المرأة هي الأنسب للحياة في العصر الرقمي
تعود مفردة السايبورغ “Cyborg” “الكائن الحي السيبراني” في الأصل إلى عام 1960. ووفقا للباحثة والناقدة المتخصصة في التكنولوجيا الحياتية أماني أبورحمة، وضعها المهندسان مانفريد كلاينز وناثان كلاين اللذان يعملان لصالح الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء “ناسا NASA”. وتتعلق رؤيتهما عن السايبورغ بهجين من الآلة والبشر يقوم بتعديل البشر من أجل الفضاء، بدلًا من إنشاء بيئات صديقة للإنسان خارج كوكب الأرض. لذلك، يعد السايبورغ آلية تحررية من البيئات البشرية من خلال “نظام الإنسان/ الآلة ذاتي التنظيم”. ونظرًا لكونه أكثر مرونة من الكائنات البشرية وحدها، تم دمج نظام “الإنسان والآلة” القائم على الأجهزة في بدلة فضاء تؤدي إلى تغيير وظائف الجسم المختلفة. لذلك، تعتبر رؤية كلاينز وكلاين عن السايبورغ بمثابة حلم “الرجل الفائق” بـ “تطور ما بعد بايولوجي”، يدمج استكشاف الفضاء مع الطب، والغرسات الإليكترونية، والتعديل الوراثي، والمعلوماتية لخلق اعتماد بشري كلي، وليس متبادلا، على الآلات”.
وقدمت أبورحمة في كتابها “دونا هاواواي.. نسوية السايبورغ.. مقاربة في بيان السايبورغ والمعرفة من موقع” الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر دراسة تحليلية موسعة قبيل ترجمتها لبيان دونا هاواواي المعنون بـ “بيان السايبورغ العلم والتكنولوجيا والنسوية الاشتراكية في أواخر القرن العشرين” و”المعرفة من موقع”. وأوضحت أن الكتاب يشكل محاولة للتعريف ببيان السايبورغ وأعمال هاراوي من خلال تأسيس قاعدة معرفية تساعد على فهم البيان. وقد وضعت في جزئه الأول مادة علمية تعرف وتشرح مصطلحات وسياقات وردت في البيان بصورة عابرة أو كانت جزءًا محوريا منه وسببا أساسيا دفع هاراوي لكتابته.
وأشارت إلى أنها وجدت أن “المعرفة من موقع” قد تكون إبستمولوجيا السايبورغ الذي قررت هاراوي أن يكون أنطولوجيا الألفية الثالثة. ولذلك جمعت بين الأنطولوجيا والإبستمولوجيا في الجزء التعريفي والتفسيري ثم أرفقت ترجمة البيان ومبحث “المعرفة من موقع”. وقد حرصت على توظيف قصص وأفلام الخيال العلمي التي أدرجتها هاراوي والتي لم تدرجها لتوضيح بعض الأفكار، كما وضعت في الهوامش دلالات معرفية ومرجعيات أُخرى. وهكذا، فقد اشتملت المقدمة المعرفية على تعريف للنسوية وتياراتها ذات العلاقة المباشرة بالبيان، وللتفكيكية على اعتبار أن السايبورغ و”المعرفة من موقع” نموذجان تفكيكيان هائلان، كما اشتملت على تعريف للأودبة وضد الأودبة، ومنهجية المضطهدين، والهويات المتقاطعة، والوعي المعارض والوعي التفاضلي ونسوية العالم الثالث والفضاء السايبري والواقع الفائق والتطبيقات المعاصرة للسايبورغ في مجالات مختلفة وتطوره في عصر تكنولوجيا النانو وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من الموضوعات. فضلا عن تعريف بأهم النسويات اللواتي اشتبكت معهن هاراوي في بيانها.
وأوضحت أبو رحمة أن النسويات المنظرات في مجال الإنترنت ترى أن التقنيات الرقمية تطمس الحدود بين البشر والآلات، وبين الذكور والإناث، وتمكِّن المستخدمين من اختيار هويات بديلة وافتراضية. تميزت التكنولوجيا الصناعية بشخصية بطريركية، ولكن التقنيات الرقمية، القائمة على الدماغ بدلا من العضلات، وعلى الشبكات بدلا من التسلسل الهرمي، تبشر بعلاقة جديدة بين النساء والآلات. وبالنسبة للنسويات، فإن الإنترنت والفضاء السايبيري يعد ميديا أنثوية توفر الأساس التكنولوجي لشكل جديد من المجتمع يحمل إمكانية تحرر للنساء. وفقا لهذا الرأي، فإن المرأة، وليس الرجل، هي المناسبة بشكل فريد للحياة في العصر الرقمي.
وأضافت أن أفضل الأدبيات ما بعد النسوية التي تلخص هذا التفاؤل هو مجاز السايبورغ الذي وضعته هاراوي في بيانها الذي نقل فكرة أن التكنولوجيا هي جزء منا جميعا. ولأنه جانب من هويتنا، وجانب من تجسيدنا، فإن تصور أنفسنا كسايبورغات يوفر أداة لتحويل التكنولوجيا للعلاقات الجندرية. تلاحظ هاراوي قوة العلوم والتكنولوجيا الهائلة في إنشاء معان جديدة وكيانات جديدة وعوالم جديدة. تكشف هاراوي بشكل إيجابي عن صعوبة التنبؤ بما ستكون عليه تأثيرات التكنولوجيا وتحذر من أي رفض خالص لـ “غير الطبيعي”، والهجين، والكيانات التي تنتجها التكنولوجيا الحيوية. الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الإنجابية وظهور الواقع الافتراضي كلها تعتبر تحديا أساسيا للمفاهيم التقليدية عن الهوية الجندرية. وعلى هذا النحو، فإنها تشكل تحولا في العلاقة بين النساء والتكنولوجيا. تستحث التطورات في التقنيات الرقمية التأمل والتفكير الراديكالي في عمليات الابتكار التكنولوجي وتأثيرها على ثقافة وممارسات الحياة اليومية.
وأكد أبورحمة أن عمل هاراوي الرائد فتح إمكانيات جديدة أمام التحليلات النسوية لاستكشاف الطرق التي ترتبط بها حياة المرأة ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا. وفي التطلع إلى ما يمكن أن تتيحه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتكنولوجيات الحيوية، حيث تضع هاراوي أُسس خيال نسوي جديد مختلف عن “الواقع المادي” للنظام التكنولوجي القائم. فالمؤكد اليوم هو أن النساء قد شاركن بنشاط في بناء هويات هجينة متجاوزة للجندر من خلال استهلاكهن اليومي لوسائل الإعلام الجديدة. ومع ذلك، فإن ميوعة الخطاب الجندري في العالم الافتراضي مقيدة بعلاقات الجندر الجسدي المعاش في العالم المادي. كما أنه ليس بالضرورة أن تكون العوالم الافتراضية على الإنترنت بيئات ثقافية مريحة للنساء ليعشن فيها.
ورأت دونا هاراوي الأستاذة الفخرية في تاريخ الوعي في جامعة كاليفورنيا أن مقالها بيان السايبورغ هو “محاولة لبناء أسطورة سياسية ساخرة وفية للنسوية والاشتراكية والمادية. ربما أكثر ايمانا، لأن الكفر وفي، من العبادة والتماهي. يبدو أن الكفر يتطلب دائمًا أخذ الأشياء على محمل الجد. أنا لا أعرف أي موقف أفضل لاعتماده من داخل التقاليد العلمانية – الدينية، والإنجيلية لسياسة الولايات المتحدة، بما في ذلك سياسات الاشتراكية النسوية. يحمي الكفر المرء من الغالبية الأخلاقية من الداخل، بينما لا يزال مصرا على الحاجة إلى المجتمع. الكفر ليس ردة أو إلحادا. تدور المفارقة حول التناقضات التي لا تحل إلى كلية أكبر، حتى جدليًا، حول توتر الإمساك بالأشياء غير المتوافقة معا لأن كليهما أو كلها ضرورية وصحيحة. المفارقة هي عن الفكاهة واللعب الجاد. بل هي أيضا خطابا استراتيجيًا وطريقة سياسية، طريقه أود أن أرى المزيد منها مكرما ومحتفى به في النسوية الاشتراكية. وفي قلب إيماني المتناقض، في قلب كفري، صورة سايبورغ.
وأوضحت أن “السايبورغ هو كائن سايبرنيتيكي، هجين من الآلة والكائن الحي، مخلوق من الواقع الاجتماعي ومن الخيال أيضًا. فالواقع الاجتماعي هو العلاقات الاجتماعية المعاشة، وهياكلنا السياسية الأكثر أهمية، كما أنه خيال العالم المتغير. هيكلت الحركات النسوية الكونية الخبرة النسوية، فضلا عن أنها كشفت أو ربما اكتشفت هذا الكائن الجمعي العصيب. كانت هذه الخبرة مزيجًا من الحقيقة والخيال من ذلك النوع الأكثر سياسية وتحديدا. فالتحرر يتكئ على تركيب الوعي، وعلى الإدراك الخيالي للاضطهاد والقهر وعلى الإمكانية أيضا. والسايبورغ هو قضية تخييل وخبرة معاشة غيرت ما يعرف بالخبرة النسوية في نهايات القرن العشرين. إنه صراع موت أو حياة، ولكن الحدود بين الخيال العلمي والواقع الاجتماعي لا تعدو كونها وهما بصريا. يحفل الخيال العلمي بمخلوقات سايبورغية: آلة وحيوان في الوقت ذاته، تحتل عوالم طبيعية أو مركبة بحرفية اصطناعية ولكنها غامضة في كلتا الحالتين. ويحفل الطب الحديث بالسايبورغ، والمزاوجة بين الكائن الحي والآلة ـ حيث يُدرك كل منهما بوصفه أداة مرمزة ـ حميمية وذات سلطة لم تتولد قط في تاريخ النشاط الجنسي”.
وقالت هاراوي إن الجنس السايبورغي يستعيد النشاطات التناسلية للسرخس واللافقاريات “تلك الوقاية اللطيفة من المغايرة الجنسيىة”. فالتكاثر السايبورغي مفصول تماما عن التكاثر العضوي. ويبدو الإنتاج الحديث مثل حلم بالاستيطان السايبورغي، حلم يجعل كابوس تايلور يبدو أنشودة رعوية بالمقارنة. والحرب الحديثة لن تكون سوى عربدة سايبورغية يشفرها الاختصار C3I وهو الحروف الأولى من مصفوفة: الأوامر ـ السيطرة ـ الاتصالات ـ والاستخبارات، التي يختصرها بند الثمانية والأربعين بليون دولار من موازنة الدفاع الأمريكية لعام 1984. وهنا فإنني أناقش السايبورغ بوصفه خيالا يضع خريطة واقعنا الاجتماعي والجسدي، وبوصفه موردا خياليا، فإنه قد يقترح بعض الاقترانات المثمرة جدا.
واعتبرت أن السايبورغ يمثل أيضا الصورة المكثفة عن التخيل والعالم المادي معا. فالمركزان المتحدان يهيكلان أية احتمالية للتحول التاريخي. وفي تقاليد العلم والسياسات الغربيةـ تقاليد الرأسمالية العريقة الذكورية المهيمنة؛ تقاليد التقدم; تقاليد استغلال الطبيعة بوصفها موردا لإنتاج الثقافات؛ وتقاليد إنتاج الذات من انعكاسية الآخر ـ فإن العلاقة بين الكائن الحي والآلة كانت حربا على الحدود. أما أوتاد هذه الحرب فقد كانت تخوم الإنتاج وإعادة الإنتاج والتخييل. ويهدف هذا الفصل إلى إظهار الابتهاج بتداخل الحدود وتحمل المسئولية عن هيكلتها وتركيبها. وهو أيضا محاولة للمساهمة في الثقافة النسوية الاجتماعية والنظرية في الصيغة اللا طبيعية ما بعد الحداثية. وفي التقاليد اليوتوبية التي تتخيل العالم دون تمييز على أساس الجندر، بمعنى أنه ربما يكون عالما بدون أصل أو نشوء، ولكنه أيضا عالم بلا نهاية. فتجسيد السايبورغ هو خارج تاريخ الخلاص من الخطيئة. كما أنه لا يحدد زمنا على التقويم الأوديبي، محاولا أن يرأب الصدوع المروعة بين الجندر في الرؤية النبوئية ما بعد الأُوديبية أو في اليوتوبيا التكافلية الشفاهية. وكما تقول زوي سوفويولس Zoe Sofoulis في مخطوطة غير منشورة عن لاكان، وميلين كلاين، والثقافة النووية، ولاكلاين “Lacklein”، إن الوحوش الأكثر رعبا والتي ينتظرها مستقبل مرموق في عوالم السايبورغ تتجسد في السرديات غير الأُوديبية التي تحوي منطقا مختلفا من القهر والاضطهاد والتي نحتاج إلى فهمها وإدراكها من أجل البقاء.
وتابعت هاراوي “السايبورغ مخلوق في عالم ما بعد الجندر، ولا علاقة له بالازدواجية الجنسية أو التعايش ما قبل الأوديبي، إنه يد عاملة لا تشعر بالاغتراب، ولا علاقة له أيضًا بالإغراءات الأخرى التي تحفز على الكمال العضوي من خلال الاعتماد النهائي على كل قوى الأجزاء لصالح وحدة أعلى. وبمعنى آخر، فإن السايبورغ لا يمتلك قصة نشأة في الإدراك الغربي ـ الأمر الذي قد يعد مفارقة حاسمة لأن السايبورغ هو أيضا نهاية رؤيوية مروعة للهيمنات المتصاعدة في “الغرب”، وللفردية المجردة، وللذات النهائية المتحررة من كل التبعيات، وللإنسان في الفضاء.
ورأت إن السايبورغ يعين بوضوح الاستطلاعات التكنولوجية التي تعتمد جزئيًا على الثورة في العلاقات الاجتماعية عند عتبة الأسرة oikos. يعيد السايبورغ صياغة العلاقة بين الطبيعة والثقافة، فلن تكون إحداهما بعد اليوم موردا للتخصيص أو الدمج من قبل الأخرى. أما العلاقات التي تشكل الكل من الأجزاء، بما في ذلك الاستقطاب والهيمنة الهرمية، فإنها ستصبح موضع مساءلة في عالم السايبورغ. وخلافا لآمال وحش فرانك نشتاين، فإن السايبورغ لا يتوقع من الأب أن يحميه من خلال ترميم الحديقة، بمعنى، من خلال تلفيق رفيقة غيرية، ثم استكمالها في صورة كل مكتمل، هو المدينة والكون.
لا يحلم السايبورغ بمجتمع على غرار نموذج العائلة العضوية، وهذه المرة من دون المشروع الأُوديبي. ولن يتعرف السايبورغ على جنة عدن، كما أنه ليس مخلوقا من الصلصال المسنون ولا يمكن أن يحلم بالعودة إلى التراب. ولهذا تحديدا فإنني أرغب في معرفة ما إذا كان بإمكان السايبورغ أن يفسد نهاية العالم الرؤيوية التي تتضمن العودة إلى التراب النووي في هوس قهري جنوني لتسمية العدو. والسايبورغات ليست موقرة أيضا لأنها لا تتذكر الكون ولا ترغب في إعادة الانتماء إليه. إنها تشعر بالقلق من الكلانية الشمولية ولكنها تحتاج للاتصال والتواصل إذ يبدو أن لديها ميلا طبيعيا لجبهة سياسية موحدة، ولكن دون حزب طليعي. والمشكلة الرئيسية مع السايبورغات هي أنها وليدة غير شرعية للنزعة العسكرية والرأسمالية الأبوية، ناهيك عن الاشتراكية الدولية. ولكن الذرية غير الشرعية غالبا ما تكون غير مخلصة جدا لأصولها. ذلك أن آباءهم، بعد كل شيء، غير أساسيين. ففي أواخر القرن العشرين وفي الثقافة العلمية الأميركية، حدث صدع كبير في الحدود بين الإنسان والحيوان. وتلوثت معاقل التمايز بينهما، بل ويمكننا القول إنها قد تحولت إلى منتزهات ومدن ملاهٍ – توظيف أداة اللغة، والسلوك الاجتماعي، والأحداث العقلية، لا شيء على الإطلاق يؤيد الفصل بين الإنسان والحيوان بصورة مقنعة.
middle-east-online- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية