حداثة و ديمقراطية

متلازمة ستوكهولم: الشعب و السلطة

مما يسترعي النظر الجمود السياسي الذي يكتنف البلد تمايزًا عن البلدان العربية نسبةً وتناسبًا أثناء الربيع العربي، أيُعزى ذلك إلى النفوذ الاقتصادي عالميًّا، أو القبضة الحديدية المحكَّمة، أو مؤازرة السلطة الدينية وتشريعها، أو هيكلة الجهاز الملكي المسيطر على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، أو… إلخ؟ كلّ هذه العلل مشروعة، بيد أنّنا سنسلط إصبع المقال إلى عى سيكولوجية غير مدعين تحريرها بل في محاولة لتوجيه الوعي إلى حقلها، ألا وهي ستوكهولم* الشعب إزاء السلطة. فالراصد تستوقفه نسبة غير قليلة من الشعب تسبِّح بحمد الحكومة مطلقًا، وترى أنها الأب الروحي الحنون، والدولة الأوحد التي تطبق الشريعة –كما تتوهم- في هذا العالم، وطائر الأمن والأمان الذي يرفرف في جنبات هذا الوطن المبارك.ا
ويُعزى تغلغل هذا التوهيم المضلل في البنية المجتمعية إلى زُمرة من العوامل والتراكمات العميقة المسيّسة، لسنا في صدد تحليلها الآن، لعلّنا نفرد لها حديثًا آخر.ا
ما يعنينا أنّ هذه الحالة النفسية باتت عاملًا مساعدًا إلى التمادي في سد القنوات والأفواه لأيّ بصيص معارضة أو مطالبة بإصلاح ما أفسده المسؤول، وكبت لأيّة مشاركة سياسية مع استملاك السلطات، وقمع لحريات الرأي والفكر والثقافة، وهدر الإنسان وسحقه الوجودي، كل ذلك يتم بالاستعانة بمعاول عدة على رأسها المداد الشعبي وقَبوله لهذا الاستبداد إلى حد ما، ولعل ذلك مستفحل في الفئات العمرية المتقدمة التي اعتادت على القمع وفقدان الحريات وبخس الحقوق لدرجة استمرائه مع الزمن؛ إذ نبتت بينها وبين ذلك أًلفةٌ وعِشرةٌ تقودها إلى المدافعة عن حمى هذا القمع، والتغاضي عن كل مظاهر الفساد، وهكذا يذوب المختلفُ في المؤتلفِ وتسيطر سمة الخضوع، وتنتقل العدوى النفسية من جيل الآباء إلى جيل الأبناء.ا
يقرّر اتين لابويسيه في مقاله عن العبودية المختارة: “الشعوب إذن هى التي تترك القيود تكبلها، أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها، ما دام خلاصها مرهونًا بالكف عن خدمته، الشعب هو الذى يقهر نفسه بنفسه.. هو الذي ملك الخيار بين الرق والعتق؛ فترك الخلاص وأخذ الغل”.ا

ما أودّ قوله، إنه لا قوة تسحق الوعي الشعبي إذا ما تكالب واتحد على رفض كل ظلم وظلام وإقصاء، فيولد حينئذٍ حراكًا لا يتسلم رايته أشخاص مضحون فقط، مع غياب المساندة الشعبية “الكافية”، بل علاوة على ذلك تتجلى الزمرة الستوكهولمية غير القليلة لقذف حجارة الاتهامات التعسفية، والتطبيل العالي لممارسات السلطة القمعية؛ إذ طالما ثمة تمييع شعبي مُلاحظ وتجاهل لما يؤكده روسو في عقده: “إن الشعب الحر يمتثل ولا يخدم، له رؤوساء لا أسياد، يمتثل للقوانين فقط، وعلى أساس تلك القوانين لا يصير أبدًا خادمًا لأحد”؛ فستستمرّ السلطة في تفريغ سمعها عن كل مطالبة حقوقية، وتعدها آراء فرادى قادرة على اعتقالها ومصادرتها.ا

 لن يحدث إصلاح حقيقي ما لم يتماثل الشعب من هذا الداء، وينفطم عن أبوة الدولة وهيمنتها، التي تخوِّل لأيّة ممارسة لا قانونية طالما أنت ومالك لأبيك.ا
هذا، وإن الإصلاح رواية أمل تمرّ أحداثُها ببطء، مثل “نقاط عسل من ملعقة خشبية”، زادُها الإيمان المطلق، وصناعة طويلة النفس، ممارستك دور(الكومپارس) فيها  ليس من الحكمة في شيء، بل من ردم الظلام على جثة مستقبل الأجيال القادمة، والانعزال ليس سلامة بل وبالًا وتخليًا ودعوة إلى نحر الأمل. فالحرية حق مستطاب، لك أن تناضل من أجل وطن فسيح لا يضيق بأهله تشارك في سيادته، مبنيًا على أسس تكفل لكل المواطنين الحرية والأمن، ويحقق متطلبات العدالة وطبيعة الاختلاف، أن تكون فيه إنسانًا كاملًا لا ملفًا ولا رقمًا.ا
أن تكون العلاقة بين الشعب والسلطة علاقة صحية تقوم على مساءلة المسؤولين فلا يستقيم أن نسمّيه مسؤولًا ما لم يقبل المساءلة، علاقة لا تضللها ستوكهولمية ولا عدائية.
ــــــــــــــــــــــــ
*متلازمة ستوكهولم: هو مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء له.

لأمل الأحمدي.

دنيا الوطن – موقع حزب الحداثة و الديمقراطية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate