عنف الخيال الديني
ليس العنف باسم الدين مجردَ فعل طارئ، لكنه عمل مُركَّب يحتاج خيالاً يَفوقُه تهوراً وجُموحاً. إنَّه عمليات من الشحن الأيديولوجي والتهيئة والتفنُن بتوقُّع الأثر وفوضى المَشاهِد ورسم المجال وانجاز الأفعال وانتظار النتائج وافراغ الكراهية إلى أقصى مدى. الخيال الديني imagination religious هو الآتون الواسع الذي تُطهى فيه هذه الأشياء وتضاف إليها عناصر القسوة والتشفي (أليس الارهاب صادماً ومؤلماً في عملياته؟)، ثم ينتظر الإرهابيون نُضجَها وقطف ثمارها في أحد الجبال أو تحت سقف التنظيمات والجماعات المتطرفة.
الأمر بلغة بيير بورديو هو عنف رمزي symbolic violence مضاعَف ومغلَّظ المعاني في قفزة فوق عقلانية تسمى بالتخييل. إذن العنف موجود، لكنه يتحرك بقفزات زائدة عن الحد ويتحول عبر وسائط أخرى مشبعاً برمزيتها. هذا ناهيك عن استيلائه على فائض القداسة التي يوفرها الدين في كيان الأفراد وآفاقهم الميتافيزيقية والروحية.
ولذلك فكلُّ عملية ارهابيةٍ هي صورة خيالية imaginative image بلغت حد اللعنة كلعنة الخرافات والأساطير القديمة التي تستهدف الأعداء، حيث تجيئ العملية من النقطة العمياء وغير المتوقعة تماماً في الأداء اليومي للمجتمعات (مسرح الارهاب). وهذا ما جعل العنف والارهاب باسم الدين يحملان تلك المعالم.. كونِّهما مسكونين بجميع ما يُضاد الإنسانية عبر كل إنسان (بتعبير القرآن: من قتل نفساً فكأنَّما قتل الناس جميعاً)، كما أنَّهما- عنفاً وارهاباً- يختمران (يتكونان) بوافر الدلالة على مستوى الفكر والفعل.
وطبعاً ليس ذلك غريباً على الكائن (الارهابي)، لأننا كذوات بشرية نحن أصلاً عبارة عن حفريات مطمورة من العنف وأخيلته المعتَّقة تاريخياً وتراثياً، سواء من جهة الغرائز أم الأفكار أم الهلاوس، وحتى الأحلام والتسامي والوداعة والعواطف.. جميعها متشربة ببقايا مهولة من العنف الرمزي. لكن الغريب هو استعمال الدين واعتباره صورا ملتحمة بتبريراته المعدَّة سلفاً كالعبوات الناسفة أو بجانب السكين التي يحملها هذا الارهابي أو ذاك. فالخيال العنيف يحتاج تغذية راجعة feedback وسقاية بماء الكراهية والغضب (تجاه كذا…) طوال الوقت.
وهذا ما التقطته الجماعات الاسلامية بحسها البيولوجي المستنفر دوماً (مثل ذئاب وضباع وحيوانات مفترسة نائمة لكنها متيقظة للانقضاض). هي حالة حيوانية رمزية تستجمع قوى الفعل المباشر دون تفكير ولا اعتبارات إنسانية. والملاحظ أنه لا يوجد لدى (تلك الجماعات) فاصل ولا فارق بين (الخيال والبيولوجيا)، بين (العقل والغريزة)، فالإرهابي كائن بيولوجي وخيالي مذهل بشكل غريب، ذهنية معجونة من التخييل الذي هو الحس التلقائي الفاعل مادياً دون ضابط. العالم كله بالنسبة إليها ساحة حرب ودماء، لا تشعر بآلام ولا بندم ولا بمراجعة نقدية لما تفعل، وتلك نراها لدى حالات القاعدة والدواعش والإخوان والتكفير والهجرة التي تتوحد بالغرائز الأولية في شكل تدمير وقتل.
ولو سألت إرهابياً: لماذا تقتل باسم الدين؟، لكانت تلك الأفعال لديه آتية في معاني الجهاد والتسامي والشفقة على الآخرين. الشفقة من كون ضحاياه غارقين في براثن الكفر والذنوب والفحشاء، وأنه يرى ذاته نبياً في ثوب مجاهد لتطهيرهم من الآثام المؤدية لعذاب السعير. هذا هو “الانقلاب المتخيل” لفعل التدمير تجاه مخالفي أفكاره ونمط حياته. أي يعكس الحياة داخله وداخلهم، يدفعها دفعاً لصالح الموت بمبررات اعتقاده ذاهباً لتحقيق ذاته من خلالهم (الموت معاً نحن وهم). والحس البيولوجي (الغرائز والشهوات) هو الذخيرة التي تشعل خيال الارهابي في ليل العالم كما يتوهم.
وهكذا فإنَّ الأعمال الدموية التي يرتكبها شباب اسلامي في أوروبا ليست مصادفةً، ولا سيما مع تجددها من وقت لآخر. فلم تختفِ حتى مع وباء كورونا (عمليات الطعن بفرنسا– ألمانيا– انجلترا)، رغم أنَّ القارة العجوز قد نخر الفيروس في عظامها، دخلت الملاجئ وانزوت بردهات العزل الصحي، ولم تواصل – كما يقولون- الفُحش الحضاري ولا العولمي حتى. أصبحت أوروبا رجل العالم المريض كما كانت تطلق على الدولة العثمانية في الأزمنة الحديثة.
بالفعل أوروبا صحيَّاً – لو رسمناها بالكاريكاتور- مُلقاة على أسرّة العناية الفائقة … تكُح وتسعل وتعطس وتتهاوى بالمرحاض ولا تجد من يأخذ بيدها!! الوجوه مجرد كمامات عمياء فوق أنوف حائرة. القارة تخشي حتى من الاتحاد الذي صنعته وتباهت به أمام المجتمعات الأخرى وقالت أن كورونا بمثابة شهادة وفاة له. وبالمناسبة حالة كورونا أظهرت عمق أزمات الحضارة الغربية التي قد تنفرط عما قريب أو بدت، ربما ترجمت اضمحلال الغرب وانحطاطه كما قال اشبنجلر وأكده إدموند هوسيرل في كتابه “أزمة العلوم الأوروبية” و مثلما عبر عنه لاحقاً سلافوي جيجك وإدجار موران: نحن إزاء الكارثة أو في انتظارها.
لكن من قال لمتطرفي الاسلام ألاَّ يرحموا انساناً أيَّا كان؟ هل الإسلام كرحمة للعالمين قال ذلك؟ أليس الحال يطال الجميع (أوربياً وغير اوروبي) فوق تراب القارة العجوز؟ هل سيفرق فيروس كورونا بين مسلم ومسيحي ويهودي ولا ديني؟ وبجانب هذا وذاك… لماذا يُمعن هؤلاء الارهابيون في قتل من يصادفون بساحة الجهاد (كما يتصورون)؟ بمعايير الأمراض: ربما يكون الفيروس أرحم من هؤلاء، فقد يصاب به إنسان ويشفى بعد فترة المرض والنقاهة، لكن فيروس الإرهاب لا يشفى منه أصحابه فضلاً عن أعدائه ولو بعد حين.
أعمال الارهاب وُعود تاريخية ونصوص فقهاء وفتاوى لاستحلال كيان الغير بعمر الاسلام السياسي. لم يكن هذا الشاب أو ذاك الذي يطعن من يقابله في فرنسا إلاَّ وقد رُوبي ونُشّيءَ على تصنيفات القتل تحت عمائم التنظيمات الدينية: مؤمن / ملحد، إيمان / كفر، غرب/ شرق، الله / الشيطان، حياة الهداية / حياة الضلال. وكل تصنيف من هذه التصنيفات يقف على اعتاب الجنة أو النار، حيث يراه الارهابي فيما يردد رُؤيَ العين. ولا يكتفي بهذا، بل يزعم أنه يسابق الملائكة لإدخال (من يحب) الجنة ويزج (من يكره) إلى النار. فكيف ستكون النتائج التالية في واقع الحياة والبشر؟!
هكذا ليس لمسلمي أوروبا المتطرفين إلاَّ مخزون العنف الآتي من أضابير التأويلات الدينية الغارقة بالدم. إنَّ أجسادهم وعقولهم قنابل معَدّة للتفجير تجاه أي انسان. وللأسف فإنَّ حشو القنابل شرقيٌ إسلامي خالص مثلما هي عبوات الأدمغة التي صنعتها التربية الخيالية للتنظيمات. وأن سحب الفتيل الذي ينفجر بعده كلُّ شيء هو مجرد مبرر فقهي فارغ من الحياة. لِمَ لا..؟ وهؤلاء المتطرفون مقبرةٌ حيةٌ تنمو فيها فتاوى القتل واستحلال دماء المسيحيين واليهود. ودوماً هم في بلاد الكفار كما يزعم منظرو الجهاد وممارسوه كأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وايمن الظواهري وأسامه بن لادن وغيرهم. فإذا كانت ديار الإسلام ديارَ أمن وسلامٍ، فإنَّ ديار أوروبا خريطة للدماء المفترضة.
إنَّ المُسلم يصاب بصدمة قاتلة بمجرد أن تطأ قدماه أوروبا، لا لشيءٍّ إلاَّ لأنَّ ما يعرفه عن الحياة والآخر والعالم يتضاءل إلى درجة التلاشي. وأنَّه يحمل ما برأسه وحياته أينما ذهب مقيِّماً على أساسه ما يراه دون السياق واختلاف العيش. هذا التصور يخترق معظم الاتجاهات الفكرية الاسلامية: تقليدية وتنويرية.. بأي معنى ذلك؟!
لقد نوَّه الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريس قائلاً: بلد النور والنار، بلد الجن والملائكة!!.. أيُّ جنٍ إذا كان ما يحمله برأسه محض هواجس من بطون كتب الفقهاء والتفسيرات والحواشي القديمة؟! وأيَّة ملائكة مادام يصف الآخر (المغاير حضارياً) باعتباره مناوئاً ديناً وأخلاقياً؟! إنَّ الطهطاوي مهما قيل عن استنارته وانفتاحه في هذه النقطة بالتحديد إلاَّ أن القراءة العميقة لكلامه تكشف: كم كانت عقول فقهاء الازهر التقليديين قشوراً مهترئة لإحساس اقصائي بالباطن، هم غالباً غير شاعرين به ويمارسونه كأنَّه الحقيقة.
الطهطاوي طوال الوقت يتحدث عن الفرنسيين وعاداتهم ومكانة المرأة لديهم والدستور وطبيعة الدولة والحياة الاجتماعية بنظرة ليست بريئة دينياً، نظرة الشيخ السلفي المتخيل الذي تربى على يديه ومازال يسكنه من الداخل. وليس هو الشيخ الذي يواكب الحضارة ولا الذي يتزامن مع الفرنسيين داعياً إلى ايجاد دستور وقانون موازيين، إنما هو الآتي من قرون على اعتاب القرن العشرين. المشكلة أنَّها قرون عاطلة من الحضارة ومليئة بالتقليد الذي انكفأ عليه المسلمون أمام عصر معرفي وحضاري (في أوروبا) لا نملك أمامه إلاَّ المفاجئة والاحتذاء. نظرة الطهطاوي هي نظرة منحازة ثقافياً إلى ما ينبغي أن يكون في ضوء التاريخ الإسلامي، أي كان نمط الإسلام لديه نموذجاً سلفياً وهو الفيصل بينه وبين العالم. نحن نريد أن نعرف ماذا يحمل في رأسه وكيف تدخلت حمولته في رؤيته؟!
بالتأكيد أنَّ كل من قرأ الطهطاوي دهشته مؤلفاته التي تحدث فيها عن أوروبا (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، و المرشد الأمين في تربية البنات والابنين)، أي نظر معه (بمنظاره هو) إلى الحياة والثقافة الأوروبية، بينما هذه المؤلفات تكشف تماماً تكوين الذهنية الشرقية واللاهوتية رغم أنَّ صاحبها لديه استعداد التعرف على الآخرين. وهو إذ يفعل يقف للأوروبيين بالمرصاد كاشفاً إلى أي مدى يختلف هؤلاء عنا (ثنائية العنف: نحن- هم). وكأنه يقول نحن في حالة تناقض حضاري حادٍ، لأننا أصحاب الدين الحق وأصحاب الثقافة القويمة بينما هم أهل الباطل والانحراف. والطهطاوي في هذه اللحظة المزدوجة يقرر ما يعتقده صحيحاً لا رجعة فيه، كأنَّ (الاوروبيين) غائبون تماماً بينما الكلام يقيِّم حالهم عن كثب (أمام محاكمة تاريخية إن صح التعبير). ذلك يؤكد بخلفية المتابع نتيجة الطهطاوي القائلة: كم نحن مختلفين جذرياً عن أوروبا، ولسنا في حاجة إلى ما يؤمنون ولا ما يعتقدون ولا ما يمارسون. فقط يا ليت لدينا معارفهم وتقنياتهم وسياساتهم لإحراز سبق المدنيّة والتقدم!!
وتلك هي الرؤية السطحية التي لا تعرف تطوراً تاريخياً ولا حضارياً للغرب (التطور في اتجاه- والحياه في اتجاه آخر). وهذا لا يعني هنا دفاعاً عن أوروباً بالتبعية، ولا يعني العيش كما تعيش أوروبا فهذا مستحيل!! المهم هو كيف قيَّم الطهطاوي أوروبا وذهبت ثقافته إلى حيث لا تتطور طالما وقفت عند الشكل والاحتذاء كما نادى. ولذلك يستحيل استنساخ الحضارة ولو على ركام الماضي، لأن الثمن الباهظ هو تحويل المستقبل إلى جثة متحركة.
الأوضح من ثمَّ أنَّ الطهطاوي جعل ثقافته معياراً لدراسة الآخرين باختلاف أطيافهم. ثم وضَّعهم في قوالب ذهنية لا يعبرون عنها بالضرورة. وهذا يتضح أكثر في حديثه عن العلاقات بين الرجل والمرأة. حيث يشير دوماً إلي أخلاقيات الشرق، حين تحرص التقاليد لدينا على علاقاتٍ بعينها بين الجنسين (الأساس الاخلاقي). وبذات الوقت ينفيها – يستنكر انعدامها- إزاء الأغيار بحسب قيمهم وطرائق حياتهم الاجتماعية (هم هكذا يعيشوا)، أي سيرى أفعالَّهم كأنها جرائم وتُهم اخلاقية. وهذه النظرة عنيفة في أساسها، لأنها نمطية ولا تتجاوز الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب، كما أنَّ المسألة ليست أخلاقية فقط. لو انها مسألة أخلاقية ما كان يجب على الطهطاوي الذهاب إلى أوروبا وهو يعرف ذلك جيداً!!
كيف إذن لأزهري معمم بالثقافة أنْ يرى الواقع والحياة خارج عمامته؟! إنما حدث مع الطهطاوي حدث مع محمد عبده، فلم يتخلص الاثنان من العبارات التكفيرية برداء اخلاقي. إنَّ الاخلاق التي يري البعض فرضها فرضاً تعد أكثر تكفيراً وعنفاً من الدين نفسه. الفارق أنَّ التكفير لدى جماعات العنف الديني كان بارزاً بينما كان يُغلَّف لدى المستنيرين بالإعجاب تجاه الغرب، ثم يرتدي عباءة التقييم الأخلاقي للحياة.
لكن التصنيف في قاعه البعيد واحد: المسلم/ غير المسلم، صاحب الاخلاق/ الفاسق، نحن الأفضل/ أنتم الأسوأ.. وبالتالي المواقف واحدة في ميزان العنف لو أخذنا بهذا الجانب. المنظوران الاثنان (المستنير والارهابي) لم يفهما لماذا يختلف الغرب عن الشرق، ببساطة لأنهم لم يفهما ابتداءً الأسس الفلسفية والفكرية والمعرفية للحضارة الغربية. فهم فقهاء يشربون من معين واحد في جبة عصرية لا تُغير شيئاً لا بالتاريخ ولا الجغرافيا.
ومن ثمَّ لا يجب وضع مسلمات أمام قراءة(الفكر العربي الحديث) من قبيل أن هذا شيخ عصري وذاك تقليدي، هذا شيخ حداثي وآخر رجعي. فأكبر الأخطار فلسفياً النظر إلى ممثلي الفكر العربي (الطهطاوي ومحمد عبده والافغاني والكواكبي …) كرموز للتجديد والتنوير هكذا بمطلق الكلمات. إنَّ في كتاباتهم طبقة سرية من الجمود والتصنيف غير العقلاني لقضايا الشرق والغرب. وإذا حفرنا وراء أحدهم أو غيره سنجد أن أغلب قضاياه مشبعةٌ بآراء فقهية وانحيازات دينية(غير عقيدية) بالأساس. وأنَّ التسامح ونقل التحضر والأفكار المدنية “حيلة عصرية” لمواكبة التطور والتقدم، لكن العداء يلتقي مع سواه الأشد فتكاً في الغاية. وأنَّه كان لا مهرب حضاري لديهم من التعلُّم، بينما كراهية الغرب مستمرة بأشكال أخرى، تماماً مثل الفارق بين قطُع اليد التي تكرهها (موقف الارهاب) وبين تقبيلها مؤقتاً للإفادة منها (موقف المستنير).
لقد كانت اجاباتهم لسؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ اجابات غير صحيحة. لأن الحضارات لا تقارن كأنها تمتلك الدرجة الصفر ذاته للتقدم والانطلاق. كما أنَّ الاستفهام يؤكد الاقصاء والتنافر بالوقت ذاته، وكذلك هو سؤال يقارن حالتين لا مجال للمقارنة بينهما حياتياً. لأنَّ كل حضارةٍ لها طابعها المميز من الوجود والفعل. وأنَّه لا يجب احتذاء الواحدة للأخرى اطلاقاً مهما تكن. وإلاَّ لأضحت أحداهما عبئاً تاريخياً ولا قيمة لها. ومن هنا أخذا بنصائح التنوير فإنَّ تاريخ العرب المعاصر كله كان سائراً بالطريق نفسه، لا قيمة حضارية لهم، إنهم مجرد طفيليات متسلقة على أكتاف الغرب… معرفة وعلماً وتقنية وفكراً.
إنَّ مناقشة محمد عبده لقضايا العصر في كتابه “الاسلام بين العلم والمدنية” أمر غير منطقي. لأنَّ الاسلام كدين إجمالاً ليس معنيَّاً بماهية المدنية والمعرفة العلمية الراهنة وماذا يجري فيها. كما أن الاسلام بتلك الصيغة ” كلمة عامة” بما لا تُحد إجمالاً. فأي اسلام يقصد محمد عبده؟ هل الاسلام الاعتزالي الآخذ بالعقل وحرية الإرادة الإنسانية كما هو مشهور عنه؟ وإذا كان ذلك كذلك فلم يقدم هذا الاعتزال رؤية متماسكة حول العالم والحضارة بمنظورهما الحالي (قياس الحاضر على الماضي). تلك الأشياء المتأخرة التي تعتبر خارج نطاق الدين بأي معنى كان. ومن ثمَّ يصعب بل يستحيل التحدث عن الدين إلاَّ في إطار تجربة حياتية بعينها، وبالتالي لن تقارن تجربته (الشرقية) بسواها (الغربية) إلاَّ بالاختلافات وبعوامل القصور. إنه يجب على العرب والمسلمين ابتكار وجودهم الحضاري بمعطيات معرفية وثقافية مميزة عن سواهم وليس مجرد التوفيق والتلفيق.
كما أنَّ تصورات الدين والاسلام والحقيقة والعلم- وإنْ وردت في جذور تاريخية لدينا- لم تتخلص بعد من الدلالات التقليدية. وهذا يتجاوز فكرة الاسلام الإعتزالي أو الأشعري أو الشيعي. جميع الإسلامات تتطلب غربلةً وتنقيةً صارمتين بما يضبط حركة النصوص المؤسسة وفقاً لغاياتها مقاصدها كما يقول الأمام الشاطبي. وبما يزيل عنها كل الطباق الخارجية التي رانت عليها وأخفتها وجعلتها صوراً مشوهة في أيدي المتطرفين. لأنَّ بذور التخلف الفكري كامنة فيها كصناعة بشريةٍ تختلط بالأسس المقامة عليها إنْ لم تكُّن من السلف فمن الخلف.
الاسلام في أشكاله المذهبية ليس نقيَّاً ولن يكون، أشكال الفِرّق والملّل والنحل الكلامية هي الرواسب التاريخية التي انفجرت وكونت أخيلة المسلمين حتى الآن. وهذه مازالت حاملة لكل غلالات العنف والخشونة التي كانت شائعة في ثقافة القبيلة والعشيرة والبيئات القديمة. القضية في صورة الاسلام لا تقاس بالأوصاف العامة من جهة العقلانية والنقد والتفكير. بل بكيفية المضامين وطرق التغيير والآفاق الجديدة التي تحملها الثقافة للحياة المنتظرة منها. وأنَّ الحيوات تتلاقى خلال مستواها الإنساني الذي لا يقبل تصنيفاً ولا كراهيةً. فلئن كنتَّ أنتَ تحمل حياة مفتوحة، فإنك ستقابل المصير نفسه… وإلاَّ فالعكس مدمر.
إذا كان هذا شأن التنويريين فكيف بغيرهم؟ يذهب المسلم العادي والمتطرف إلى أوروبا وهو يدرك أنه في بلاد مختلفة. لأن الحياة تثير داخله غرائز العدوان والجموح، ذلك بفضل الالحاح الديني كما يفهمه رعاة الشرق وفقهاؤهم. ففي الفضاء العام يقوم الخطاب الديني على الاساءة والتحريض تجاه ما يسميه بالعُهر والاستعمار وانحلال المرأة. ثم يُرجِّع أسباب ذلك كلُّه إلى أوروبا وانتشار الموضات الفكرية والفنية والأيديولوجية والسهر على متابعة الوسائط الاعلامية والتواصلية. وهذا الجهل لا يدرك من فوق المنابر أنَّ الحياة ليست فقط مظاهر وأشكالاً إنما هي ” قانون ثقافي”. وأنَّ الأوروبي ينشغل كامل الانشغال بالعمل والانهماك في ابداع إيقاعه اليومي.
إنَّ نمط الحياة الأوروبية ينسف كلَّ تصورات الاسلاميين من الجذور، لأنه نمط يلاصق أداء الحياة المنفتحة التي قد لا تعني الفسق والفجور بالضرورة طالما أنَّها لا تجبرك على شيء. هذا هو الأصل الذي تشتغل عليه فتاوى الفقهاء بكراهية (أي لكي تكون لهم أهمية، يجب حكم الناس بصيغة: عليك أن تفعل كذا أو لا تفعل). كان كبت هذا الانفتاح وقمعه هما المُنقذ الوحيد من عطالتهم. فمازالت روح الكهانة القديمة كامنة في شُرّاح الدين ومفسريه كما لو كانوا يمتلكون الحقائق المطلقة من فم الغيب. بينما اتباعهم ورعاياهم كائنات شهوانية تمشي على الأرض!! ولهذا حينما يعيش الاسلامي المتطرف في أوروبا، إما أنه يعرف روحها، فيتماشى مع تسامحها الإنساني وتنوعها العرقي والفكري (على الأقل التنوع الخاص)، وإما أنه يتصلب بذهنية عدوانية تقطر دماً.
الأغلب أنه سرعان ما يأخذ الموقف الثاني باطناً أو ظاهراً. لينكفئ على نفسه وعائلته معتبراً الأوروبيين مما يجب مسايرتهم شكلياً (بحكم التقية والممالأة). صورة الإسلام والمسلم في هذه الحالة ستمثل حاجزاً ضد الحياة التي يحياها. لأنَّ خياله مجرد “كومة تحريمات ثقافية” من عصور قاحلة مضت، يحملها المتطرف من خلال ذاكرة المجتمعات التي نشأت فيها وفرَّخت. فهل هناك تحرير لهذا الخيال الديني العنيف؟ وكيف يمكن تحريره إنْ أمكن؟!
لد. سامي عبد العال
صحيفة المثقف – موقع حزب الحداثة و الديمقراطية.