العلمانية شرط الحداثة و أس الديمقراطية
احتل مفهوم (العلمانية) في العقود الأخيرة حيزًا واسعًا في الفضاء الفكري العربي العام بلغ ذروته مع ثورات الربيع العربي في العقد المنصرم، لأن محورها الذي دارت حوله هو هدم أنظمة الاستبداد الشرقي القائمة، والانتقال الى دول حديثة بالمعيار القيمي، لا الزمني، تتأسس على شرعية جديدة تستند الى عقد اجتماعي رضائي بين السلطة والشعب. وفي هذا السياق برزت مفاهيم الديمقراطية والعَلمانية على رأس المطالب التي نادت بها الجماهير في الحراك الثوري، والمبادئ التي شكلت مادة السجالات والمبادئ بين النخب السياسية من كل التيارات، وفي عموم البلدان العربية، بما فيها التي لم تشهد انتفاضات صاخبة، تحت عناوين من ثنائيات الأصالة المعاصرة، التقليد والتجديد، القديم والحديث.
وعلى مدى قرنين انقسمت النخب العربية الى اتجاهين ما زالا ثابتين الى اليوم:
اتجاه تقليدي يدعو الى التمسك بالقديم وإحياء التراث، يقوده الإسلاميون.
واتجاه يدعو للثورة على القديم، والانفتاح على العصر، يقوده التنويريون.
لذلك فإن حوارنا وحديثنا اليوم عن العلمانية هو جزء من عملية سجال وجدال تراكمية وتصاعدية مستمرة منذ قرنين، ولم تحسم ولم تكتب الغلبة فيها لكلا الاتجاهين للأسف. لأن الحوار يدور في حلقة مفرغة كما سنرى.
موقع العلمانية في هذا الحوار:
——————————
وفي بداية حوارنا اليوم أود أن لفت أنظاركم الى أن السجال والجدال لا يتعلق بالعلمانية ذاتها، وإنما يشمل في الواقع قضية (الديمقراطية)، ويمتد الى قضية أوسع هي (الحداثة) لأن العلمانية هي شرط الديمقراطية الرئيسي، إذ لا ديمقراطية بدونها. والديمقراطية بدورها هي أس الحداثة التي تمثل الغاية العليا لشعوبنا. ومن البدهي أنه لا معنى لأخذ العلمانية بمفردها، دون الأخذ بالديمقراطية، ولا قيمة لديمقراطية لا تؤسس لحداثة شاملة وحقيقية، تفضي لنهضة عامة علمية واجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية وانسانية وأخلاقية. إن المفاهيم الثلاثة تشكل رزمة واحدة مندمجة، ولا يمكن اكتساب إحداها دون الآخرين. فالهدف ليس تطبيق العلمانية، بل هو النهضة الوطنية والقومية في مشروع حضاري كبير ينبني على قواعد ثابتة من المداميك، وعناصر الهوية التاريخية، ومنفتح بوعي وجرأة على ثقافة العصر الحديث. مشروع حضاري يخرجنا من ظلمات الجهل الى انوار الحضارة المعاصرة، ويعيد أمتنا الى مسرح التاريخ، كشريك فاعل ومبدع، يصنع ويزرع ويبتكر، غير مهدد بغذائه ومياهه وأمنه، لا يعتمد على الآخرين في توفير الطعام والسلاح والدواء لأبنائه.
وأود لفت عنايتكم الى عنصر قد يبدو ثانويا بينما أراه جوهريا، هو (الجرأة الفكرية) كعنصر مساو لأهمية الوعي التاريخي والحضاري. إذ أن غياب الجرأة والريادة والابتكار عند نخبنا كرس الجمود والتقليد والمحرمات (التابوهات) التي تكلست في عقولنا مع الزمن واكتسبت قداسة مصطنعة. وبدون الشجاعة الادبية سنظل ندور في الحلقة المفرغة مئات أخرى من السنين، نعيش على هامش الحضارة مستهلكين لها مهدَّدين في أمننا ووجودنا. وألفت عنايتكم أيضا إلى أن نهضتنا الكبرى التي حدثت بالإسلام في القرن السابع م، بدأت بما يشبه الثورة التي أطلقها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على الوثنية والجاهلية والمقدسات الخرافية. ولولا الشجاعة والجرأة (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذه الدعوة). وبفضل هذه الشجاعة انتقل العرب بسرعة قياسية من القبلية الى الأمة، ومن البداوة الى الدولة، ومن الجاهلية الى الحداثة، ومن الامية الى الكتابة والعلم والريادة الحضارية. ولذلك سأتناول المسائل الحساسة في محاضرتنا بجرأة تحدوني الرغبة في كسر المحرمات المصطنعة ، والخروج من الدوران الحلزوني في الحلقة المفرغة .
كما ألفت نظركم الى أنني لن أقوم بهذه العملية الخطيرة كمستغرب أو ملحد من خارج الالتزام الواعي بالإسلام ديانة وعقيدة. فأنا متمسك بهويتي الإسلامية، وتعرفني مساجد ستوكهولم طوال ربع قرن محاضرا وواعظا، مما يجعل أفكاري التي سأطرحها بمثابة اجتهادات من داخل الاسلام، ابتغي بها تحقيق (المصالح المرسلة) لأمتنا، لا أبتغي بها الابتعاد عن أصوله وقواعده. فقد اعتدنا أن يكون الدعاة للديمقراطية والحداثة والعلمانية هم من الموسومين بالتغرب والعداء للإسلام والمسلمين إلا ما ندر. ويعي الباحثون المختصون أن تيار التقليد والجمود والسلفية الذي يعادي قيم الحداثة والتحرر والتنوير ليس الوحيد في بلادنا، ولكنه الغالب جماهيريا، لأسباب عديدة لا حاجة لذكرها هنا. إذ كان هناك الى جانبه دائما تيار مجدد لا من النخب العلمانية فقط، بل من الوسط الإسلامي أيضا بدأ مع الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رضا، والكواكبي، وأرسلان وعلي عبد الرزاق وعباس العقاد وعبد الله العلايلي ومحمد أحمد خلف الله ومحمد النويهي ومحمد عابد الجابري وربما (محمد مهدي شمس الدين من الفرقة الامامية)، وراشد الغنوشي من فرقة الاخوان التي تقع بالإجمال في خندق المحاربين بشراسة ضد الديمقراطية والحداثة وصولا الى محمد شحرور. فمنذ اواخر القرن 19 برز تيار حداثوي بعضه ليبرالي وبعضه يساري، توحده الرغبة في كسر الجمود والعمل على التحديث الديني والحضاري بمعناه الجذري العميق. ولا أعتبر شخصي الضعيف بمصاف هؤلاء العلماء والفقهاء الرواد رحمهم الله جميعا، بل أعتبر نفسي متأثرا بنهجهم ومستلهما لأفكارهم. وما سأطرحه عليكم مجرد اجتهادات أولية، وليست فتاوي دينية. هناك قراءات متعددة لهذه المسائل، وهذه قراءة أولية مطروحة للنقاش.
تعريف الدولة الاسلامية في عصرنا الراهن:
بادئ ذي بدء اسمحوا لي أولا أن الخص تعريفات الدولة الاسلامية من منظور الاسلاميين المعاصرين ، وثانيا مفهوم العلمانية كما يفهمها المفكرون العرب من كلا التيارين التقليدي والمجدد .
أولا – الدولة الاسلامية المعاصرة والمنشودة من منظور أبرز الشخصيات والجماعات الاسلامية المعاصرة. والأحكام التي سأوردها استقيتها من الشيوخ محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، هاني السباعي وعثمان الخميس، والمفكرون محمد عمارة ومحمد سليم العوا وحسن الترابي، والقادة الاخوانيون حسن البنا، سيد قطب، مأمون الهضيبي، وعبد المنعم الشحات.
وهناك بين هؤلاء اجماع على خصائص الإسلام التالية:
1 – (الاسلام دين ودولة) ولا اسلام بلا دولة وحكم اسلامي لأن الله يوزع بالسلطان ما لا يوزع بالقرآن.
2 – هذ الدولة ليست دينية، وإنما (مدنية) مع اختلافات غير قليلة في معنى هذا المصطلح، وغالبيتهم ترى أنها دولة مرجعيتها الشريعة، تحكم بالقرآن والسنة. أما مؤسسات الدولة فهي من التكنوقراط والمختصين وحسب.
3 – غالبيتهم الساحقة تتمسك بمبدأ الحاكمية لله. أي أن الحاكم والحكومة والسلطة السياسية العليا تستمد شرعيتها من الله والالتزام بأحكام الدين ونصوصه واجتهادات الفقهاء التابعين.
4 – كلهم يقبلون نظريا مبدأ الشورى في الحكم، ولكنهم لا يتفقون على حدودها وآلياتها ومؤسساتها.
5 – الجميع يرى أن الشريعة الاسلامية تتضمن أحكاما تغطي شؤون المجتمع كافة، وليس العبادات فقط، بل المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والاحوال الشخصية، وبالتالي فلا يحتاج المسلمون لتوسل غيرها من الديانات والشعوب الاخرى، وخاصة الغرب الموصوم دائما بالعداء للإسلام.
6 – غالبيتهم يرون أن التحديث المطلوب في الدولة الاسلامية المنشودة في هذا العصر محدود بمجالات محددة هي مسائل متفرقة كالانتخابات (بدون اجماع) وبمكانة حسنة للمرأة في المجتمع والحياة العامة، وعدم التمييز بين المواطنين بحسب الدين لأن الجميع يؤمن أن دولة الرسول في المدينة كانت مدنية تعترف بالتعددية الدينية.
7 – العلمانية والديمقراطية مرفوضتان بالمطلق لأنهما تناقضان الشريعة، وتحيل الحاكمية للشعب، وهي سرطان غربي يبيح الحريات الجنسية والمحرمات، ويقود للإلحاد والردة والكفر.
8 – بعض من هؤلاء يتمسكون بالمعنى الظاهري للآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) دليل على فرض تطبيق الشريعة في الحكم وكذلك آية (يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله ورسوله).
9 – يقولون إن العلمانية ظهرت في الغرب لأن المسيحية ليس فيها نظام تشريعي كامل ما يسهل على المسيحيين الحكم بالعلمانية وانتهاك مبدأ الحاكمية لله. أما الاسلام ففيه شريعة تلزم المسلمين بالعمل بها.
10 – هناك عدد قليل يدعو لإيجاد ديمقراطية اسلامية (محمد الغزالي) دون أن يبين ما هي وماذا تختلف عن الديمقراطية العلمانية!
ثانيا – مفهوم الدولة العلمانية والديمقراطية من منظور المفكرين العرب والمسلمين المحدثين:
هؤلاء يجمعون على حتمية الأخذ بالديمقراطية الحديثة بما فيها العلمانية، ولا يرون في ذلك انتهاكا للشريعة، بل تحديثا تحتمه الضرورات العملية والحضارية، و(فقه الضرورة) مبدأ أصيل في الشريعة، وكذا (المصالح المرسلة) التي لم ينض عليها كتاب الله وسنة رسوله، وأقرها الفقهاء منذ عصر الخلافة الراشدة. وهم يرون أن الاسلاميين المقلدين يرفعون شعار في هذا العصر (الاسلام هو الحل) ولكنهم لا يطرحون برنامجا يترجمه، وهم أساؤوا للإسلام في تطبيقاتهم المعاصرة، كما سنرى لاحقا.
ولقد استقيت أفكار ورؤى هذا التيار من الشيخ علي عبد الرازق، ومحمد النويهي، ومحمد أحمد خلف الله، وفؤاد زكريا، وصادق العظم، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، وسيد القمني، وسعد الدين ابراهيم وآخرين. وبين هؤلاء اجماع على أن الديمقراطية الحديثة بركنها العلماني الركين:
1 – لا تتعارض مع الاسلام (فؤاد زكريا).
2 – العلمانية الاوروبية لم تتخل عن الدين كما هو شائع، بل جردت الكنيسة ورجال الكهنوت من السلطة السياسية فقط، والدولة العلمانية ليست كافرة (زكريا).
3 – لا ديمقراطية بلا علمانية. والاسلاميون التقليديون يقومون بسلفنة المجتمع. (سيد القمني)
4 – ليس في الاسلام دولة دينية وهي إذا وجدت تكون أقرب في نظر الاسلام للوثنية (ابو حسن الأشعري).
5 – العلمانية لا تعني محاربة الشريعة (سعد الدين ابراهيم).
6 – العلمانية الغربية ليست جزءا من حركة الاستعمار والحملة الصليبية ضد الاسلام، ولا تهدده، بل هي جزء من الحضارة الحديثة، بدأت في الغرب ثم انتشرت في العالم وصارت ثقافة عالمية قابلة للتطبيق في كل البلدان اسلامية ومسيحية وهندوسية، وقد طبقت فعلا في دول عربية واسلامية كثيرة. (زكريا وابراهيم وفرج فودة) بل إن الشيخين الكبيرين جمال الدين الافغاني ومحمد عبده أشارا الى شيء من ذلك، وقالا ما يوحي إنها تتماهى مع الاسلام!
7 – لا توجد نسخة واحدة للعلمانية، ويمكن لكل مجتمع تكييفها مع ثقافته وخصائصه ومقدساته كما فعلت الهند ولبنان واندونيسيا وتونس ومصر وسورية والعراق سابقا.
8 – الاخوان المسلمون يطرحون مواقف مزدوجة من الديمقراطية، وبعضهم يحرمها بالمطلق لأنها كفر في نظر حسن البنا وسيد قطب وسعيد حوا وأمثالهم.
9 – العلمانية في نظر كثير من هؤلاء ليست حمولة محشوة بالأيدولوجيا والحقد على الاسلام وليست مؤامرة غربية ومسيحية، وإنما هي مجرد عملية تنظيمية للدولة الحديثة فرضتها الضرورات المعاصرة والحداثة (فرج فودة). ويصفها صادق جلال العظم بأنها ترتيب أو تنظيم معين للدولة الحديثة تكفل المساواة بين الطوائف والاديان والمواطنين، وتضع الدولة في موقف الحياد الايجابي. أي أنها مسألة تقنية وهندسية فقط، وليست رجسا من عمل الشيطان، ولا مؤامرة على المسلمين، ولا هي التي تنشر الاباحية والشذوذ، وكل هذه المساوئ ناتجة عن الحريات الخاصة والعامة والفكرية والاعلامية. وإذا كان للحرية مساوئ فللاستبداد مساوئ أكبر، لأن الاستبداد والظلم كما قال الكواكبي وفرج فودة وسعد الدين ابراهيم وغيرهم هو مصدر المساوئ والمظالم، كما قال فقهاء المسلمين منذ البداية. فضلا عن الدولة العلمانية يمكنها حماية المجتمع من مساوئ الحرية والتخفيف منها في البلاد الاسلامية.
10 – الغالبية الساحقة من الفقهاء والعلماء قديما وحديثا ترى أن الفرق الاسلامية الرئيسية (13 فرقة رئيسية كما عددها د. محمد سليم العوا في كتابه من (الخوارج الى الاخوان المسلمين) ترفض بالإجماع الدولة الدينية، وتتفق على أن نظام الحكم ونظام الدولة ليس من الاصول في الشريعة، بل هو من الفروع، ومتروك لاختيارات المسلمين في كل عصر وبلد حسب ظروفهم، ولا يشذ عن الاجماع سوى الفرقة الامامية (الشيعة). وتجمع بقية الفرق على أن القرآن والسنة تعمدا اغفال ذكر تحديد الحكم والدولة لأن الله ورسوله تركاهما للمسلمين حسب ظروفهم. ويتحدى الشيخ الدكتور عثمان الخميس (سلفي متشدد) أن يكون في كل القرآن آية واحدة عن نظام الحكم في الاسلام.
11 – يفند المفكر الاسلامي اليساري الراحل محمد احمد خلف الله تفسيرات تيار الاسلاميين السلفيين والاخوان للآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) التي يستندون عليها في زعمهم أن الحكم بالشريعة ملزم وأن الدولة الاسلامية واجبة، وذلك في كتابه القيم (مفهوم الحكم في القرآن) بأن عبارة الحكم الواردة أربع مرات في كتاب الله مقصود بها فصل وفض المنازعات المدنية بين الناس، أي القضاء المدني لا الحكم السياسي. وهذا المعنى قريب من رأي الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب الاسلام واصول الحكم والذي أحدث ثورة عميقة منذ مائة عام، وما زال مرجعا يعتد به.
12 – يدافع بعض هؤلاء المفكرين عن العلمانية بقولهم إنها تنزه الدين عن المتاجرة به من قبل الحكام والساسة والدول والاحزاب، وإخراجه من سوق المزايدات الشعبوية الرخيصة. ويضرب الدكتور العوا (مع إنه اخواني) أن أحد المرشحين للانتخابات العامة في مصر عام 2012 اقتصر برنامجه الانتخابي على عبارتين (انتخبو المرشح الموحد ولا تنتخبوا المرشح الكافر) محرضا على المرشحين الاقباط.
ما هي أسباب عداء الاسلاميين للعلمانية؟:
—————————————
استطاعت الفرق والتيارات الاسلامية في بلادنا منذ مائة سنة تشويه العلمانية والديمقراطية وكل ما يتعلق بالحداثة من مفاهيم وآليات. وإذا كانت جماعة الاخوان هي الاكبر والأوسع انتشارا في العالم مما جعلها (فرقة) كما قال د. العوا تضاهي الفرق الكبرى كالشيعة والزيدية والصوفية والمعتزلة والاشعرية فإنها قامت بدور رئيسي في تكفير العلمانية والديمقراطية والحداثة معا. فالإمام المؤسس حسن البنا ظل حتى مقتله في منتصف القرن العشرين يحرم الديمقراطية والانتخابات ويدعو لدولة اسلامية تحكم بما انزل الله، ورفض احيانا فصل السلطات الثلاث، ودعا لجمعها في يد الحاكم المسلم. ومارست جماعته العنف ضد الذين يخالفونها. وفي ستينيات القرن الماضي دعا مفكرها الأشهر سيد قطب الى تطبيق الحاكمية الالهية ولو بالقوة متبنيا منهج المفكر الهندي أبو الاعلى المودودي، وكفر من يدعو للاشتراكية والديمقراطية والحداثة، ثم كفر المجتمع المصري بالجملة ودعاه لتجديد اسلامه، واسس تنظيما سريا ليقاوم السلطة باسم الجهاد. والجدير بالذكر أن الناطق الرسمي باسم جماعة الاخوان قال عام 2012 بعد فوز محمد مرسي بالرئاسة عندما سئل عن برنامجهم للحكم (جئنا لنعلم المصريين دينهم) ومن قلب هذه التجربة والمعتقدات ولدت عشرات الحركات العنفية المعادية للحداثة والديمقراطية والدعوة للجهاد ضد العلمانيين والمثقفين التنويريين، وقتلت فعلا آلاف المواطنين المسلمين والأجانب. ولم ينته سلوك الاخوان التكفيري والمعادي للحداثة رغم زعمهم أنهم تراجعوا عن افكار قطب، ففي السودان دشنوا نظاما اسلاميا يقوم على الارهاب والاستبداد يشبه نظام الارهاب الأسدي مرتين في عهد النميري وعهد البشير. وفي سورية مارس الاخوان العنف الطائفي بناء على افكار وفتاوى سعيد حوا ومروان حديد وعدنان سعد الدين.
والأخطر مما سبق أنهم استغلوا أسوأ استغلال المنابر والمساجد بفضل مشايخ وأئمة يعادون بشراسة كل حداثة وتقدم وتنوير ، كما استغلوا الاعلام والجمعيات الخيرية التي مولتها دول النفط ، وأشهروا سلاح التكفير ضد خصومهم ، وضد كل ما يمت بصلة للمذاهب القومية واليسارية والعلمانية ، ورفضوا محاورتهم ، وخلقوا أزمات طائفية في مصر وسورية مع الاقليات ، وشكلوا جيشا سريا او طابورا خامسا للدول الرجعية والغربية لتشويه مناهج ومذاهب الحداثة ، وبشروا بالصحوة الإسلامية المباركة التي لم تحقق سوى العودة لما قبل ثورة يوليو وايقاف عجلة التنوير والتحرر ، وزيادة عدد المحجبات ، بينما ازداد في المقابل الفكر الخرافي والفقر والتخلف وكان لهم دور رائد في نشر الفساد الاقتصادي والاجتماعي والنهب واستغلال الناس ( شركات توظيف الاموال ) التي اتضح أنها شركات للاحتيال والمافيا / مما ساهم في انهيار الاخلاق والقيم العامة والوطنية مما شكل انقلابا شاملا وردة على مرحلة التنوير في عصر ثورة يوليو .
ولا زالت هذه الحركات الاسلاموية تقوم بنفس الدور والوظيفة، وكما عملت في السابق لحساب دول الخليج وبريطانيا، تتحالف اليوم مع إيران وتركيا وامريكا في مشاريع مناهضة للعرب والعروبة، وقريبة من الولايات المتحدة ومشاريعها.
ولاستخلاص النتيجة لاحظوا معي المشهدين التاليين:
الأول: ثورة الشعب المصري عام 1919 التي أعقبتها حقبة ازدهرت فيها الحريات نسبيا والثقافة والصحافة وارتفعت اصوات تنادي بالتحرر الاجتماعي والفكري والسياسي وخاصة الليبرالية (قاسم امين ولطفي السيد وطه حسين والعقاد) وفي ذروة هذه الحقبة أسس الاخوان المسلمون حركتهم وبدأوا الدعوة لمحاربة الموجة التنويرية بفكر رجعي متخلف يحرم الديمقراطية ويدعو للخلافة وإحياء السلطنة العثمانية.
الثاني : تكرر المثال السابق بعد ثورة 1952 أيضا حيث نشطت عملية التغيير الاجتماعي حركة التنوير العارمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ـ وانحسرت التيارات السلفية والرجعية ، وانتشرت الافكار اليسارية والقومية التحررية ، فتصدت لها فرقة الاخوان مرة ثانية بالفكر المتطرف والعنف ، متحالفة مع الانظمة العربية النفطية في السبعينيات والثمانينيات حتى سيطرت على الجماهير بفضل المنابر وخطب شيوخ الردة وجيش من الاعلاميين التافهين والفنانين السطحيين , وسيطرت على المحطات التلفزيونية وغسلت أدمغة الجماهير العربية كلها حتى استأصلت كل ما أثمرته حقبة التنوير السابقة وانتهى الأمر بانهيار مصر من داخلها على أيديهم نتيجة دعواتهم المعادية للعصر والعلم والتنوير . وحتى عندما انفجرت ثورة الربيع العربي 2011 استطاع الاخوان وحلفاؤهم احتواء الثورة وتحويلها ثورة اخوانية ونجحوا في الامساك بالسلطة وقلد القرضاوي الخميني في عودته الى مصر وخطبته الشهيرة في ميدان التحرير. وعندما أمسكوا بغالبية مقاعد البرلمان ورئاسة الدولة والحكومة سعوا لتدشين (دولة اخوانية طويلة الأمد) وسلطة استبدادية دينية تفرغ الديمقراطية من محتواها الفعلي.
على صعيد آخر يمكن لمن يريد مراجعة ما يقوله شيوخ ومفكرون كبار منهم عن العلمانية وتعريفه لها وللديمقراطية والحداثة، وعندها سيجد العجب العجاب، وسيكتشف أنهم جميعا لا يفهمون ما تعنيه هذه المركبات العلمية والمفاهيم والمصطلحات، ولا اخفيكم أني قمت بالاستماع لعشرات الندوات والمحاضرات وقرات ما لا يحصى من كتاباتهم وتوصلت الى أن غالبيتهم الساحقة تجهل معنى الديمقراطية. وبعض ما يقولونه عنها يثير الضحك أولا، ثم البكاء. وأدعوكم لسماع ما يقوله مثلا محمد عمارة وهو من أفضلهم لتجدوا أن كل ما يقوله يعبر عن جهل فاضح، كما تفاجأت أن كبارا منهم لا يتورعون عن الافتراء والتحامل غير المبرر ليثبتوا مزاعمهم على خصومهم، ليحققوا مبتغاههم ويضحكوا على الجمهور الساذج وللأسف غدا هؤلاء الشيوخ نجوما شعبوييين كالكشك والغزالي والشعراوي يردد العامة خطبهم واقوالهم، كما لو أنها قرآن منزل، حاشا لله.
والجهل هنا مفهوم ومنطقي فجميع هؤلاء لا يتقنون أي لغة أجنبية، ولم يعيشوا في أي بلد غربي، فأنى لهم أن يتعرفوا على الديمقراطية والعلمانية؟؟ وتذكروا أن محمد عبده والافغاني عندما أقاما في اوروبا بضع سنين، قبل 130سنة قالا عن هذه البلاد العلمانية: لقد وجدنا اسلاما بلا مسلمين وفي بلادنا مسلمون بلا اسلام! وهذا الاكتشاف صحيح حتى الآن. ويعني أن العلامتين العظيمين رأوا قيم الاسلام والعدل وحسن التنظيم واحترام حقوق البشر مجسدة في الواقع كما نراها نحن اليوم فأشادوا بها وانبهروا، وتبعهما الكثير من الفقهاء والعلماء والمفكرين.
ولاستخلاص العبرة نشير الى أن حركة الاستشراق الغربي كان حافزها الرئيسي هو التعرف على بلاد العرب والمسلمين من داخلها بدقة. فكان الواحد منهم يتعلم اللغة العربية، ويعيش في اليمن ونجد ومصر والمغرب سنوات عشرا ليعود لبلاده حاملا كتابا واحدا، بينما المفكر الذي يعتبره الاسلاميون السلفيون عبقري عصرنا محمد عمارة كتب زهاء 200 كتابا بلا قيمة كبيرة، ويتحدث عن العلمانية والديمقراطية بدون اطلاع سوى على ما كتبه اسلاميون مثله! والاستثناءات القلية من هؤلاء، هم الاسلاميون الذين عاشوا في اوروبا ونعموا بظلال علمانيتها وعدالتها وحريتها بعد أن هربوا من بلاد تطبق فيها الشريعة بطريقة عشوائية.
السبب الثالث لهذا العداء للديمقراطية والعلمانية بين الاسلاميين هو خوف الانظمة العربية من انتشار الافكار التنويرية والمطالبة بتحديث مجتمعاتنا المحكومة بالحكم الاستبدادي المطلق والمغلق لكي لا تعم الثورات بلادنا وتسقطهم.
والسبب الرابع هو التعصب الناجم عن الجهل والانغلاق ضد الغرب والمسيحية.
منذ السبعينات حين بدأنا نسمع كلمات وعبارات مثل الصحوة الاسلامية المباركة، والاسلام هو الحل، وانتشار الدشاديش القصيرة وفيديوهات خطب كشك والغزالي والشعراوي والقرضاوي والزنداني والبوطي وحبش والسويدان ثم اكتمال التفاهة والتهافت الى أقصى مداه مع الجاهل المتخلف عمرو خالد صرنا نشعر أننا عدنا الى قاع الانحطاط. وصارت بعض فصائل الثورة الاسلامية تكتب على ابواب ادلب بخط عريض ( الديمقراطية كفر ) ولا أدري إن كان هؤلاء يستطيعون شرح ما حققته صحوتهم المزعومة لأمتنا وشعوبنا ، سوى التصحير الذهني ، ونشر الأمية المقنعة ، ودعم الانظمة المستبدة ، وتحريم الاجتهاد وتكفير المفكرين واغتيالهم واتهامهم بالفسق والالحاد، بينما أجمع فقهاء الأمة الأوائل في العصور الذهبية بحرية الاجتهاد والاعتقاد وحرمة النفس التي خلقها الله وكرمها وأمرها بالتفكير، كما قال عباس العقاد في الأربعينات (إن التفكير في الاسلام فريضة والاجتهاد عبادة ) ، فمن اجتهد وأخطأ فله أجر ولمن أصاب أجران ، وكان العلماء يرون في الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها اخذها لأنه أحق بها .
ولا يدري هؤلاء الاسلاميون المتطرفون أنهم انهزموا شر هزيمة أمام العلمانية بسبب جهلهم وغبائهم. فالعلمانية والديمقراطية في الغرب تفتح أبوابها وأحضانها للإسلام والمسلمين، وتمنحهم الامن والامان وتعينهم على بناء مساجدهم واقامة شعائرهم بينما الاسلاميون المتخلفون يضخون كراهية غير مبررة للمسيحية والديمقراطية ويصدون عن الحداثة صدودا لا حدود له ، فعلى ماذا تنم وتدل هذه المفارقة العجيبة غير الهزيمة الحضارية ..
لمحمد خليفة
ملتقى العروبيين / موقع الحداثة و الديمقراطية