حداثة و ديمقراطية

عندما تصبح الديمقراطية مخيفة

كيف يصبح النظام الأكثر فعالية في عالم السياسة والمتبنى من قبل 118 دولة اليوم لممارسة الحريات ولضمان مجتمع يتمتع باستقلالية أن يصبح نسخة مخيفة تهوى بالبشرية إلى مستويات متدنية؟ أداة تستخدم لرسم حقبة أشبه ما تكون بحقبة مرت بها البشرية قبيل الحرب العالمية الثانية.

بريطانيا والاستفتاء

بداية الشرارة كانت في بريطانيا وخبر Brexit عندما صوت أكثر من 50% من الشعب البريطاني في استفتاء البقاء ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي وكانت النتيجة إجماع الشريحة الأكبر من طبقة متوسطي الدخل على الخروج من الاتحاد، قرار يضر بمصير بريطانيا اقتصاديًا على المدى البعيد قبل أن يقوض في الأساس القوة التي يمنحها وجود المملكة المتحدة مع الدول المجاورة كتكتـل اقتصادي وسياسي ريادي.

ورغم التسريبات التي خرجت لرئيسة الوزراء تيريزا ماي والتي قالت فيها إن خروج المملكة المتحدة لن يعود بالخير عليها اقتصاديًا، إلا أنها كانت ورقة استغلت لمكاسب سياسية، فمن غير المتوقع أن ينمو الاقتصاد أو يتحسن المستوى المعيشي في بريطانيا بعد الخروج النهائي، فما سيحدث هو عزلة المملكة المتحدة عن جيرانها ووضع خط أحمر للعولمة والاندماج العالمي.

الشعب البريطاني من الطبقة الوسطى وشريحة الكبار في السن ضاق ذرعًا بالمهاجرين واللاجئين من مختلف الأعراق الوافدين غالبًا من المناطق غير المستقرة سياسيًا ليبدأوا بتكوين حياة جديدة في بريطانيا، فكل المكاسب الاقتصادية التي حصلت عليها بريطانيا من جراء ارتباطها مع الاتحاد الأوروبي لم تعن شيئًا للمواطن البريطاني والذي يبدو أنه كما زعم أراد الاستئثار ببريطانيا العظمى لتكون أرضًا للبريطانيين البيض فقط دون الشرائح الأخرى.

تنامت الأصوات المتعصبة، وصوتوا على سد باب بريطانيا وعزلتها، وهذا ما دفع تيريزا ماي إلى اقتناص الفرصة للحصول على غنائم سياسية لحزبها، فورقة الديمقراطية هي التي حكمت بالخروج وأن تصبح بريطانيا أقل انفتاحًا، وما على الساسة إلا تنفيذ إرادة الشعب دون قيد أو شرط لتوجه غير ليبرالي ومتزمت حتى وإن كانت ضد مصلحة البلاد ووفرتها.

سيناريو واحد.. قارة مختلفة

يبدو أن السيناريو لم يختلف كثيرًا في الولايات المتحدة، فالاقتصاد الأمريكي بوجه عام كان قد بدأ في التحسن بعد سلسلة من الإجراءات المجدية لكن البطيئة، اتخذتها إدارة أوباما بعد الأزمة المالية والرهن العقاري والتي خلفت ديونًا متراكمة مثقلة ميزانية أمريكا مسببة اقتصاد هش وضحايا انهيار شركات وإفلاس بنوك ومؤسسات مالية وإقفال مصانع كبرى.

الجموع الغفيرة من الشعب الأمريكي الذين فقدوا أموالهم وتدهور مستوى معيشتهم اضطروا إلى التخلي عن منازلهم لدفع الديون المترتبة على الرهن العقاري، وفقدوا وظائفهم واتبعوا خطط تقشف أدت إلى ضغط معيشي شديد، تلك الإجراءات التي أراد بها أوباما إصلاح الاقتصاد هي نفسها أصبحت تسبب ضغطًا عليهم، فبات من الصعب الحصول على قرض أو رهان كما كان متاحًا قبل الأزمة المالية وغيرها من الخيارات المالية التي لم تعد متاحة، وهذا أثـر على حياة متوسطي الدخل اليومية خاصة وأن أكثر من 60% يعيشون على الراتب فقط.

معظم المحللين أشاروا أنه بينما كان الاقتصاد الكلي يتحسن، كان المستوى المعيشي للمواطن الأمريكي في تقلص، هذه الطبقة أعلنت علنيًا أو ضمنيًا التصويت لأمل ملتوٍ وهو المرشح الجمهوري.

دونالد ترامب لعب على وتر قديم قوى شوكته وجعله يصعد إلى مراتب عالية في السباق الرئاسي، في وقت كان الكثير من السياسيين يستبعدون أن يصلها بما فيهم نظرائه من الجمهوريين، فقد لعب على ورقة الخوف التي استغلها جيدًا، وروج لفكرة إلقاء اللوم على المهاجرين والأقليات للانتكاسة الاقتصادية التي تمر بها أمريكا، وزعزعة الأمن وانتشار الإرهاب الذي يعاني منه بالدرجة الأولي المواطن الأمريكي الأبيض، لعب على الورقة المقيتة من التمييز العنصري والتعصب العرقي والتي غالبا ما تظهر على السطح عندما تكون الأمور المعيشية صعبة وتتخذ منحنى منحدرًا ومتأزمًا، والحق يقال إن الشعب الأمريكي كان مهيأً لتقبل خطابات الكراهية والعنصرية ضاربًا مبدأ التعايش والتنوع بعرض الحائط وطاردًا الليبرالية من أوسع الأبواب.

كانت تلك البذرة مغروسة في الكثير من عقليات المجتمع الأمريكي الأبيض، لم يجاهد ترامب كثيرًا في نموها بل حصد ثمارها عندما ركـز على هموم الحياة المعيشية وما يعانيه المواطن الأمريكي، في الوقت الذي يقتسم معه لقمة العيش مهاجرين وأقليات لا يحق لها كما زعم.

كل هذا الامتعاض تحول إلى كره لسياسة أوباما ونبذ الليبرالية وكل المبادئ التي تروج له، ما زاد الأمر تعقيدًا في هذه الانتخابات أن هيلاري لم تكن بالمرشح الأفضل حتى يصوت لها الشعب الأمريكي وكانت أخطاؤها تمتد إلى فترة منافستها أوباما في الترشح للرئاسة من الحزب الديمقراطي، فلم تكن محبوبة لدى الشعب الأمريكي أو موضع ثقة، لكنها كانت ستكون خيارًا أقل ضررًا من خصمها الجمهوري مثلما كانت تأمل الشريحة الواعية في أمريكا.

بكاء على الليبرالية

هناك من بكى الليبرالية عند إعلان النتيجة، بكى على واقع سيضطر لتحمله على مر الأربع أو الثماني سنوات القادمة، الكثير لم يصدق أن بإمكان شخص مثل المرشح الجمهوري الذي يفتقد النزاهة والدبلوماسية أن يصبح رئيسًا لأمريكا، أو يستوعب أن الأصوات اجتمعت على من فـرق الشعب وروج للتطرف ضد كل ما هو مغاير من عرق أو لون أو ديانة.

هذه الأصوات بملء إرادتها اتجهت إلى صناديق الاقتراع، اختارت شخصًا غير مؤهل لقيادة البلاد في نظر الكثير من السياسيين وقادة العالم، النظام العريق الذي امتد على مدى 200 عام في القارة الأمريكية انهارت على عتبته القناعات الليبرالية الديمقراطية وعند صناديق الاقتراع نفسها.

كـرة الثلج 

يقول تشومسكي إن نتيجة الانتخابات الأخيرة لأمريكا تشير أن البشرية في انهيار، وأذكر جملة في فيلمBig Short  قد تصف ما تمر به الدول الغربية في هذه الحقبة من احتقان “عندما تأخذ الأمور منحنى متأزمًا ويتهاوى الاقتصاد تكون ردة فعل البشرية كما كانت دائمًا عبر التاريخ، وهو إلقاء اللوم على المهاجرين والفقراء”، عادة هذا ما يحدث في مجتمعات تكون المصلحة الفردية أو التكتلية أهم من المصلحة الكلية ومصلحة الوطن، يتجه فيها إلى نمو فكر ديمقراطي اللاليبرالي وازدهار حقبة التعصب.

يبدو أن هذه العدوى ستنتقل إلى الدول الأوروبية الأخرى بدءًا من إيطاليا والاستفتاء القادم في ديسمبر المقبل، وفرنسا في انتخاباتها القادمة السنة المقبلة، وألمانيا التي ضاقت ذرعًا بميركل وسياسة احتواء اللاجئين وفتح الباب لهم، وهولندا والبقية الباقية من دول أوروبا.

يبدو أن بإمكان الديمقراطية أن تصبح مخيفة عندما تتحول إلى منبر لإيصال صوت التطرف والعنصرية وتمكينه القيادة بدون شروط أو قيود مما يؤدي إلى الهاوية.

لإيمان عبد الرحيم.

بوست ن-موقع حزب الحداثة و الديمقراطية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate