حداثة و ديمقراطية

خطورة غياب الحكمة السياسية

تتيح السلطة إمكانيات هائلة للقابض على زمامها في العالم الثالث بشكل خاص، نظرا لضعف فكرة المؤسسية في الدولة، وضعف حضور الرأي العام، وغياب المشاركة الشعبية  الديمقراطية في القرار بجميع مستويات الأنظمة الدستورية، من أول المجالس المحلية وانتهاء بالمجالس البرلمانية، التي تتحول جميعها إلى ما يشبه السكرتارية أو الجهة الإدارية لإعداد وطبخ ما تحتاجه القيادة السياسية، وكذلك ضعف استقلالية الإعلام وهيمنة السلطة السياسية على المساحة الأكبر منه، وامتلاكها قدرات كبيرة من خلال العصا والجزرة لترويضه وتهميش دوره، وهشاشة مؤسسة العدالة وغياب الاستقلال عنها وتحولها إلى رديف معاون لجهاز القمع والسيطرة، لذلك يكون للحاكم أو القائد الهيمنة الحقيقية المطلقة تقريبا في اتخاذ القرار السياسي أو الاقتصادي أو التشريعي أو القضائي أو الإعلامي، وتوجيه السياسات العامة للدولة، وقد يبدو الأمر على هذا النحو دون تحديات حقيقية للسلطة ودون مخاطر، غير أن مشكلة هذه الحالة تكون دائما في توليد ما يعرف بغرور القوة والسيطرة، الذي يغيب الحكمة السياسية عن أصحاب القرار، ويدفع بالأحداث إلى ما لا يمكن تصوره أو حسبانه.

أذكر أنه عندما تفجرت ثورات الربيع العربي، وبدأت في تونس، كان الرئيس زين العابدين بن علي يهيمن على كل شيء في البلاد، الجيش والأمن والمخابرات والإعلام والاقتصاد والقضاء، ورغم ظهور نذر الغضب والإحباط في أوساط الشعب التونسي إلا أنه كان يحتقرها ويقلل من شأنها، وضل عن الحكمة السياسية في احتواء القوى السياسية والاستماع إلى هموم الناس الحقيقية وتصحيح المسارات وغره نفاق من حوله، فكان أن فاجأته الأحداث والانتفاضة الشعبية الضخمة التي هدمت كل الجسور ووصلت إلى قصره، فكان خطابه الأخير الذي قال فيه كلمته الشهيرة: الآن فهمتكم ! لكن المشكلة أنه في هذه اللحظة يكون كل الفهم بلا معنى، فقد مضى وقته، ولم يجد ابن علي سوى أن يضع نفسه وأسرته على طائرة ظلت تحوم في الفضاء ساعات لتبحث عن بلد يستضيفه، وانتهى حكمه ولم تنفعه أجهزته وسيطرته عندما ضل عن الحكمة في وقتها.

بعد سقوط ابن علي بدأت الأحداث تتفجر تدريجيا في مصر، فعاند مبارك واستخف بها واحتقرها وقلل من شأنها، وأذكر أن صفوت الشريف المتحدث الفعلي باسم النظام ورجله القوي وقف في مؤتمر صحفي يتمطع أمام الكاميرات ويتحدى ويقول: مصر ليست تونس، واحنا مش على راسنا بطحة ! وما هي إلا ساعات وكان الطوفان يجتاح كل شيء في نظام مبارك، وعندما حاول مبارك احتواء الأوضاع بتعيين نائب رئيس الجمهورية وعزل الحكومة واختيار رئيس وزراء جديد لم يسعفه الوقت، لأنك عندما تفقد الحكمة في وقتها فلا يمكنك استعادتها بأثر رجعي، انتهى كل شيء، وظهر مبارك بعدها بأشهر قليلة وراء القضبان في مشهد مهين لم يكن يخطر على بال أحد في مصر أو خارجها.

بعد سقوط مبارك تفجرت موجة الغضب الشعبي في ليبيا بثورة 17شباط/ فبراير التاريخية الرائعة، وكان القذافي يمتلك منظومة أمنية رهيبة، من جيش مترع بالدبابات والطائرات والصواريخ ومكون من كتائب مسلحة يسيطر عليها أبناؤه، وعدة أجهزة أمنية قمعية، وفتح السجون على مصراعيها، وكان أحيانا ينفذ عمليات الإعدام بمعارضيه علنا لترويع الناس، كما أقدم على مذبحة في السجون حيث قتل ألفا ومائتي معتقل سياسي في يوم واحد في ما عرف بمذبحة سجن أبو سليم الشهيرة، ونشر الرعب والخوف واختطف المعارضين، وأذكر أن القذافي عقب سقوط ابن علي ثم مبارك خطب متحديا شعبه يقول: ليبيا ليست تونس ولا مصر، وأغرته القوة والسيطرة والسلاح والأجهزة وأولاده الذين هيمنوا على مفاصل الدولة وهمشوا كل شيء غيرهم، ثم ما هي إلا أيام وتفجرت الأحداث ثم تطورت عندما واجهها بالدبابات والقتل في الشوارع، فحمل الليبيون السلاح ثم تدخل مجلس الأمن ثم وقعت المعارك الدموية المروعة، ثم انتهى الأمر إلى مقتل القذافي وأحد أبنائه والقبض على آخر، وفرار باقي أسرته للخارج وانهيار نظامه بالكامل.

وعندما تفجرت ثورة ليبيا، كان الحراك الشعبي بدأ في النمو في اليمن، وكان علي عبد الله صالح على يقين من أنه لن يهز له شعرة، وأنه يسيطر على الجيش والمخابرات والإعلام والاقتصاد والأجهزة المختلفة، وتحدى المطالب التي تنادي بالإصلاح والحرية، واعتبر أنه حالة مختلفة عن مصر وليبيا وتونس، فانفجرت الأوضاع حتى أرغم على الاستقالة في اتفاق مهين كان فيه يشبه اللص الذي يريد الإفلات بسرقاته، وضمان أن يبقى حيا ولا تتم محاكمته كاللصوص، ثم عاد للعب من جديد فانتهى مقتولا.

وعندما هبت نسائم الربيع العربي على سوريا، خرج الشباب السوري في الميادين يغني ويرقص ويهتف بشعاره الجميل “بدنا حرية”، فأخذ الغرور بشار الأسد، الذي يمتلك جيشا من أقوى جيوش المنطقة وترسانة ضخمة من الأجهزة الأمنية المروعة، وأجهزة المخابرات وسيطرته الكاملة على سوق الاقتصاد وعلى الإعلام وما يسمى بالقضاء، وحاول تسويق نفسه بأنه حالة خاصة لأنه رمز للمقاومة المزعومة ضد “إسرائيل”، وغابت عنه وعن نظامه الحكمة السياسية التي كانت تقتضي أن ينظر حوله فيما يجري في المنطقة، فنزل بالدبابات في الميادين وأطلق الرصاص على صدور الشباب وشن حملة اعتقالات ضخمة، فكان أن حمل بعض الشباب السلاح وانشق بعض العسكريين عن الجيش ثم بدأت كرة الثلج تكبر، حتى تمزقت سوريا وقتل فيها أكثر من نصف مليون في حرب أهلية دموية رهيبة ما زالت مستمرة حتى الآن، وتشرد حوالي ثمانية ملايين سوري في أرجاء الدنيا، وانتشر في أرضها أكثر من أربعين مليشيا مسلحة من جميع الطوائف والبلدان، وأقاموا فيها إمارات ومناطق سيطرة ثم تبلورت الأمور لاحتلال جيوش روسيا وأمريكا وإيران وتركيا معظم مناطق سوريا وأصيبت سوريا ومدنها بدمار وخراب يحتاج إلى عشرات السنين لإصلاحه، ولا يعرف أحد حتى الآن ما ينتهي إليه حال البلد، وقد كان الأمر ميسورا في البداية لو أنه تواضع أمام الواقع الجديد واستلهم الحكمة السياسية الرشيدة، وفتح باب الحوار مع القوى الوطنية ومعارضيه، وتجاوب مع أغاني “بدنا حرية” وأجرى سلسلة إصلاحات وأوقف سياسات القمع وسحق المعارضة وإطلاق أجهزة الأمن لترويع الشعب.

حكم الدول هي سياسة، ومقتضى السياسة الحكمة في أن تسوس الناس وترعى مصالحهم، وأن تمتلك البصيرة وبعد النظر في مآلات الأمور، دون اكتفاء بالنظر إلى ما تحت قدمك أو ما هو قائم في اللحظة الحالية، فتيارات السياسة ليست كلها من صنعك أو رهن إشارتك وحسب تقديرك واختيارك، فهناك دائما روافد لا تعرف من أين تأتي وكيف تخلط الحسبة كلها فتلفت من يدك، والحكمة السياسية المؤسسة على العدل والانفتاح والمشاركة واستيعاب التناقضات ورفع الإصر عن الناس تعزز الملك، وترسخ مشاعر الرضى، وتبسط الأمان، وتنشر الاستقرار، وتطيل في أعمار النظم السياسية، وتقلل من المخاطر، وتعزز من شرعية الحكم داخليا وخارجيا، ولكن، مع الأسف، التجربة في العالم الثالث، وفي عالمنا العربي بشكل خاص تؤكد أن أحدا لا يتعلم الدرس، فيضلون عن الحكمة أو تضل عنهم بفعل غرور القوة والسيطرة والثقة بالقدرات، فيعيدون إنتاج الأخطاء نفسها التي وقع فيها من سبقوهم، ومن ثم يحصدون وتحصد بلدانهم النتائج نفسها.

لجمال سلطان

العربي 21 – موقع حزب الحداثة و الديمقراطية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate