالما التاريخ بيار نورا وفرنسوا فوريه… وقد تمكن غوشيه من خلال هذه التجربة استخلاص ثلاثة خطوط متقاطعة تميز المنهج العقلي عنده  وهي: التاريخ السياسي للدين،  علم جذور الفرد، ومقاربة مصاعب الديمقراطية؟ مع أطروحته آنفة الذكر يدخل غوشيه مدَّخلاً جريئاً ومفارقاً، ليبيِّن أن الأديان  لا تعيش إلا ضمن معادلة “الخروج من الدين”. أما مبرراته النظرية في هذا المجال فتقوم على تناول دور المسيحية الفاعل  والمؤثر في سياق هذا التطور. لقد كانت المسيحية برأي غوشيه نموذجاً حياً لمعادلة “دين الخروج من الدين”. ويبدو ذلك واضحاً في أغرب ما تضمنته المسيحية من وجهة نظر تاريخية، بالنسبة لوحدانية الله عند اليهود والوحدانية بشكل عام، وهي عقيدة التجسّد. فلقد وحد المسيح، الإنسان والإله، وهذا ما تستذكره الكنيسة كل يوم. إن في ذلك يكمن مفهوم خروج الدين من داخل الدين. أما ما يتصل بسؤالك عن رد فعل رجال الكنيسة فإنني أشير الى ما حدث في العام 1985، تاريخ صدور كتابه غوشيه “إزالة السحر عن العالم”.  يومها تأثر جمعٌ من رجال الدين، على رأسهم اسقف مدينة كلير مون فيران ايبوليت سيمون وأسقف مدينة أنغوليم كلود داجن، بأطروحته غير المألوفة حول المسيحية؛ وكان أمراً مفارقاً أن يمضي هؤلاء الى تبني نظرية غوشيه، ويسعون بجرأة أن يجعلوا من الدين المسيحي دين “دخول” الدين في الديمقراطية وحداثتها.

لقد أدرك غوشيه في هذه اللحظة ان رجال الدين الذين تقبلوا بحماس فكرة المسيحية على انها “دين الخروج من الدين”، لم يفعلوا ذلك لرغبة في الانتحار. ولا بد من أن تكون لهم مصلحة في ذلك، مع أن رؤيتهم تختلف كلياً عن رؤيته. من جهته حاول أن يدرك الأمور كمؤرخ، ومن جهتهم فقد كانوا يحاولون اكتشاف ما عليهم معرفته كرجال كنيسة كونهم مسؤولين عن أبرشيات كاثوليكية. من وجهة نظر غوشيه أن من حق أهل اللاهوت التفكير بأنه لا فائدة من الاحتماء خلف رؤية ما للمجتمع المسيحي والسلطة السياسية للدين. لقد ماتت هذه النظرية وشبعت موتاً، ويستحيل بالتالي ممارستها. لا بد من إيجاد موقع آخر للديانة المسيحية في مجتمع الخروج من الدين، أي في المجتمع الديمقراطي، وربما وحدت بهذا الخروج انطلاقة جديدة تتطلب تحديداً عميقاً لما كانت عليه الأديان والمسؤوليات التي تسلمتها. أي تكييف العقيدة الكاثوليكية مع المتطلبات الشرعية لعالم ديمقراطي.

س: استناداً الى قراءتكم للنقاش الجاري في الغرب على هذا الصعيد، هل ترون إمكانية إجراء مصالحة بين المجتمعات الإسلامية كمجتمعات دينية وبين العلمنة؟

ج: برأيي ليس ثمة من حرجٍ في مواجهة هذا السؤال هو من النوع المضنون به على أهله. أقصد أنه  قلما يطرح بجدية سؤال حول إمكان انعقاد حوار خلاق بين الإسلام والعلمانية. في تصوري، لقد آن الأوان لكي تغادر النخب العربية والاسلامية كهف التضليل المعرفي الذي لا يزال يستحكم بها منذ انهيار الخلافة الإسلامية أواخر القرن التاسع عشر وبداية عصر الاستعمار الجديد. ولعل من أظهر وأخطر عناوين الظلال المعرفي هو الفصل الجائر الذي ورثناه عن الحداثة بين العقل والغيب أو بين العلم والدين. أنا من الذين يقولون بأن ليس ثمة صراع جوهري بين الإيمان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل. ومتى فُهِمَ ذلك على النحو الأتمّ، ظهرت الصراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوءٍ مختلف تماماً. فالصراع في حقيقته لم يكن بين الإيمان والعلم، بل بين إيمانٍ وعلمٍ لا يعي كل منهما بعده الحقيقي. من قبيل المثال غير الحصري: لم يكن الصراع الشهير بين نظرية التطور الداروينية، ولاهوت بعض الطوائف المسيحية صراعاً بين العلم والإيمان، بل صراعاً بين علمٍ يجرد إيمان الإنسان من إنسانيته، وإيمان حوّله لاهوت السلطة  إلى أيديولوجيا، ومن ثَمَّ إلى حرب مفتوحة على العقل.

س: إذا كان هذا هو حال السجال الفكري في الغرب فما هو برأيكم حال الفكر العربي الإسلامي وهو ينظر الى الآخر؟

    ج: يبدو لي، وسط  ما اسميه “جيولوجيا العنف” التي يعيشها عالمنا العربي – الإسلامي اليوم، إننا أمام ضربٍ من التآكل الذاتي. وبسبب من ذلك بدا الفكر العربي المعاصر مضطراً الى استئناف ما دأب عليه منذ أكثر من قرن مضى في ما يتعلق بأسئلة النهضة والتناظر مع الغرب فكرياً ومعرفياً. ولكن للإنصاف لا بد من الاعتراف بالمجهودات الوازنة التي بذلها مفكرون عرب ومسلمون من أجل تظهير علم معاصر يُعنى بمعرفة الغرب، ويكون نظيراً مقتدراً تلقاء علم الاستشراق وثقافته. واقع الحال اليوم بالنسبة لحركة الفكر في بلادنا هو في الغالب الأعمّ سليل الماضي المستمر. فما هو بائنٌ في المشهد، يفيد بأنّ ثمة بيئات مترامية الأطراف من نخب العالمين العربي والاسلامي، لم تفارق مباغتات الحداثة في صعيديها المعرفي والتقني. وتلك حالة سارية لا تزال تُعرِبُ عن نفسها بوجوهٍ شتى:

  ـ وجهٍ يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو نقد.

  ـ ووجهٍ يتبدَّى على صورة معارضات انفعالية لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي إلى محابسها الايديولوجية.

  ـ وثالثٍ يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات جادة، ثم لا يلبث ان يظهر لنا بعد زمن، قصور هذه المحاولات، وعدم قدرتها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها أجيال الأمة لحل مشكلاتها الحضارية.

   س: يبدو أنكم في وارد السعي لبلورة مناهج ومفاهيم جديدة تفتح باب الاستقلال عن الغرب، هل أوضحتم لنا مسعاكم هذا؟…

    ج: أحد أوجه مسارات التفكير التي نأخذ بها لإنجاز مهمة الاستقلال الفكري، وهي مهمة شاقة وتحتاج الى الكثير من التدبر والصبر، هو مراجعة فهمنا للغرب وإعادة قراءته من خلال التعرُّف على مناهجه وأبنيته الفكرية والثقافية والأيديولوجية، وقراءتها بروح نقدية عارفة. وعلى نحوٍ موازٍ، ترمي الى الإضاءة على التحولات المعرفية الجارية على نطاقٍ عالمي، وفي العالمين العربي والإسلامي بنوع خاص. وعليه يمكن تلخيص الغاية الاجمالية لمسعانا من خلال العناية بأربع ضرورات:

     أولاً: ضرورة تاريخية، أوجبتها التحولات الحضارية التي حدثت في مستهل القرن الحادي والعشرين. حيث بدا بوضوح لا يقبل الريب، أن حضور الإسلام عقيدة وثقافة وقيماً أخلاقية لم يعد في نهايات القرن المنصرم مجرد حالة افتراضية، وانما هو حضور له فاعلية استثنائية في رسم الاتجاهات الاساسية لراهن الحضارة الانسانية ومستقبلها.

     ثانياً: ضرورة توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد العربية والاسلامية ويجعل نُخبها ومثقفيها ومكوّناتها الإجتماعية، أشبه بمستوطنات مغلقة. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، تنحدر هموم الأمة الى المراتب الدنيا من اهتماماتها.

    ثالثاً: ضرورة تنظيرية، وتتأتى من الحاجة الى استيلاد مفاهيم ونظريات ومعارف من شأنها تحفيز منتديات التفكير، وتنمية حركة النقاش والسجال والنقد.. والى ذلك كذلك، الحاجة الى تسييل حركة الفكر العالمي من خلال التعريب والترجمة والنقد، وعلى نحو يسهم في تفعيل مشتغلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وإقامتها على نصاب الحيوية والجِدَّة.

   رابعاً: ضرورة‌ معرفيّة، وتنطلق من أهمية وجود رابط معرفي يؤسس لمنطقة جاذبية تتداول فيها نخب المجتمعات الغربية والاسلامية الأفكار والمعارف، وتمتد عبرها خطوط التواصل والتعرف في ما بينها.

    إن ما يستحثنا على تفعيل مثل هذه المقاربة هو وجوب تفكيك اللَّبس الذي تراكم في الوعي العربي الإسلامي على امتداد أجيال من المتاخمة والاحتدام مع مواريث الحداثة الغربية بوجهيها المعرفي والكولونيالي. في سياق هذه المهمة يحدونا الأمل إلى بلورة نظرية معرفة ترسي قواعد فهم جديدة للأسس والتصورات التي يقوم عليها العقل الغربي، وهو الأمر الذي يفتح باب الإجابة على التساؤل عما لو تيسَّر لنا ان نكوِّن فهماً صائباً عن غربٍ انتج شتى انواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف العنف والغزو والحروب المستدامة.

س: أين النخب العربية والإسلامية من كل هذا السجال الجاري الآن في الغرب ما الذي عليها ان تفعله لترسم خارطة الطريق الى المستقبل؟

  ج: الى ذلك، فإن من أهم العناصر الدافعة الى التنظير والمراجعة، هو جلاء حقيقة ان لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي يريده لها العقل الغربي نفسه. بيان ذلك أن هذا الأخير، يجد لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، أو أن يمتثل إلى معارفه المستحدثة. هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». فما نعنيه بهذا النوع من الاستغراب، هو ناتج تفاعل مركّب بين دهشة العربي المسلم بحداثة الغرب ومنجزاتها من جهة، وطريقة تعامله معها من جهة أخرى. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا هذا «المستغرِب» في حالة استلاب وتبعية لمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها. اما حاصل الأمر، فكان أدنى الى استيطان معرفي لا يفتأ يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو الاذعان والتسليم. ولسنا نغالي لو قلنا أن الاستغراب السلبي الذي نقصده لوصف احوال شطر وازن من مثقفي العالم الاسلامي، هو فكر انتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.

آفاق- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate