حداثة و ديمقراطية

الديمقراطية والاحتجاجات السياسية.

كتاب “مبدأ الديموقراطية.. دراسة حول الأشكال الجديدة للشأن السياسي”، تأليف ألبرت أوجيان، ساندرا لوجييه، وقامت بالترجمة يسرا عمر الفاروق.

يبدأ الكتاب بتحليل السنوات القليلة التي مرت، ودخل العالم خلالها في حلقة من الفوران السياسي، تجمعات واحتلال الميادين، واحتجاجات ضد السلطات، واحتشادات عابرة للقوميات، وعصيان مدني، وتمرد مدني، وتكوين لأحزاب جديدة. تعبّر هذه الحركات بالتأكيد عن حالة من الإستياء، والشعور بالظلم والسخط واليأس، لكنها تعكس أيضاً عزيمة المواطنين، ورغبتهم في تنظيم أوضاعهم كي يتمكنوا، من التحكم مباشرة فيما يقوم به حاكمهم.

إنطلقت هذه الموجة العالمية من تحدي السلطة في كانون الثاني/ يناير 2011 من تونس قبل أن تنتقل  إلى لقاهرة وتنجح في الوصول إلى: مدريد، أثينا، نيويورك، لندن، موسكو، كيبيك، صنعاء.

فى كتابهما السابق “لماذا التمرد فى إطار الديمقراطية؟”، قام الكاتبان بتحليل ازدياد أعمال العصيان المدني فى إطار النظم الديمقراطية. وفي هذا الإسهام الجديد، يقوم المؤلفان بالبحث والتقصي – من خلال وجهة نظر سوسيولوجية وفلسفية على حد سواء – حول ذلك التوسع في نطاق العصيان بتحليل حركات الاحتجاج الجديدة، الانتقاضات ضد الديكتاتوريات، والاحتشادات العالمية المطالبة “بالديمقراطية الحقيقية”.

يعتمد الكتاب بشكل كبير على المعطيات المستخلصة من التفسيرات التي ظهرت بشأن حركات الاحتشاد في الشوارع والميادين منذ عام 2011. وتتحيز الدراسة للفكرة القائلة بأن الإبداع السياسي لا يعرف الحدود التي تضعها الدول أو العادات أو الثقافات.

يبدأ المؤلفان كتابهما باعتبار أن كتابة التاريخ تتم عادة عبر تواريج قادرة على تحويل بعض الأحداث لتصدعات كبرى في سياق شؤون بعض الدول. ولا شك أن العام 2011 يمثل أحد هذه التواريخ الفارقة، لكن في سياق أي تاريخ يمكننا تسكينه؟ هل هو “التاريخ الكوني للديمقراطية” مثل أحداث عام 1968 وما شهده ذلك العام من موجة انتفاضات واحتجاجات ضد النظام القائم  في العالم الغربي، أو أحداث 1989 حيث تظاهرات ساحة تيانانمن في بكين وسقوط حائط برلين؟

إن ما حدث في عام 2011 يستحق أن نعرضه في إطار تسلسل تاريخي أوسع نطاقاً من ذلك الذي يختزله في أحداث “الربيع العربي” و”احتلوا وول ستربت”. في واقع الأمر بدأ كل شيء مع سقوط زين العابدين بن علي في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011، يليه سقوط حسني مبارك في الحادي عشر من شباط / فبراير. هذان السقوطان المتتابعان بعثا الحياة فجأة في فكرة كنا نظن أنها انتهت حتماً، وهي أن يجتمع شعب بمبادرة خاصة منه لتأكيد سيادته المطلقة، ويتمكن من استعادة مصيره بين يديه، وطرد قادته المستبدين الفاسدين من دون ارتكاب اعمال عنف مباشرة ومنظمة.

وحسب المؤلفين استطاع مشهد الجموع التونسية والمصرية أن يعيد بشكل مفاجئ إحياء الإيمان بقدرة الشعب الذي يقوم ويقول “لا” على تغيير واقع الأشياء ومجرى التاريخ في إطار النظم الاستبدادية والديمقراطية.

لقد جدد هذا الاتجاه لاحتشاد والاعتصام في الميادين شكلاً من أشكال الفعل السياسي تم اختباره من قبل، سواء من خلال إعتصامات ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة أو في الاعتصام بساحة تيانانمن عام 1989، كوسيلة لإفساح المجال لحياة جماعية تمكن عن التعبير الحر عن رأي المواطنيين العاديين والتأسيس للمطالبة بالديمقراطية.

ما حدث في شوارع وميادين تونس ومصر تم اتخاذه علناً كنموذج في البلاد الديمقراطية من مدريد إلى نيويورك لخلق فضاءات مفتوحة ومستقلة يمكن لكل شخص من خلالها أن يعلن احتقاره للحكام، وأن يحوّل شكواه لشكوى عامة، وأن يصوغ مقتضيات سياسية ويختبر أساليب جديدة للعيش والنقاش.

لقد أعطت روح التمرد في حركة العصيان المدني في تونس ومصر مثالاً سرعان ما انتشر. فمنذ العشرين من شباط / فبراير 2011، انطلقت من الصين دعوة للتظاهر لمساندة شعب تونس، ما أثار مخاوف لدى السلطات الصينية التي سارعت بدورها على الفور بوقف سيل الاتصالات عبر شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت، والشروع في اعتقالات احترازية.

وفي أوروبا، بدأت الحركات الإحتجاجية للمواطنيين العاديين بعد عشرة أيام من سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ففي الثالث والعشرين من كانون الثاني / يناير في بلجيكا، وبطريق مباغتة استجاب ما يقرب من 40 ألف شخص لدعوة عبر موقع فيسبوك، أطلقها بعض الطلبة الذين اقترحوا الخروج في مسيرة إلى بروكسل للسخرية والتنديد بعجز الأحزاب السياسية التي لم تتوصل منذ ما يقرب من عام لتكوين حكومة.

وبطريقة مفاجئة أيضاً نزل أكثر من 200 ألف شخص لشوارع إلى شبونة في الثاني من آذار / مارس 2011 على أثر دعوة أتت عبر إحدى شبكات التواصل الاجتماعي.

ولدوافع مماثلة اجتمع أكثر من 500 ألف شخص في مدريد. وبعد عشرة أيام انتقل خيار الاعتصام إلى اليونان حيث تم نصب مخيم في أحد الميادين في مواجهة مبنى البرلمان، تبعه خروج ما يقرب من 200 ألف شخص في تظاهرة في 15 حزيران/ يونيو 2011.

وفي السابع عشر من سبتمبر من العام ذاته، شهدت إحدى ميادين نيويورك ما يشبه المخيم، على أثر دعوة أطلقتها مجموعة صغيرة من النشطاء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهي حركة “احتلوا وول ستريت”. وسرعان ما توالدت الاحتشادات والتجمعات في الميادين بعد ذلك في كل مكان في العالم المتقدم: لندن، فرانكفوت، جنيف، وطوكيو.

نجحت الحركة في الاتساع على النطاق العالمي: فقد تضاعفت مواقع الانترنت التي تسجّل انتشار الاحتشادات، وساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في سرعة تداول المعلومات ودعوات المجتمع.

أما وسائل الإعلام التقليدية (والتي تم اجتذابها من قبل المحتشدين فقد اكتسبت يقدر كبير أو صغير من التعاطف) صدى قومياً ودولياً. حتى أن ظاهرة “احتلوا” أثارت الدعوة لتظاهرة عالمية تحت مسمى “الثورة العالمية”.

في الخامس عشر من تشرين الأول / أكتوبر 2011، أعلنت مجموعات من النشطاء والمتعاطفين يحيون في أكثر من 900 مدينة في داخل ما يقارب 90 دولة، مشاركتها عبر الموقع الذي يسجّل لحظة بلحظة أعداد قوى الاحتجاج. وصارت الجموع التي نزلت إلى الشارع في اليوم المعلن عنه ذات أهمية متفاوتة، وفي اليوم الذي تلاه هبطت حماسة هذه التعبئة الدولية.

تدخل التحولات التي تنشأ عن حركات الاحتجاج السياسي المتجاوزة للمؤسسية – إلا عند تحولها للعصيان المدني – في المسار الطويل للتغيير الاجتماعي. فمن يستطيع اليوم الجزم بأن إنتفاضة أيار / مايو 1968 في فرنسا لم يكن لها أي تأثير بحجة أن الثورة التي دعا لها القائمون عليها لم تحدث شيئاً، أو أن إعتصام ساحة تيانانمن رغم أنه تم قمعه بعنف، لم يسرع بتطبيق سياسة الإنفتاح الإقتصادي في الصين وهو الأمر الذي نشهده اليوم؟

فبعد تحرك الحشود المتضامنة في الصين مع الثورة التونسية عام 2011 وأمام تصاعد الاحتجاجات ضد الحكومة الصينية – كما أفادت وكالات الانباء يومها – تعهد رئيس الوزراء الصيني اَنذاك ون جيا باو بإجراء تغيرات في السياسة.

ولافت هنا أن رئيس الوزراء الصيني اَنذاك قد أجاب على أسئلة عبر الانترنت عبر موقعين حكوميين واعداً بضمان توزيع دخل أكثر عدلاً.

يعتبر المؤلفان في دراستهما أن الديمقراطية من حيث المبدأ هي حالة يجب الاعتراف بأنها خلقت لتكون غير قابلة أبداً للوصول إليها، أو فكرة من ضمن خصائصها ألا تفي ابداً بكل وعودها. تلك الحالة الدائمة من عدم الرضا هي سمة خاصة بتلك النظرة الناشدة للكمال. فمعايير الرضا يتم اكتشافها عملياً عند معرفة “ما يهم” الأفراد الذين يشاركون في حل مشكلة ملموسة مشتركة بينهم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate