اصلاح ديني

الصراعات الدينية.

(إن الحرية الدينية تكاد لا تمارس إلا حيث توجد اللامبالاة الدينية التي تنبذ ازعاج سلامها بالمنازعات اللاهوتية) جون ستوارت ميل

يُعتبر عيسى (المسيح) ومحمد من أبرز الشخصيات الدينية التي كان لها تأثير طاغي على الوعي الجمعي والفكر التاريخي الحديث. ونظرا لتباعد التواجد الزمني بينهما ـ بأقدمية المسيح ـ فإن تأثير عيسى تجاوز تأثير محمد على مستوى العالم (ساعدت كذلك في هذا الأمر رحلات التبشير الأوروبية). ورغم غلبة المسيحية بالتوسع، فإن انتشار (كلا) أفكارهما كدين/عقيدة أو حتى كفلسفة لقيا قبولا واسعا من الكثيرين، باعتبار أنهما رسالتان من السماء.

ونجد الأنبياء بالوعي الاجتماعي، يُنظَر لهم كإخوة لهم إيمان واحد لكنّهم يُعبّرون عنه بلغات/رؤى مختلفة. هذه النقطة كمفهوم، يعتمدها فقط أتباع الديانة اللاحقة (التي تؤكد رسالة الديانة التي قبلها وتعتبر نفسها مكمّلة لها)، غير أن الديانة السابقة تتبرأ من الديانة اللاحقة باعتبارها مجرد دجل. ففي الدين الإبراهيمي (الأكثر تأثيرا وانتشارا) نرى اليهودية لاتعترف بالمسيحية كديانة (التي تؤكد اليهودية وتكمّل رسالتها)، ونرى المسيحية كذلك غير معترفة بالإسلام (الذي يؤكدها كديانة ويكمّل من جهته كافة الرسالات السماوية كتصوّر بأنه آخر الأديان). غير أن الإسلام سيتخد موقف نفي لهذا الأمر، وهو عدم اعتراف المسيحية به كدين رسمي منزّل ومكمّل، ليبرهن على العكس في الآية 6 من سورة الصف : “وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ”.

غير أن للمسيح قولا آخر في الأمر، فنجده في إنجيل متى يحذّر أتباعه بالإصحاح 24 ويقول لهم : “11 وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ”. لكننا لاننفي أنه كان يتحدث عن المتقمصين لشخصيته بالمستقبل (المسيح الدجال)، غير أن في النص إشارة إلى أن نهاية العالم ستلحق المسيحية مباشرة كآخر ديانة، لأنه لم يتنبأ بمجيء أحد (كممثل للإله) ماعدى عودته (هو) كإشارة لفناء العالم. وبهذا يشدد على عدم تصديق أو اتّباع أي مسيح يظهر من بعده ـ والمسيح بنظر الديانة هو روح الرب وكلمته ـ ومنه فإن أي مسيح (كلمة الرب) سيظهر بعده فهو غير معترف به، كما نقرأ في تأكيده (نفس الإصحاح) : “انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. 5فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا ھُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.. 23 حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: ھُوَذَا الْمَسِيحُ ھُنَا! أَوْ: ھُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. 24 لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا”.

ومن المعلوم أن الأناجيل كُتبت بقرون بعد صلب المسيح، غير أن كُتّاب الأناجيل لم يكن ليهتموا أو يدركوا أن التاريخ سيستمر وسيظهر أنبياء ورسل آخرين (مُكمّلة لرسالته) ـ حتى يدرجوا هذا الأمر عمدا ! ـ فكل اهتمامهم كان منصبا على االدّجلة (المتقمصين لشخصية المسيح)، فالمسيحية (ربما) لم تكن لها رؤية ممتدة لذاك الحدّ ! ـ ظهور نبي يصدق برسالة يسوع ويكمّلها ـ .

يمكن أن نعتبر (على حد قول الكثيرين) أن الكثير من الأناجيل تمت مصادرتها وإتلاف بعضها، غير أن الديانة كمؤسسة تعتمد الأناجيل الرسمية، وبالتالي فإنها اعتمادا على كتبها المقدسة تنفي الديانة اللاحقة. كما تنفي اليهودية ديانة المسيح الذي تراه كدجال، فالمسيح بمفهومها شخصية يهودية من نسب يهودي إنساني (أم وأب) لم يأتي بعد وهو الذي سيردّ لليهودية اعتبارها ويبرز تفوقها الأديولوجي على باقي الأديان والفلسفات ـ بل إن كل ديانة ترى نفسها كذلك بإسكاتولوجيتها (سيناريو نهاية العالم الخاص بها) كمتفوقة ومنتصرة على ما عاداها ! ـ الرؤية السابقة يؤكدها الأبيونيون ebyonim (الفقراء باللغة العبرية) و هم طائفة مسيحية ملتزمة بالمحافظة على اليهودية، يعتبرون عيسى هو المسيح اليهودي المرسل من الله ليتمم كتابهم المقدس (العهد القديم). فيؤمنون بالمسيح كإنسان بشري (ولد من أمه مريم وأبيه يوسف) لكنهم يلتزمون بإقامة شريعة موسى والحفاظ على الطقوس اليهودية، بل حتى أن جماعة منهم قامت “بحملة شعواء على بولس وأنكروا رسوليته بسبب استماتته للحيلولة دون تهويد المسيحية أو احتوائها في إطار الشريعة الموسوية”(1) ! . وسواء تحدثنا عن اليهودية أو المسيحية فكلاهما ينفيان وجود ديانة لاحقة، إنما بشروا بالمسيا المنتظر (ظهور/عودة شخصية تابعة لنفس الديانة)، حتى أن اليهودية تعتبر الأبيونية طائفة “مهرطقة” لخلطها بين المسيح اليهودي وعيسى ! .

فإذا كان المسيح نفى نبوة محمد؟ فعن أي حوار بين الأديان نتحدث؟! والأسس التي بُنيَت عليها الديانات غير معترف بها ومرفوضة من بعضهم البعض (الأتباع/المنتمين) ! .

فالإسلام لايرى المسيح كإله مجسد في صورة بشري، والمسيحية لا ترى محمد مكمّلا لديانتها، ففي أي شيء سيتفقون ويتحارون ؟!! إن لم يكن الحوار إنسانيا حول الأمور المشتركة كمشاكل البيئة والفقر والعنف السياسي بين الشعوب ! عن ما يؤثر ويضر بمصالح البشر بغض النظر عن رؤاهم للسماء، بل في عيشهم المشترك بالأرض.

فلأجل التواصل أو خلق سبل الحوار (الفكري/ الثقافي)، يلزم ابعاد الاختلافات الدينية التي قد تزيد من حدة التوتر، والتركيز على القواسم الإنسانية المشتركة والهادفة لمصلحة “الإنسان”.

وبه فإننا نتحدث هنا عن “التعاون الإنساني” وليس عن “التسامح الديني”، هذا المصطلح الفضفاض الذي يبقي في ظلاله على التفرقة الاجتماعية / الانسانية، ويخفي استمرار غلبة / سلطة أيديولوجية الأغلبية على أيديولجية الأقلية. أي استمرار التعصب “الخفي” كعدم تسامح، الأمر الذي يكشف التسامح ك”إشكالية”.. نظرا لعجزه عن تجاوز الاختلاف العقائدي والفكري بالمجتمع، الأمر الذي لايتحقق إلا بالتعاون الإنساني (بعيدا عن الصراعات الدين/ مذهبية).

لحمودة إسماعيلي.

صحيفة المثقف -موقع حزب الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate