الناقد المزدوج محمد أركون
نكتشف في الثقافة العربية التراث، قبل أن نكتشف الذات أو”الأنا”. بل وتبدو هذه “الأنا” صغيرة، مرذولة، أمام ذلك التراث “العظيم”، لا خيار بيدها، سوى أن تنحني أمامه وتجتر ذكراه وتقدم له القرابين، أو أن تعمد إلى بناء فكر مرتبط بعصرها ومنفتح على أسئلته، وما يترتب عن ذلك من مجابهة نقدية لتراث الآباء، وفق منطق الحاضر، لا منطق السلف. لكن هل تحقق ذلك فعلا داخل الثقافة العربية المعاصرة؟ وأعني هذا الارتباط النقدي وليس الإيديولوجي بفكر الحاضر وتراث الأنا؟ نتعرف في الفكر العربي المعاصر على محاولات أسست ومارست ما يسميه عبد الكبير الخطيبي بـ “النقد المزودج”، ومنها محاولة الخطيبي نفسه رغم شذريتها، والذي مضى في رأيي أبعد من الآخرين في هذا المجال وهو يفكك الخطاب الحمدلي واشتغاله داخل الجسد واختراقه للعلامات المختلفة، ومحاولة محمد أركون التي لا تقل عنها نقدية، في حين ارتهنت المحاولات الأخرى في أغلب الأحيان بالايدولوجيا، وطبعا، حيث تحكم الايدولوجيا، يموت النقد والنقد المزدوج.
لكن لماذا وما “النقد المزدوج”؟
يجيب الخطيبي: “ينصب ـ النقد المزوج ـ علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الإيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة. ويبدو لي أن مثل هذا السبيل هو الكفيل بأن يدعم إستراتيجيتنا: فيمكن البلدان التي تخضع لسيطرة الغرب ـ مهما كان شكل تلك السيطرة ـ من أن تدرك إدراكا أحسن أسس الهيمنة الغربية”.
طبعا سنجد تعبيرات عن هذا “النقد المزوج” وأصداء له عند مفكرين آخرين، يندرجون في السياق النقدي للثقافة العربية المعاصرة، مثل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي لكن في شكل غير مقنع وملون أيديولوجيا.
بل يمكننا أن نقول بأن “النقد المزدوج”، بوصفه تأسيسا للاختلاف، يجب أن يتوجه أيضا ضد بعض أفكار وأطروحات هؤلاء المفكرين، وبعبارة أخرى، إنه موجه ضد تيار القطيعة التاريخية والابستيميائية الذي يمثله العروي خصوصا وتلميذه النجيب عزيز العظمة وتيار العقلنة من الداخل أو “الاستمرارية التاريخية” الذي يمثله الجابري وحسن وحنفي وآخرون.
وحتى نفهم “النقد المزودج” بشكل أوضح، ونتعرف على موقع محمد أركون، هذا الناقد المزدوج بامتياز، داخل الفكر العربي المعاصر، يجب أن نلقي نظرة على الأفكار الأساسية لتيار “القطيعة” وتيار “الاستمرارية”، وسأبدأ بعبد الله العروي، وخصوصا ببعض الأفكار التي طرحها في كتابه المهم:”العرب والفكر التاريخي”، والتي تتلخص في سؤاله المركزي:” هل اللجوء إلى منطق الماضي يقتصد الطريق، يقنع العامة، يدفع الناس إلى قبول الجديد، أم يخضع الحاضر المتجدد لمنطق الماضي الراكد، ويقوي بالتالي، رغم المكاسب الجزئية، دعاة الماضي، غير المقتنعين بضرورة الإصلاحات؟”.
“التشبث بالهوية يتضمن تنكرا للواقع والمستقبل”
يدعونا العروي في لغة يعقوبية إلى الوقوف في وجه ممثل الثقافة الأصلية، وتجليات هذه الثقافة في الواقع والسلوك، مؤكدا بأن التشبث بالهوية من أجل مواجهة الامبريالية، يتضمن تنكرا للواقع والمستقبل. إن العروي ينظر إلى هذا التشبث المرضي بالهوية كنوع من الانفصام ويتنبأ لنا بنكسات قادمة ـ نعيش بعضها اليوم ـ مؤكدا بأن كل محاولة “إدخال أفكار جديدة مستترة في ثوب أفكار قديمة بدعوى اقتصاد الوقت ورسوخ التأثير، أو الوفاء للماضي وتدعيم الشخصية القومية، تركز التقليد وتحكم على نفسها بالتفاهة”، معتبرا أننا غير قادرين على التأثير بالعالم إذا استسلمنا لاجتهاد السلف، ومفرقا بين “الخصوصية” التي تستلهم ثقافة العصر، فهي “حركة متطورة”و”الأصالة” التي تؤبد الوضع القائم وهي في لغة العروي: “سكونية، متحجرة، ملتفتة إلى الماضي”.
ويعمد العروي بعدها إلى الهجوم على أنصار تيار الاستمرارية التاريخية، ويندهش لأمر أولئك الذين يرفضون الأفكار المستوردة من الغرب، مؤكدا بأن علاقتنا بالتراث قد انقطعت، ودعاوي الاستمرارية الثقافية أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع، وهي رؤية تؤكد التخلف والانفصال عن هذا الواقع. ثم ما يلبت العروي أن يكشف عن الأصل النظري الذي يمتح منه أفكاره والذي متى توضح لنا، أدركنا بسهولة سر ذلك الهجوم على كل تعامل مع التراث، وأعني الماركسية، التي يعتبرها “مدرسة للفكر التاريخي”، وحصنا منيعا أمام السلفية والانتقائية.
أما تيار الاستمرارية التاريخية أو العقلنة من الداخل، فرغم تأكيده المتكرر بأنه في قراءته للماضي وعودته إليه، يطلب احتواء هذا الماضي لا العكس، إلا أنه يؤكد من حيث لا يشعر غلبة الماضي على الحاضر وتبعيتنا له، ويظهر ذلك واضحا وهو يحتمي به، رغم كل دعاوي الاستقلالية، في مواجهة تحديات الثقافة الغربية، وأضرب مثالا على ذلك بأطروحات الجابري عن العولمة والهوية الثقافية، حيث يمزج الجابري بين الثقافة والأصالة، دون أن يدرك بأن في هذا المزج رفض للتعدد ورفض للآخر وتأثيره وتناس للواقع وتغييراته.
كما يتبدى بوضوح بأن الجابري يريد أن يواجه العالم وتطوراته المرتبطة بالعولمة وانتشار النموذج الأمريكي بهوية ثقافية غير واضحة المعالم، وترتبط في جزءها الكبير بالماضي. فكيف نواجه الحاضر بالماضي؟ وألا يمثل التواصل التاريخي تخريبا للرؤية التاريخية؟ كما أن فكرته عن وجود عقل عربي، منتج للثقافة والفكر العربيين، تتناسى أن هذه الثقافة هي نتاج تفاعلها مع الثقافات الأخرى، وأن العقل ليس له حدود عرقية.
حسن حنفي: شطط مفاهيمي
إن حسن حنفي لا يبتعد كثيرا عن الجابري وفهمه للآخر وإدراكه للأنا وتراثها، رغم الفوارق المنهجية، إلا أنه يظل أقرب منه إلى الأيديولوجيا والشطط المفاهيمي، ويبدو ذلك واضحا في مقدمة كتابه:”مقدمة في علم الاستغراب”، إذ نلمس رغم دعاوي العلمية، أن مفهومه عن الاستغراب مسكون برغبة ملحة في تحويل الآخر إلى موضوع، وهو فهم شبيه بفهم المستشرقين للشرق، القائم على نزعة التفوق والسيطرة
كما أن حديثه عن الأنا والآخر يظل حديثا ملتبسا وأيديولوجيا رغم الانطباع الموضوعي الذي يمكن أن يوحي به لأول مرة، فلا وجود لأنا خالصة وواحدة ومنتهية ومطلقة، كما أنه لا وجود لآخر واحد وخالص، ولا تحقق للخصوصية إلا خارج التاريخ. وإذا عرجنا على فهم حنفي للتراث، فلا نملك إلا أن نتفق مع نصر حامد أبو زيد ونقده لليسار الإسلامي، كمشروع توفيقي، يمارس التقية، ويخضع الحاضر للماضي، ويغلب الأيديولوجي على الابستمولوجي، متجاهلا، في تعامله مع التراث كبناء شعوري، مثالي، السياق التاريخي والاجتماعي لهذا التراث.
ركون منتقدا للعقل الإسلامي
يتموقع “النقد المزدوج” كما يمارسه أركون ضد التيارين معا وليس بينهما، وكما يرفض مبدأ القطيعة التاريخية والابستيميائية، يرفض أيضا الهوية المنغلقة ودعاوي العقلانية من الداخل، مؤسسا لعلاقة نقدية، ورؤية تفكيكية للعقل الغربي والعقل الإسلامي معا، وهو ما نلمسه بوضوح في نقده للسياج الدوغمائي الذي يحكم الثقافة الإسلامية من جهة، وللاستشراف والعلمانية والمركزية الغربية من جهة ثانية. إن أركون يدعونا إلى كتابة تاريخ نقدي للعقل الإسلامي، وبعبارة أخرى، إلى النظر إلى ما هو أبعد من التاريخ الرسمي للثقافة الإسلامية، والذي يعتقد بوجود عقل ثابت ومفارق للزمن. وفي هذا السياق تندرج دعوته إلى إعادة قراءة علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، من أجل تحقيق هدفين أساسيين. الهدف الأول يبغي تجاوز الرؤية التاريخية الخطية لكل علم من هذه العلوم، من أجل الإمساك بنظام الفكر الإسلامي “الذي يربط بين علم النحو وعلم الألفاظ والمعاني والتفسير والتأريخ وعلم الأصول والأدب الكلاسيكي للكلمة من جهة وبين العلوم المدعوة عقلية من جهة أخرى”.
أما الهدف الثاني فهو “توضيح وتبيان تاريخية العقل الخاصة بتلك الحركة الثقافية التي أدت إلى نتيجة مفادها اعتبار الشريعة والنظر إليها وكأنها التعبير الموثوق عن وصايا الله وأوامره” ويعني بذلك مساهمة علم الأصول في الارتفاع بقوانين ارتبطت بسياق تاريخي محدد إلى مستوى المقدس والمتعالي، وهو ما يدعو أركون إلى تفكيكه، وبلغة أخرى، تفكيك هذا اللامفكر فيه داخل الفكر الإسلامي، والمتمثل في تاريخية العقل الذي بلور علم الأصول. ويرى أركون بأن الفكر الإسلامي المعاصر، المرتبط بإيديولوجيا الكفاح، غير قادر على الدخول في هذه القراءة النقدية ـ التاريخية للتراث، لأنه يعمد أكثر إلى استغلاله أيديولوجيا من أجل تجييش الجماهير. ويضرب أركون مثلا على ذلك بالثورة الإسلامية في إيران، التي، وإن رافقتها عودة لمظاهر وعلامات ثقافية “إسلامية”، إلا أنها تظل بعيدة عن كل دراسة علمية لهذا التراث الديني، إن لم تقف ضد تحقيق ذلك. إن أركون يطالب بمقاربة جديدة للحقيقة الدينية، تقوم على تحليل مستوياتها اللغوية والسيميائية والتاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والفلسفية، بهدف الخروج وتجاوز خطاب الاكتفاء الذاتي.
الإسلاميات التطبيقية في مقابل التعامل التبجيلي مع الإسلام
وفي هذا السياق يؤسس أركون لما يسميه بالإسلاميات التطبيقية في مقابل التعامل التبجيلي مع الإسلام، ومن أجل الانتقال من الاجتهاد التقليدي إلى مرحلة نقد العقل الإسلامي ، وفي تجاوز للاسلاميات الكلاسيكية التي تمثل الخطاب الغربي حول هذا الدين، والتي ركزت عملها على دراسة الثيولوجيا والفلسفة والقانون، أي انحصرت في دراسة الثقافة العالمة أو النصوص المكتوبة والرسمية من ناحية الموضوع، وفي بنيوية ضيقة من ناحية المنهج، متجاهلة الأنظمة السيميائية غير اللغوية التي تشكل الحقل الديني، ومغفلة بذلك، في مقاربتها للظاهرة الإسلامية، فتوحات علوم الإنسان، وواقع أن نقد العقل الإسلامي لا يمكن أن نبحث عنه في بنية النصوص، بل في العلاقات المتشابكة التي ينتجها المجتمع في تفاعله مع تلك النصوص. وهذا الفراغ هو ما تطلب الإسلاميات التطبيقية سده.
يقول أركون، موضحا البعد النقدي المزدوج لمشروعه:”ونظرا لتقدم البحث العلمي في العالم الغربي، فالمجتمعات الإسلامية تجد نفسها دائما تحت الهيمنة المنهجية والابستمولوجية للعلم الغربي. إن الإسلاميات التطبيقية تريد أن تنقض هذه الهيمنة. ذلك أن مهمتها لا تتلخص فقط في إنتاج الدراسات الموثقة والمحققة كما كان الاستشراف قد فعل سابقا، وإنما هي تريد أيضا أن تأخذ على عاتقها مهمة طرح المشاكل الفعلية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، ثم محاولة حلها والسيطرة عليها من قبل المسار العلمي والمنهجية العلمية. هذا هو الهدف المزدوج للاسلاميات التطبيقية”.
إن “الخطاب الديني” يلعب اليوم دورا أساسيا في إنتاج الأيديولجيات الرسمية، كما يلاحظ أركون وغيره، ويساهم في الحفاظ على التوازنات النفسية والاجتماعية، وهو ما يحتم علينا إعادة قراءة الرسالة القرآنية قراءة جديدة، أو قراءة موضوعية، بعيدة عن الخطاب الأورثدوكسي الرسمي، الذي يرتكز على مسلمات معرفية، تمزج الأسطوري بالتاريخي. وهذا يعني أن الإسلاميات التطبيقية تريد دراسة “اللامفكر فيه” و”المحظور التفكير فيه” ضمن الفكر الإسلامي. وفي هذا السياق أيضا يندرج اهتمام أركون بتاريخ العقول المهمشة ـ تاريخ من لا تاريخ لهم ـ داخل الثقافة الإسلامية، مدافعا عن تحقق انسانوية عربية في التاريخ الإسلامي رغم أنه لا يمكن مقارنتها بالحركة الإنسية في أوروبا، لأنها حركة اصطدمت دمويا بالدين، في حين لم ير الإنسانويون العرب تضادا بين الحقيقتين الدينية والعقلية. وقد ندفع بالنتائج إلى حد أبعد من ذلك ونقول بأننا أحوج اليوم إلى تلك الإنسانوية العربية ـ أو ما يمكن أن نسميه بـ “الإنسانوية المزدوجة” ـ و إلى روحها المنفتحة التي عرفت كيف تزاوج بين الدين والعقل، منا إلى الإنسانوية الغربية التي انتصرت للعقل على الدين ولمركزية عقلية اتخذت في أحايين كثيرة وجوها عنيفة في رفض الآخر كما بين ذلك أقطاب “المدرسة الفرنسية” الذين تأثر بهم أركون، وعلى رأسهم ميشيل فوكو وجاك دريدا.
سؤال العلمانية
كان محمد أركون سباقا في دعوته إلى إعادة النظر بالمغامرة التاريخية التي كرست في الغرب نهاية النظام الديني، دون أن يبخس العلمانية دورها التاريخي، والتي جاءت لتضع حدا للحروب الدينية. إن أركون يفرق في صرامة، بين الفكر العلمانوي أو اليعقوبي المتطرف في رفضه للدين والفكر العلماني المنفتح على أقاليم التفكير الأخرى. وفي هذا السياق لا يسع قارئ أركون إلا أن يندهش لوصف رضوان السيد لأركون بالداعية العلماني المتشدد، وهو الذي وصف تجربة مصطفى كمال أتاتورك بالتطرف والكاريكاتورية، ولم يبرح يؤكد بأنه يتوجب على العلمانية أن لا تتحول إلى عقيدة، أو إلى ما أسماه بالعلمانوية المناضلة، التي أسست لها المدرسة الوضعية خصوصا، والتي رأت بأن المرحلة التيولوجية أو اللاهوتية هي في حكم الماضية والمتجاوزة.
إنه موقف تفاقم في الغرب، كما أشار أركون، بسبب انتشار الفلسفة الماركسية، ولكن ليس في الغرب فقط، إذ يكفي أن نعرج في هذا السياق على رؤية المفكر السوري عزيز العظمة للعلمانية في كتابه المعروف:”العلمانية من منظور مختلف”، لنمسك من جهة، بالوجه الحقيقي لهذه العلمانوية النضالية، المتطرفة، التي ينتقدها أركون، ومن جهة أخرى بحقيقة الموقف الأركوني من العلمانية، والتي لا يرى فيها أكثر من علمانية إجرائية، تسمح بحرية الفكر والتعبير واقتسام القناعات والحقائق.
إن الدرس الذي يقدمه لنا محمد أركون، يتلخص في ضرورة تفكيك خطابات الهيمنة بمختلف أشكالها. إنها تلك الخطابات التي ما برحت تعطل خطى التاريخ وتقف حاجزا أمام بناء معرفة تاريخية وتحقيق انفتاح نقدي على الحاضر والماضي. إنه درس يتلخص في تلك الكلمات البليغة لميشيل فوكو:”لعبة التاريخ الكبرى، تتمثل فيمن يفوز بالقواعد، ويسثأتر بها، ويستعملها في معنى مغاير، ويعكسها، لترتد إلى نحور الذين فرضوها”.
لرشيد بوطيب
القنطرة -موقع الحداثة و الديمقراطية