حداثة و ديمقراطية

الحداثة الشعبية و اشتراكية الديمقراطية الشباب الإفريقي نموذجا.

شَذرَة البَدْءِ..

تعتنق الكتلة الغالبة من الشباب الإفريقي مذهب “اللامبالاة السياسية” وتعاني من حرِّ الغياب أو التَّغْيِيب عن ذوق نماء الثقافة.

إنها الكتلة الناشئة لزمن “ما بعد بعد الحداثة”؛ شباب يعاصر فوضى وفرة المعلومة وينخرط إرادياً أو لا إرادياً فيما اصطلح عليه بـ”المواطن العالمي”، ولو افتراضياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.

هذا الشباب ارتفع حجم مطالبه في ظل وضع اجتماعي واقتصادي جد قاسٍ، وقبل هذا وذاك هو شباب منفتح في السلوك والمعاملة، إنه نتاجٌ إنساني وجب أن يستقيم سلوكه بالتشبع العقلاني بقيم الاعتدال بنبذ العنف ومواجهة الإقصاء والتمييز ورفض الغلو والتكفير، وكذلك بضمان حقوق المساواة وتكافؤ الفرص والعيش الكريم.

وحيث إن التأويل السياسي الخرافي يقود الإنسان بشكل مباشر إلى جمود العقل؛ لأنه تأويل غير قائم على المعرفة لم يأخذ بالأسباب ولم يستجلب الإنسان بالمُوَاطَنَة المتوازنة.

فالواجب يستدعي شحذ هِمَم الشباب الإفريقي قصد الانخراط الشجاع والمثمر في تغيير وضع لم يعد مقبولاً استمراره، لقد آن الأوان للنضال الذكي من أجل أن تتحول الثقافة السياسية الاشتراكية الديمقراطية نحو خدمة إنماء شعوب إفريقيا المستضعفة.

وشذرة البدء: مفهوم الحداثة الشعبية الذي يؤسس لمشروع المعاصرة والعصرنة، مفهوم يربطنا بالمسألة الفلسفية والثقافية أولاً، مشروع شبابي إفريقي له ما يكفي من عزيمة الانتصار للمستقبل عبر تنقية الذات من خرافة العيش في ماضي الصراع، والدفع بالسياق العام نحو عبق التعايش والعمل المشترك قصد استكمال بناء إفريقيا الخيرات.

1- الحداثة الشعبية والتَّقْعيد التَّجْريدي لِلْمفْهُوم:

نستفتح تقعيد المفهوم بمثال النبتة التي نريد لها إيناعاً خاصاً، وهي أيضاً تريد محيطاً خاصاً.

فلا بد أن نحتفظ لها بجذورها؛ إذ إن كل استئصال لهذه الجذور يشكّل في العمق اغتيالاً للإيناع رغم التفنن في تجميل المزهرية، وكل قطع لها هو حكم على النبتة بالذبول رغم كل أشكال الاحتفال اللحظي بزينة تسرّ الناظرين فقط؛ لأن منطلق الإحساس بالسلم والسلام والتسامح والأمان والحرية والكرامة والمساواة يتجسّد في قوة التعايش بين الثقافات المحلية وعقلانية تشبعها بالقيم الكونية النبيلة.

ومنه فالإيناع “حداثة” والجذور “شعبية” وما بينهما إرادة الأنتلجنسيا المفكرة، وهي تؤطر إيقاع الإيناع من داخل المشتل لا من خارجه، تراهن على تفتّح النبتة بقدر سقيها من جذورها؛ لأن المهمة التاريخية مضاعفة:
* الاعتناء بالحاضر في أفق الإيناع.
* استيعاب المستقبل ضمن حركية العقل والتاريخ.

لأجل ذلك يؤسس مفهوم الحداثة الشعبية لمرحلة تنقية الذات مما علق بها من ثِقَل تاريخي قصد تجاوز النزاع المفتعل الذي يروم تحريض الماضي على الحاضر أو العكس، ويفتح ورش وثبة ثقافية للشباب الإفريقي قصد إبداع أنماط وصيغ متطورة لضمان استكمال بناء مشروع فكري بأفق يستطيع إحقاق التأهيل المعرفي والثقافي للمنظومة المتجمدة.

فالحداثة الشعبية هي تعبير جديد عن الهوية الثقافية وفلسفة المعنى والانتماء عند الأجيال الصاعدة، منطلقها دينامية المجتمع والمؤسسات وتفاعل العلاقات الاجتماعية مع زمن التقنية والذكاء الاصطناعي.

إنها صورة لعادات الوجدان وحركية العقل؛ حيث إنها قيم نابعة من خصوصية الثقافات المحلية التي تقودنا نحو مجتمع المنجزات وليس مجتمع المزايدات، هذه الخصوصية التي تحتضن قدرتنا على الانطلاق من جديد لرفع التحديات المستقبلية دون تخاذل أو تردد. وهي كذلك قيم كونية نشترك فيها كحركة شبابية تتطلع إلى إفريقيا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

كما أن هذا المفهوم الجديد نستطيع معه وبه معايشة الزمن العولماتي عبر إنجاز وثبة إبستيمولوجية خاضعة لعملية اكتشاف وبناء مستمرين من داخل وخارج المجتمعات الإفريقية.

فهو ليس بالبناء الكامل الإنجاز والمملوك لنخب بعينها، بل هي الحداثة الشعبية ذاك الوعاء المعرفي لتطابق الذات المستنيرة مع ميكانزمات “العقل الشعبي” قصد تحرر الإرادة من معيقات التطور.

إنها آلية لتمكين الشباب الإفريقي من الغوص العميق في بحر الثقافة العالمية، فلا يمكن أن نستمر في التجديف بين أمواجها العاتية دون أن نكون أحد أجزائها المُشَكِّلَة لها والمُشَكَّلَةِ فيها.

إن الحداثة الشعبية أو الاشتراكية الديمقراطية بخصائص إفريقية هي تحرير للعقل الشعبي وخلخلة للجمود المعرفي الذي كرّسه البعض باسم دوغمائية المثقف أو تحت غطاء الخرافة المُؤَدْلَجَة، وجعل منها حواجز فكرية مانعة لارتقاء الوعي الجمعي للأجيال الإفريقية الصاعدة، وذلك عبر رعاية هذا الجمود المعرفي وإحباط الطاقات بالعيش في صراع الماضي أو بخطابات التضليل والعدمية التي ينبغي تجاوزها بعزيمة الواثق من ملامسة انتصار المستقبل؛ لأن الرؤية الماضوية تفضح فظاعة عجز المثقف عن مواجهة التحديات التي يواجهها الشباب الإفريقي وإفراز الاختيار الصاعد عبر تجاوُز فعل التيئيس وتحفيز بواعث الأمل في نجاح الوثبة المعرفية.

وبالتالي فالحداثة الشعبية هي ممارسة جدلية الكائن الغاضب والمغضوب عليه بين موقعَيه المختلفين، وهي تستحضر قلقها الوجودي دائماً باطمئنان وبروح نقدية لبواعث هذا القلق من داخل “العقل الشعبي”.

وهو ما يستوجب بماهية الغايات استثمار الغضب؛ إذ شتان ما بين المغامرة والتهور؛ لأن مفهوم الحداثة الشعبية وهو يولد من رحم الثقافات المحلية إنما يستوي عقله المعرفي بالارتكاز على مفهوم “ما بعد النقد”، وهو ما يجعل نخب الثقافة العالمة ملزمة بتحيين أدوارها ووظائفها في البحث عن نقد وتفكيك مفهوم الحداثة الشعبية قصد تطويرها، وضمان إفراز رؤيتها النقدية بعيداً عن نواقص التعالي والتسلّط والانزلاقات التحريفية التي من شأنها إعادة إنتاج نفس السلوك السياسي الفاقد للهوية الثقافية والانتماء الفلسفي.

2- الحداثة الشعبية وزمن الذكاء الاصطناعي:

إذا كان اكتساب نَعْتِ الشعبية للاشتراكية الديمقراطية بخصائص إفريقية لا يعني فقط ادعاء الانتماء للثقافات المحلية بل الإنصات الدائم لمحتملها، والتبئير على قوة ركائزها، وجعلها المحرك الأساسي لكل ارتقاء وصعود. فكذلك رفع لواء الحداثة لا يختزل فقط في ادعاء المسايرة والمواكبة وتقفّي آثار الشعوب المتقدمة، بل هو نقد أوليات المنعطفات التاريخية الكامنة في عمق الثقافات المحلية، ورصد نقاط ضعفها، والتركيز على مكامن قوتها بما يخلق الانسجام والتناغم داخل بنية “العقل الشعبي”، بشكل يحتفظ له بخصوصيته ويجعل منه آلية مستعدة دوماً لخوض غمار التطور قبل أن يداهمه الذكاء الاصطناعي بالسؤال عن حقه الآلي في تقرير مصير الإنسانية؟ وقبل أن يصدمه “اللايقين” في تقديم الجواب!

وبالتالي لن نضمن نجاح استراتيجية النضال الحداثي المتضامن إلا ببناء استمرارية مساءلة قلقة، لا تطمئن لمنطق البديهة ولا تكتفي بحكم المسلّمات. استمرارية نقدية تراكم الشك وتمارس وضع الأسئلة الكبرى دون الارتهان للأجوبة الصغرى ذات الأفق المحدود؛ لأن دور الأسئلة هو خلخلة بنية فكرية قائمة جامدة، والعمل الدؤوب لإعادة تشكيل صرح فكري متطور، لا يكتفي بالوصف المؤدي عادة إلى دخول سجن أحكام القيمة؛ بل يسعى نحو التحليل المعبر عن موطن الخلل، والتركيب المبنيّ على وقائع الطبيعة وانتظارات الإنسان. وهو نفس الدور الذي ينبغي أن تعيه نخب الثقافة العالمة بين ممارساتها وإكراهات المحيط العام الذي هو جزء منها بحكم غاياتها التي تريد أن تحققها داخله وليس خارجه.

إنها المحايثة التي تجنبنا الوقوع في طوباوية حالمة وتقينا شر “خلق العوالم” دون القدرة على تصريفها.

فاستراتيجية النضال الحداثي المتضامن هي استمرارية نقدية مسائِلة للأرض الحاملة للخطى والنور البعيد الذي نرنو إليه دون الإصابة برهاب الظلام.

فكما الليل الدامس بظلاميته المثقلة للخطى، والباعثة على اليأس والقنوط والملل، كذلك تبعث الأضواء البراقة الكامنة في الأجوبة الصغرى على الزهو الفارغ والنرجسية القاتلة التي تعيش هالتها نخب الثقافة العالمة وتبني عليها مظلوميتها، بل تسميها اغترابها بتلذذ مفرط داخل الشرنقة الخلابة، وبين ثنايا ثقافتها العالمة تخفي عجزها واتكالها.

تماماً مثلما يتلذذ الداعية، الشيخ الفقيه والمفتي، بنصوص العتاقة وفصاحتها ليخفي عجزه وخوفه من فتح باب الاجتهاد. ثم يَنْضَمُّ المثقف والداعية معاً إلى خانة “العقل المستقيل” ويفتحان المحيط العام على المجهول السياسي في مسرحية التنابز بالألقاب.

إن الاستمرارية النقدية هي عصب الحداثة الشعبية، بين ما ترسب في قعر الثقافات المحلية وما يستدعيه المحيط العام من مساءلة الذات أولاً. فهل نمتلك المناعة الكافية لنقد التفاصيل قبل أن نطالب المحيط بالحصانة؟ وهل نتوفر على ثقافة “المَنْجَمِي” قبل أن نتقلد منصب “المُنَجِّم”؟

لذا فالاستراتيجية في عمقها الثقافي المتنور هي هذا التسلح الدائم والواثق بقابلية التكيف مع المستجد دون الانشداد إلى دوغمائية المثقف، التي لم تسفر إلا على تقوقع يكتفي باستحلاء لحظة الدهشة حين تتوالى صدمات الحداثة.

ولا يعني النقد المستمر جَلْد الذات بل تطويعها بما يخدم قابليتها للتطور؛ إذ إن بناء وهم الحقيقة المطلقة في تصديق مجريات الأمس أو الثقة الساذجة في المستقبل لن يحشر الذات إلا في وهم طلاء “الغرفة المظلمة” كل يوم بلون مزاجي.

وقد تتعدد الألوان البراقة غير أن “الغرفة” تأبى إلا أن تظل “مظلمة” تحجب جدرانها القزحية الأفق البعيد، وتصيب العقل بـ”عماه الثقافة العالمة”.

إن الانشطار الذي تعرفه مكونات الشباب الإفريقي الاشتراكي الديمقراطي اليوم، وجب أن تنتفي مبررات استمراره تبعاً لمحاور الاتفاق المتوفرة في المنطلقات والكثير من الأهداف. وكذلك لأن المستفيد من هذا الانقسام هم سدنة الفكر الخرافي، وهو ما يشكل تهديداً خطيراً على مستقبل الديمقراطية السليمة.

لذا تؤسس الحداثة الشعبية لاستراتيجية النضال الحداثي المتضامن عبر التأمل العميق في “فوضى” الحركة الدولية للتغيير الذي يفضي بنا نحو التأكيد على أن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي مطالب مفتوحة للأجيال الإفريقية الصاعدة التي من اللازم أن تتسلح بما يكفي من المناعة المعرفية والثقافية؛ لكي لا تصادر حيل الخرافة والانغلاق الثقافي حق هذه الأجيال في حرية الاختيار، ولكي لا تصبح حرية الإبداع مقيَّدة وخاضعة لبرمجة الذكاء الاصطناعي.

لإسلام عباسي

عربي بوست- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate