الإعصار المذهبي يكتسح العرب!
كل ما كنا نتخوف منه ونخشاه أصبح حقيقة واقعة. منذ ثلاثين سنة وأنا أعرف أننا سنصل إلى هنا. منذ ثلاثين سنة وأنا أعرف أنه لا مفر من هنا. كل من لم تُصف حساباته التاريخية سوف يظل يستصرخ ويستغيث حتى ينال حقه ويشبع من مضطهديه وينتقم لنفسه. هذا ما يقوله لنا فرويد وكل علم النفس الحديث. هذا ما تقوله لنا المنهجية الجنيالوجية النيتشوية: أي منهجية الحفر الآركيولوجي في الأعماق. وهي المنهجية الوحيدة التي ينبغي تطبيقها على العالم العربي حاليا لكي يتنظف من أدرانه، لكي يخرج من جلده، لكي يتحرر من ذاته؛ فتراكماته التراثية ليست أقل خطرا عليه من الصهيونية والإمبريالية وكل الوحوش الخارجية. كل ما هو مكبوت تاريخيا سوف ينفجر كالمارد لا محالة. ينبغي أن ينفجر ويشبع انفجارا قبل أن يجد حلا أو علاجا.
التاريخ العربي محتقن منذ قرون وقد آن له أن يتنفس. هل تريدون أن تمنعوه من التنفس أيضا؟ والله أنا ما كنت أتجرأ على التنفس في حضرة والدي الشيخ. أنا أكبر أصولي في العالم! ربما كان البيت العربي كله مليئا بالقمع والإرهاب وليس بيتي أنا فقط. وتاليا كل هذا التراث المتراكم فوق بعضه البعض سوف أفككه بيدي تفكيكا. وأصلا لم أفعل شيئا آخر منذ أكثر من ربع قرن. أنا آخر المتفاجئين بما يحصل حاليا. ولتذهب إلى الجحيم كل الشعارات الغوغائية والثرثرات المجانية. كل الثقافة العربية سوف أشطب عليها.
يلزمنا فكر آخر لما يرَ النور بعدُ. السياسة تأتي لاحقا. لم يحن زمن السياسة بعد. ما معنى سياسة تنهض على أنقاض فكر مهترئ؟ ويشهد الله أني كنت أتمنى أن تكذبني حركة التاريخ. كنت أتمنى أن تدحض كل تخوفاتي ومبالغاتي التي يبدو أن وحشية الواقع تجاوزتها بأضعاف مضاعفة. كان الراحل إلياس مرقص يقول لي ونحن نتمشى في شوارع باريس إلى ما لا نهاية: مشكلتك يا هاشم أنك لست متشائما بما فيه الكفاية. كم كان يغيظني ويضحكني عندما يقول هذا الكلام! كم كان يحبطني ويسقط في يدي أنا المتشائم أكثر من شوبنهاور! ولكنه تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة. لن أستقيل!
قبيل مغادرتي مدينة رانس الفرنسية وعودتي إلى المغرب الجميل استعرت بضعة كتب عن الحروب المذهبية الفرنسية الطاحنة بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. هل لكي أعزي نفسي؟ هل لكي أفهم كيف كانوا وحوشا وكيف أصبحوا متمدنين متحضرين بعد أن شبعوا من بعضهم بعضا؟ ربما. من بين هذه الكتب واحد يتحدث عن مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة. وفيه يروي هذه القصة التي تقشعر لها الأبدان والتي لم أستطع إكمال قراءتها إلا بشق النفس. في إحدى المرات كان أحد قادة الأصوليين الكاثوليكيين عائدا إلى باريس من معقله في الريف. ولم يكن يقل إرهابا وجبروتا عن جماعتنا اليوم. وبينما هو سائر محاطا بجنده وحراسه إذا بأحدهم يأتيه مبلغا بأن الزنادقة – أي البروتستانتيين – يقيمون قداسا سريا في إحدى المدن الواقعة على الطريق. فهل نعرج عليهم أم لا؟ استشاط الرجل غضبا فورا وقال مزمجرا: كيف يتجرأون على تدنيس المملكة الفرنسية الطاهرة بصلواتهم ورجسهم؟ لعنهم الله. من سمح لهؤلاء الكفار بأن يمارسوا شعائرهم الدينية وهي محرمة شرعا؟ ينبغي تصفيتهم عن بكرة أبيهم. قال له بعض معاونيه: ولكنْ بينهم نساء وأطفال كثيرون يا سيدنا. فماذا نفعل؟ تردد لحظة بعد أن تذكر أن لديه هو الآخر أيضا امرأة وأطفالا. ولكنه أردف قائلا: افعلوا ما تستطيعون لا أريد أن أعرف التفاصيل. وهذا ما كان. فقد فاجأوهم وهم غارقون في تهجداتهم وصلواتهم وأعملوا فيهم السيوف والرماح. وكنت تسمع صراخ الأطفال والنساء إلى خارج المكان بمسافة بعيدة. من استطاع أن يهرب من النافذة هرب. من استطاع أن يهرب من الأبواب الخلفية هرب. بل وحتى من استطاع النفاذ من السقف فعل. وأما من تبقى، أي الأغلبية، فقد سقطوا مضرجين في دمائهم.. والصورة الموجودة على غلاف الكتاب لا تختلف كثيرا عن فيديوهات اليوم، حيث تجد العشرات وربما المئات مصفوفة جثامينهم بعضها إلى جوار بعض، والآخرين تحولوا إلى أشلاء. ولم يكن ذلك إلا مجرد {مقبلات أو ساندويتشات} إذا جاز التعبير لما سيحصل لاحقا ليلة سانت بارتيلمي الليلاء. ومعلوم أنها أكبر مجزرة وأشهر مجزرة طائفية في تاريخ فرنسا. وقد ذهبت مثلا. وقد ابتدأت بتصفية القادة البروتستانتيين وهم يغطون في نوم عميق وعلى رأسهم الفارس المغوار الكولونيل دو كوليني. فبعد أن باغتوه في عز النوم وهو آمن مطمئن أعملوا فيه السيوف وألقوه من الشباك طعمة للكلاب. وهاج شعب باريس الكاثوليكي على الأقلية البروتستانتية هيجانا جنونيا فذبحوهم عن بكرة أبيهم. ويقال إن لون نهر السين أصبح أحمر قانيا من كثرة الدم المراق والجثث الملقاة فيه.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. وإنما انتقل الهيجان الطائفي المسعور إلى الأقاليم والمحافظات فوصل إلى بوردو وتولوز وليون وعشرات المدن الأخرى. واستمر الذبح والقتل لأيام متتالية. ولم يتوقف إلا بعد أن شبع الدم من الدم. وعندما سمع بابا روما بالعملية رفع لله صلاة الشكر وأمر كل كنائس عاصمة الكاثوليكية العالمية بأن تدق أجراسها فرحا وابتهاجا. وقال عبارته الشهيرة: اليوم انتصر الإيمان الصحيح على الزندقة. لهذا السبب ظهر فلاسفة الأنوار وفككوا الفكر المسيحي الطائفي تفكيكا لا هوادة فيه بعد أن عرفوا أنه هو المسؤول الأول والأخير عن المجازر والمذابح. وركزوا اهتمامهم على المذهب الكاثوليكي البابوي الذي يعد نفسه {الفرقة الناجية} داخل المسيحية ويكفر كل ما عداه. ولم يبقوا في عقائده الدوغمائية حجرة على حجرة. ما معنى فرنسا من دون ديكارت وفولتير ومونتسكيو وديدرو والموسوعيين؟ ما معناها من دون فيكتور هيغو وبقية العباقرة؟
أخيرا خبر مفرح وسط كل هذا الظلام العربي: تعيين جابر عصفور، أحد رجالات التنوير، وزيرا للثقافة في مصر. وهذا يعني أن روح طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وبقية العمالقة لا تزال ترفرف فوق أرض الكنانة على الرغم من كل شيء.
لهاشم صالح
الشرق الأوسط- موقع حزب الحداثة و الديمقراطية