الإصلاح في زمن الإرهاب
عندي أن الإصلاح “فكرة”، تسيطر فيها القوى الروحيّة على المادة. والإرهاب واقع دامي مشهود، تسيطر فيه القوى المادية على مطالب الأرواح والعقول؛ فكيف يقوم الإصلاح في زمن التسلط والقهر والإذلال والإرهاب؟!
إنها لمفارقة عجيبة تدعو إلى الأسف والتأمل معاً؛ فأمّا الأسف؛ فعلى الأوضاع المتردية في العالم العربي، فاقت الحصر وألزمت الناظرين إليها روح التشاؤم والقنوط.
وأما التأمل؛ ففي هذا “الإصلاح” الذي نتحدَّث عنه، وكأننا لأول مرة نسمع عن “الكلمة” شيئاَ ذا دلالة، فلا كأننا كنا منذ زمن بعيد معنيين بآثار الإصلاح في الفكر والواقع، ولا كأن المنهج الذي ينبغي أن نسير عليه كان أمامنا واضحاً وضوح الشمس في ضحاها خلال حركة التنوير العربية التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873م) ومن خلال ما تلاه من رموز الفكر الإصلاحي امتداداً للقرن العشرين، هؤلاء الذين قدموا لأمتهم العربية أصوب الآراء وأدق القضايا وأشدّها خطراً على المستويين: الداخلي والخارجي.
فليس بالإمكان مطلقاً غَضّ النظر عنها ونحن نتكلم في الإصلاح ونتولّاه بالرعاية والاهتمام. وإذا أردنا أن نغض الطرف بعيداً عن آراء المفكرين والمصلحين وأهل الرأي ودعاة التهذيب وحاملي لواء التغيير في شتى مناحي الحياة: في الفكر، والثقافة، والاجتماع، والسياسة؛ فعلينا إذن أن نطلب من متخلفي الأمة ليقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير، وننحي جانباً أولئك العقلاء المفكرين؛ لأن أقوالهم – فيما تبدو لنا – ترفٌ عقلي أو نظر فكرى؛ إنْ هى إلا تزجية للفراغ العاطل.. أو هكذا يتصوّر الأدعياء. إننا إذا ذكرنا الإصلاح ذكرنا معه محاربة الفساد؛ فلا تقوم الفكرة فيه من أساسها ناهضة قوية والمجتمع من حولك يأكل بعضه بعضاً، والفساد يلاحق أفراده ومؤسساته تماماً كما يلاحق الضمائر الخربة والعقول التلفانة، ولكن لا بدّ مما ليس منه بدٌ: لا بدّ من إصلاح يـتأسس على القيم العاملة النافعة؛ ليربط مسائل الدنيا بمسائل المصير.
فمن أسف أننا حين نتحدث عن الإصلاح، نتحدث عنه ونحن في عزلة عن أولئك الذين خبروه واستوعبوا دلالاته وحفيت أقلامهم في الدعوة إليه؛ ليتم تطبيق خطواته في مجالات الحياة بالجملة فضلاً عن التفصيل. ولن يقوم الإصلاح قياماً ذاتياً من تلقاء نفسه، ولا هو ينغرس فيما فسد من أرض الواقع غرساً عشوائياً بغير دراسة واعية، ولكنه على كافة مستوياته (الدينية، والفكرية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحياتية على وجه الإجمال) يحتاج إلى مصلحين درسوا وتعبوا في البحث والدراسة والتخطيط المنظم حتى تمخضت أذهانهم عن وجوه الرأي المختلفة، وتشكلت لديهم رؤية فيما هم يقومون بمعرفته، فكانوا بذلك رموزاً في العمل الإصلاحي: محاوره ومجالاته. وماذا نقول فيما كان قدّمه جمال الدين الأفغاني (1839- 1897م)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م)، في الربط بين الفكر والسياسة، وفي مجال الإصلاح السياسي على وجه الخصوص. وهل نرى غضاضة إذا نحن أخذنا اليوم على عاتقنا معرفة مجمل الآراء الإصلاحية التي قدمها الشيخ محمد عبده (1849- 1905م)، أو قاسم أمين (1863-1908م)، أو محمد إقبال (1873 – 1938م)، أو الشيخ مصطفي عبد الرازق (1885- 1947م)، أو أحمد أمين (1886 – 1954م)، أو المفكر المصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس (1889 – 1940م)، أو الأستاذ المرحوم عباس محمود العقاد (1889 – 1964)، أو طه حسين (1889 – 1973م)، أو غيرهم من كبار المفكرين والمصلحين الذين يعلمون عن الإصلاح ومداخله الكثير والكثير ويدرؤون الفساد بالتفكير الدائم في قيم الثقافة والتعليم والحضارة والتقدم وممارسة الخُلق الرفيع؟!
فهؤلاء المصلحون هم في الواقع كانوا خيرة عقول الأمة، ولا زالت آراؤهم تنير لنا الطريق، فلا يطلب – مرة ثانية – من متخلفي الأمة أن يقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير؛ فعلى الفئة المفكرة العاقلة أن تشرّع، وعلينا نحن أن ننظر فيما شرّعوه؛ لنرى ما يوافقنا منه فتأخذه تنفيذاً مقبولاً غير ساخطين. إنّ العقول التي عشقت هذا التراب المصري والعربي لهى هى العقول التي عرفت معنى الولاء للضمير فارتفعت به؛ ليكون رمزاً علوياً للإنسان أنيَّ كان؛ فإذا أنصلح ضميره، انصلحت تباعاً جميع قواه التي تميزه عن سائر الكائنات الحيّة. ولك فيما لو شئت أن تجرد من الإنسان عقله، وفكره، وضميره، وأخلاقه، وقيمه، أو تجرِّده من قدراته الروحيّة والفكرية والثقافية والمعنوية على وجه العموم؛ ثم تنظر إليه فماذا تراه يكون غير كونه حيواناً أو أشبه بالحيوان؟
لقد حفيت أقلام مفكرينا الكبار من أجل وضوح الرؤية حول عملية الإصلاح، الخاصة بالفرد قبل المجتمع، وكُتِبِتْ كتابات مستفيضة حول هذا الهمِّ الأيديولوجي والتطبيقي على السواء، كانت فكرتها الأساسية تدور حول التغيير والتحديث والتطوير والتجديد، وجميعها اصطلاحات تلف لف تغيير العقلية العربية وتدور في فلكها، ثم نقلها من مراحل الجمود على القديم والانغلاق عليه، إلى مراحل المشاركة في الانجازات العالمية، بل كانت هناك كتب متخصصة كاملة تناولت فكرة الإصلاح بمستوياته المختلفة وأقسامه المتباينة وأولوياته، فيمن ساهموا بوضوح الرؤية فيه؛ مثلما كتب “أحمد أمين” كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”، ومثلما كتب الدكتور “زكي نجيب محمود” في “تحديث الثقافة العربية”، “وتجديد الفكر العربي”، وفيما كتبه “محمد إقبال” في “تجديد الفكر الديني”، وأستاذنا المرحوم الدكتور عاطف العراقي في “العقل والتنوير”، و”البحث عن المعقول في ثقافتنا العربية”؛ ناهيك عن فلاسفة المغرب في القديم والحديث والمعاصر، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في “نحن والتراث”؛ “ونقد العقل العربي” بأجزائه الثلاثة؛ “والتراث والحداثة”؛ وغير هذه وتلك من المصنفات التي كان كُتابها مجددين مستنيرين، يدعون إلى الأفكار الإصلاحية الكبرى، ويهدفون إلى الإصلاح بكافة مستوياته. فهل استفادت الجهات المسؤولة التي يعنيها الشعب جملة لا الفرد بصفة خاصة، بهذه الجهود المبدعة الخلاقة لإصلاح حال الأمة والتفتيش عن مقومات وحدتها، وصمودها أمام الحوادث العارضة والخطوب الواردة؟ وهل أعطت هذه الجهات المسؤولة في أمتنا العربية قاطبة مساحةً حرة في أجهزتها الإعلامية لتعزيز تلك الأفكار الإصلاحية والجهود المستنيرة، ودعمها، وتشجيع قيم الاستنارة فيها، ومحاولة تطبيق الفكرة فيها؛ كيما تصل طارقاً بتليد؟!
بادي الرأي عندي: أن الإجابة قطعاً بالنفي، فالعكس هو الصحيح. هناك بعض الدول العربية شجعت الفكر المتطرف، ونمّت روح التعصب، واقتدرت بنفوذها المادي على تمويل الأفكار الرجعية، وفتحت الساحة العربية للسقوط في المستنقع الآسن والحمأة الوبيئة: الإرهاب، والتسّلط، ومحاربة الأفكار الإنسانية العامة التقدمية؛ الأمر الذي ساعد على حل روابط التضامن والاتحاد والاعتصام من الفرقة: تفككت خلالها العروة الوثقى، وفقدنا مع شيوع الإرهاب الدموي هُويتنا الحضارية لأننا استعضنا التخلف عِوض التقدّم والتقليد للأفكار العفنة الممجوجة بديلاً للفكرة الراقية، نستمد أصولها من عقولنا المفكرة لا عقول غيرنا نقلدها ونغرق في التقليد المنبوذ سنوات وراء سنوات!
وهنا تقوم “المفارقة” التي وصفناها في مطلع هذه السطور بأنها عجيبة، فهل تقام للإصلاح قائمة في زمن الإرهاب والتسلط والقهر والإذلال؟!
الإصلاح يحتاج إلى أجواء رحبة من الحرية المسؤولة، ويتنفس هواءً نقياً في مؤسسات تعليمية حكيمة وعاقلة، منظمة ومنضبطة. الإصلاح تمليه ضرورة فكرية وروحيّة وعقلانية في المنهج والمسلك، تفرض التسامح مع الآخر المختلف بمقدار ما تفرض شيوع قيم المحبة والأخوة والوئام. وهذه الضرورة مفقودة أو تكاد؛ فكيف – والحال على ما ترى – يستقيم الإصلاح بغير القوة المهيأة لإعداد المنبت الصالح لغرس “الفكرة” في جو من التحرر عن العنف، وفلك قيود التسلط والإرهاب؟!
صحيح أننا لا زلنا نبكي على اللبن المسكوب: نبكي الهرج والمرج والفوضى والتخبط في أكثر دولنا العربية، ننعي الفُرقة والتمزق والتشتت والانقسام، نبكي التّخلف الذي يعتصر الأرواح عصراً في غير رحمة ليل نهار. ولكن مع هذا كله، علينا أن نتذكر هذا الشعار الذي يضمَّه مبدأنا: إنه إذا أرتفع صوت القذيفة تراجع صوت العقل، وإذا هاجت شهوة الانتقام خمدت إرادة الحياة وغارت استطاعة الإصلاح فيها، وإذا سادت لغة القتل والتخريب والاغتيالات الحمقاء تقلصت لغة الحكمة والمحبة والسلام.
على أن الأزمنة العسيرة في التاريخ البشري كله هى الأزمنة التي تجمع العجائب وغرائب المفارقات؛ فيُخَيَّل إليك أنك “تنفخ في قرب مخرومة” لا أنك تنادي العقول الحكيمة والضمائر الإنسانية المستقيمة، واليوم أعود إلى ما كنت كتبته منذ سنوات لكي ألاحظ تطور التهديد بالإرهاب واستخدام فكرة الإصلاح لتحقيق المأرب الاستعبادية، فقد كان شغل كافة المراقبين السياسيين في السنوات السابقة كيفية التعامل مع المشروع الأمريكي الصهيوني المفروض على الواقع العربي، والذي استهدف الإصلاح في الوطن العربي، فقبله مَنْ قبله ورفضه مَنْ رفضه، وخرجت علينا الصحف يومها بآراء تقول إنّ مشروع الشرق الأوسط الكبير مشروع فجائي طفر على السطح فيما يشبه القفزة غير المحسوبة، حتى عقدت حوله المؤتمرات، ولم تزل تعقد، وأخرها مؤتمر الإسكندرية المعقود في مارس 2004م، أسفر عن وثيقة بها أربع وستون توصية كان شارك في بحثها أكثر من 150 شخصية عربية.
وعندي أنه على الجملة هو “مشروع بلا شرعية” غايته الاستعمار والاستعباد، وتكبيل الحريات وانهيار قيم وحقوق الإنسان، وبخاصة الإنسان المسلم والمواطن العربي. ولئن كان تضمّن فروضاً ولوازم، غير أنه لم يطفو على السطح طفرة فجائية كانت خافية على أحد، ولكنه كان بالجملة محتمل الحدوث ومتوقع الأثر في ردود الفع،، وخصوصاً بعد الحرب الأمريكية على العراق منذ أن أطلقت في العالم شعارات مثل”النظام العالمي الجديد”، و”تغيير خريطة الشرق الأوسط” قبيل المفاوضات والمباحثات التي سبقت غزو العراق.
لقد أعلنت الإدارة الأمريكية يومها أن من أسباب الحرب على العراق كانت تلك الأسباب التي تتضمّن القضاء على الإرهاب ومحاربة فلولة في شتى بقاع الأرض؛ وإنه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (2001م)؛ أعلن الرئيس “بوش”، أن الولايات المتحدة الأمريكية في حالة حرب، وأن هذه الحرب لم تتوقف ما لم يقض على الإرهاب، لكنه استثنى ما تفعله إسرائيل من أعتى جبروت الإرهاب في العالم ضد الشعب الفلسطيني، نفس الشيء الآن يعلنه ترامب مع إيران، ثم كان من بين أسباب الحرب على العراق سبب معلن عن تغيير خريطة الشرق الأوسط الكبير، وإشاعة الديمقراطية في الشعوب العربية حكاماً ومحكومين، وتوثيق حقوق الإنسان وترسيخ قيمها وتحرير المرأة تحريراً فعلياً يمكنها من تفعيل دورها في المجتمعات العربية.
وقامت الحرب؛ ودخلت القوات الأمريكية العراق، في حين كانت إسرائيل تنفذ بأحطِ وأنذل أنواع الاغتيالات المجرمة “إرهاب الدولة” مع الفلسطينيين، ثم جاء دور تغير خريطة الشرق الأوسط الكبير؛ فإذا المشروع صدق لا كذب فيه ولا تهريج، تماماً كما كانت الحرب من قبل جداً لا هزل فيه ولا تكذيب: صدق من حيث إنه هدف استعماري بلون جديد، يطمع في تفكيك الوطن العربي وتقسيم العالم الإسلامي، ويستند على لوثة عنصرية صهيونية مؤسسة على سفك الدماء واستحلال حرمة الأراضي والمقدسات. لقد كان منطق إحادية القوة أو وحدويتها هو السائد في مفهوم العقلية الأمريكية والصهيونية على السواء: عقول لا تفكر سياسياً سوى في الاستعباد وامتصاص الدماء. إذا قال الأمريكيون: سنفعل كذا؛ فمما لا مناص منه أن نتوقع أن هذا الفعل لا بد واقع، وعلى المفعول فيه أن يستقبل خانعاً ذليلاً أوامر الفاعل بالضرورة، وما عليه سوى الاستسلام والطاعة العمياء؛ لأنه ضعيف لا يقوى على عواقب المقاومة والرفض.
ومما نشرته الأهرام يومها لنائب وزير الخارجية الأمريكية “ريتشارد ارميتاج”، حول مبادرة الشرق الأوسط الكبير أنه قال: قد تولد لكثيرين في العالم العربي انطباع أن هذه المبادرة أمر يتمُّ فرضه من أعلى إلى أسفل، وربما نكون قد بدأنا بداية خاطئة دون أن نضع في الاعتبار الثقافة المميزة والعوامل الوطنية، أو حقيقة التعامل مع (22 دولة) أو أكثر، لقد حاولنا تصحيح ذلك حيث ذهب زميلي “مارك جروسمان” إلى المنطقة، وقام بشيء من الصعب للغاية على الأمريكيين أن يقوموا به، وربما قام بأمر غير مسبوق”.
إلى هنا؛ والكلام منطقي، فما هو الأمر غير المسبوق، والصعب على الأمريكيين القيام به؟ تجيء إجابة “رتشارد ارميتاج” ذروة في الاستخفاف بالديمقراطية إذا هى كانت تهم الشعوب العربية، والاستخفاف كذلك باحترام حقوق الإنسان العربي والمسلم.
يجيب: ” إنه (أي مارك جروسمان) استمع للآخرين ثم عاد !”.
يا سبحان الله! حتى الكلام المصرح به فيه مفارقات !!
ولم لا؟!
إرهاب بالقول يتبعه إرهاب بالفعل. أو إنْ شئت قلت: إرهاب بالفعل يؤيده إرهاب بالقول.. والنتيجة: أنْ لا إصلاح في زمن الإرهاب.
لد. مجدي إبراهيم
صحيفة المثقف- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية.