الحداثة الحقيقية
إذا كان ما زال الكلام عن (الحداثة) ممكناً، فلا بأس من جاهزية أرواحنا لتفادي كل ما مرّ بنا من أحاديث سابقة، والاستعداد لما يشبه النقائض لمعظم (وأرجو أن يكون كل) ما قيل سابقاً. فليس ممكناً الآن الكلام عن حداثةٍ ما، بمعزل عن التحولات الجنونية التي يتعرض لها واقعنا الكوني قاطبة، بما فيه الواقع العربي.
أما الحداثة الآن، إن لم تصدر عن الوعي الوحشي الذي يجتاح البشرية، وهي تجد نفسها مُقادة تتجرجر نحو الكهف والغابة في آنٍ، باسم الدين تارة، وباسم محاربة المتاجرين بالدين تارة أخرى، بدون أن يتاح لنا التلبّث، لنتأكد أي الطريقين أقل دماراً من الآخر.
فليست الديمقراطية مثلاً، يمكن أن تكون رأس قائمة شروط الحداثة، في ضوء المستخدمات السياسية، التي باتت تبتكرها مختلف القوى الوطنية والقومية والعالمية، التي تقع تحت طائلتها شعوبٌ أخفقتْ، ولا تزال تخفق، في نيل حقها وفي نيل حق البشر في هذه الغابة الشاسعة. ليست الديمقراطية، لأن النُظم والسلطات الديكتاتورية صارت تطالب بالديمقراطية أسرع مما تطالب بها الشعوب المقهورة بقواها التحررية. فلم يعد سهلاً المزايدة على الحاكم، وهو يسعى حثيثاً لصيانة سلطته وحماية تاجه وإطالة عمر حكمه المديد لئلا يكفّ عن العيش.
إلى أي حد نستطيع وعي التاريخ، لكي نصدّق حقيقة كوننا نحن، الآن، نشكّل مستقبل الماضي ونمثّله، ومن حقنا على هذا التاريخ، الذي نقصر عن استيعاب تحولاته المضادة لأحلامنا، من حقنا أن نزعم بأن الإخفاق الكبير الذي نتخبط في براثنه، منذ القرون السالفة جميعها، هو إخفاقٌ لا يمكن تفاديه، وليس من الحكمة المكابرة أمام امتحانه الفجّ.
قديماً، عندما كان الحديث يدور عن المستقبل، كنا نقصُر عن دورنا في مسؤولية ذلك المستقبل، ونتغافل عما ينبغي علينا الاستعداد له. الآن، نحن في ذلك المستقبل. نحن المستقبل الآن. وكل أحاديثنا الطويلة عن الحداثة، ستذهب هدر الرياح إذا لم نتميز بالحسّ التاريخيّ القادر على مجابهة أوهام الحداثة، التي تمرغنا بها طوال ما يزيد على قرن كامل، من دون الزعم أننا نحققها.
ثمة الفرق الهائل بين منتجات الحداثة التي يستوردها، بماله ويستهلكها المجتمع العربي، ومعرفة آلية الحداثة وامتلاك معرفتها وممارسة شرطها الحضاري. ففي الشراء والاستهلاك اتصالٌ بما فعل العرب القدماء، عندما ترجموا نصوص الفلسفة اليونانية، واستعملوها، بعد تجريدها من شرطها الإنتاجي الأول، وهو الجدل والحوار، القائمين على الشك.
الان، لن يعني الكلام عن الحداثة شيئاً، إذا لم يتصل بالحرية الفردية، ووضع المرأة في الحياة، والعدالة الاجتماعية، والتفصيلات الشيطانية للديمقراطية. فلا تقتصر الديمقراطية، مثلاً، على الانتخابات والدستور والبرلمان. لكأن الكلام عن الديمقراطية بالمعنى الحديث لحياتنا، تعني على وجه التعيين، هي أكثر التفاصيل خصوصية في حياة الإنسان. ففي عصر الانهيارات المأساوية لديمقراطيات العالم المزعومة، يتوجب أن ننتبه لما يمكن أن تأخذنا إليه الأوهام الحديثة. لئلا نطلب الشمس فنستاف الصحراء المحدقة بنا.
الاستغراق المبالغ فيه بالفنون والآداب، عند الحديث عن الحداثة، كما حصل لنا طوال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، هو نفي غير مقصود للواقع وتفادي الحياة للعوم في الهوامش الثقافية، الحداثة ليست قصيدة ورواية ولوحة تشكيلية وفيلم بارع.
للحــــداثة شـــــرطٌ يبدأ بحريات الشخص الصغير، الصغيرة، ولا يتوقف عن الآلهة.
لكاتب بحريني
القدس العربي- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية