حداثة و ديمقراطية

التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الإقليمية والثنائية1

شكل المنظمات الدولية إحدى الأدوات الدولية التي كانت ومازالت من صناعة الدول، والتي اتفقت الدول على العمل من خلالها على تنمية العلاقات وتطوير التعاون فيما بينها في العديد من مناحي الحياة. ومن هنا جاءت أهمية المواثيق التي تحكم عمل هذه المنظمات، سواء فيما بينها وبين الدول الأعضاء الذين يدخلون في عضويتها، أو غيرها من الدول والمنظمات الأخرى. كما أن المنظمات الدولية لا تخرج من حيث أهدافها، عن كونها منظمات سياسية، أو منظمات متخصصة.. عالمية أو إقليمية..

ومنذ تناول الفقه التنظيم الدولي بالدراسة والتحليل لأهميته، خاصة من الناحية القانونية، فقد أثار موضوع التمييز بين المنظمات العالمية والإقليمية، في القانون الدولي الكثير من الجدل، لأنه وإن كان مدلول العالمية يعني شمول دول العالم أجمع، أو على الأقل قابليته لأن يشمل تلك الدول، فإن الإقليمية تحتاج إلى شيء من التمحيص.

فالإقليمية عند البعض وحدة أرضية تضم مصالح مترابطة، بينما يري البعض الآخر أن الظروف هي التي تحدد مقصود الإقليم في كل حالة على حدة، أي أنه لا يمكن وضع قواعد لتحديد الإقليمية، بل يرجع في ذلك إلى الاتفاق الإقليمي، وبذلك لا يتقيد هذا الفريق بالمعنى الجغرافي للفظ إقليمية، بينما قال فريق ثالث إنه يجب أن يفهم تعبير الإقليمية في مجال القانون الدولي على أنه يعني جزءاً من كل، أي يعني القانون الذي يضم بعض دول العالم، وليس جميعهاً، وذلك على أساس أن كلمة “إقليم” مهما اتسع مدلولها الجغرافي فهي تشير إلى جزء من كل، وهو الكرة الأرضية .

وحتى يمكن تناول طبيعة التدخل الدولي في إطار الاتفاقيات الإقليمية والثنائية، فقد تم تقسيم هذه الدراسة إلى مبحثين: المبحث الأول: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الإقليمية، المبحث الثاني: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الثنائية.

التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الإقليمية

تأتي أهمية تناول طبيعة التدخل الدولي ومدي مشروعيته في إطار الاتفاقيات والمنظمات الإقليمية، من كون التعاون الإقليمي في معظم الحالات يزيد بسبب حاجة يحس بها الإقليم لمقاومة نفوذ خارجي، كما يجري التعاون الإقليمي بين دول متقاربة في نظمها السياسية وفي خلفيتها الثقافية والاقتصادية ويزيد التعاون بين الدول التي يكمل بعضها بعضاً، حيث أن التجانس مصدر هام لقوة المنظمات الإقليمية، ولذلك تتميز بعض هذه المنظمات بدرجة أكبر من القوة والفاعلية. وكلما زاد التجانس زادت قوة المنظمة الإقليمية، وهذا من شأنه التأثير على الحد من الصراعات المسلحة، وكذلك يمكنها من الاتفاق بصورة أكثر فاعلية حول مبدأ عدم التدخل الدولي، خاصة إذا منحت فرصتها بعيداً عن هيمنة الدول الكبرى والتدخلات الخارجية.

فالمنظمات الإقليمية شأنها شأن الأمم المتحدة، نصت مواثيقها على مبدأ عدم التدخل الدولي في شئون الدول الأخرى، وهو ما يمكن تناوله في العرض الآتي:

أولاً: ميثاق منظمة الدول الأمريكية:

تعرضت منظمة الدول الأمريكية في ميثاقها للتدخل الدولي من خلال المادة 15، والتي تنص على: أنه “ليس لأي دولة، أو مجموعة من الدول ـ الحق في التدخل بطريق مباشر أو غير مباشر، لأي سبب كان، في الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، ولا يمنع المبدأ السابق استخدام القوة المسلحة فحسب، بل يمنع أيضاً أي صورة من صور التدخل، أو محاولة الاعتداء على شخصية الدولة، أو على إحدى العناصر السياسية أو الاقتصادية، أو الثقافية التي تكونها”.

وتوضح المادة 16 من ميثاق المنظمة الأمريكية حظر التدخل بقولها: “ليس لأي دولة أن تطبق، أو تعد العدة لاتخاذ وسائل تعسفية ذات صفة اقتصادية أو سياسية لإكراه دولة أخرى، والحصول منها على امتيازات من أى نوع كان”.

كذلك أكدت اللجنة القانونية المشتركة لدول أمريكا اللاتينية، على أن بعض الأعمال لا يجوز إتيانها من قبل الدول الأمريكية ضد غيرها من الدول الأخرى، لأن ذلك يعد غير مشروع ومن هذه الأعمال:

أ ـ السماح بتهريب الأسلحة وأدوات الحرب التي يقصد بها إثارة القلاقل والاضطرابات والفتن، وتشجيع أو تغذية الحروب الأهلية في دول أمريكية.

ب ـ التزويد لأي سبب سابق بالأسلحة أو قطع الغيار لأشخاص أو جماعات أخرى، ويكون بقصد توجيهها للأعمال السابق ذكرها.

ج ـ تشجيع حركات الانفصال أو التمرد في دولة أمريكية، حتى ولو كانت ضد حكومة غير معترف بها.

د ـ الأعمال التي من شأنها الاعتراض على تشكيل حكومة من دولة أخرى، سواء تم ذلك الاعتراض بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

وجاءت اللجنة القانونية المشتركة وفسرت ما جاء في “م15” من ميثاق المنظمة حيث عددت مجموعة من التصرفات، والأعمال الدولية التي لا يجوز إتيانها من قبل الدول الأمريكية في مواجهة بعضها لأنها تشكل تدخلاً في شئون الدول الأخرى، خاصة أوقات الأزمات الداخلية أو النزاعات المسلحة، مثل السماح بتهريب الأسلحة لبث القلاقل والاضطرابات والفتن في الدول الأخرى. أو تغذية الحروب الأهلية في إحدى الدول الأمريكية، حيث أن ذلك يمثل خطراً مباشراً على الدول الأخرى.

ولم يقف الأمر عند عدم التدخل في الصراعات المسلحة، بل إن المنظمة أكدت على أنه لا يجوز مساعدة أى أشخاص أو جماعات تسعى إلى التمرد على الدولة حتى لو كانت هذه الجماعات تتمرد على حكومة غير معترف بها. كذلك لا يجوز لدولة ما في المنظمة الأمريكية أن تعترض بشكل مباشر أو غير مباشر على تشكيل حكومة في دولة ما من الدول الأمريكية.

وما جاء في “م15” من ميثاق منظمة الدول الأمريكية، وكذا ما تم تفسيره في تقرير اللجنة القانونية المشتركة لدول أمريكا اللاتينية، يعد أكثر وضوحاً لبيان الأعمال التي تعد تدخلاً غير مشروع. وهي تعد بحق أكثر تقدماً من “م2/7” الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، لأن هذا الموقف الأمريكي من مبدأ عدم التدخل الدولي في شئون الدول إذا صاحبته آليات إقليمية فاعلة تضع هذه القواعد موضع التنفيذ، فإن ذلك مما لا شك فيه، سيأتي بالاستقرار على المستوى الإقليمي لأنه يعبر عن رغبة إقليمية لها تاريخها، خاصة في علاقة الدول الأمريكية ببعضها، كما أكدت على ذلك اتفاقية مونتفيديو عام 1933.

وعلى الرغم من هذا التقدم، إلا أن عدم وجود تعريف جامع مانع للتدخل الدولي في ميثاق بوجوتا ـ ميثاق منظمة الدول الأمريكية ـ فإن ذلك قد يكون له أثره في إمكانية فتح الباب أمام التدخل لاعتبارات سياسية، وهو ما أكدته الأحداث والواقع عندما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في نيكاراجوا 1984، لتأييد قوات الكونترا ضد الحكومة المركزية، وكذا تدخلها في هايتي عام 1994 للعمل على عودة الرئيس “أريستيد” للسلطة وعزل العسكريين عنها.

ولا تكاد تنقضي حقبة من الزمان حتى تشكو دولة أمريكية، من تدخل دولة أمريكية أخرى في شؤونها، بل إن الانقلابات العسكرية المتوالية، التي تهز الحياة السياسية في القارة الأمريكية، تعد أكثر ما تعد في دولة مجاورة للدولة التي يراد أن يقع الانقلاب فيها، ضاربة بذلك عرض الحائط مبدأ عدم التدخل، الذي أريد به أن يكون ركناً من أركان العلاقات الدولية بين الدول الأمريكية .

ثانياً: ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية:

تعرض ميثاق منظمة الوحدة لأفريقية لمبدأ عدم التدخل، حيث نصت م3/2 منه: “على أنه من المبادئ التي تقوم عليها المنظمة، عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء”. كما أن م3/3 تنص على: “أنه يجب احترام سيادة كل دولة، وسلامة أراضيها وحقها الثابت في كيانها المستقل”. وكذلك م3/5 تنص على: “أنه يجب الاستنكار مطلقاً لأعمال الاغتيال السياسي في جميع الصور، وكذلك ألوان النشاط الهدام التي تقوم بها الدول المجاورة أو أي دولة أخرى”.

كما أن المنظمة في قمتها الثانية “بأكرا” في أكتوبر عام 1965، أصدرت قرارها رقم 27 لبعض الصور والأنشطة التخريبية، التي ربط الميثاق بينها وبين عدم التدخل، حيث أكد القرار المشار إليه على خمسة أنواع من الأنشطة التخريبية، ومنها التشجيع والتحريض للانقسام، والنزاع الداخلي في الدول الأفريقية باستخدام الاختلافات القائمة على أساس الدين أو العنصر أو اللغة، والعمل على تعميق الخلافات السالف ذكرها. وانتهت القمة، إلى عدم مشروعية هذه التصرفات على اعتبار أنها تدخل في شئون الدول الأخرى .

وأكدت المنظمة من خلال تطبيق ميثاقها ونصوصه ذات الصلة عل أن التدخل الدولي غير مشروع في الظروف العادية، ويكون عدم مشروعيته أشد في ظروف النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي. والمنظمة الأفريقية وأن كانت أقل حسماً، في تحديد موقفها من التدخل الدولي، عما قالت به منظمة الدول الأمريكية، إلا أنها تظل أكثر وضوحاً من الأمم المتحدة، في مجال تحديد مبدأ عدم التدخل الدولي، غير أن ذلك لا يمنع من القول بأنها مازالت في حاجة إلى مزيد من الخطوات لتحديد موقفها بدقة وبصورة أكثر وضوحاً من مبدأ عدم التدخل الدولي.

وفي مؤتمر أديس أبابا تكلم أكثر من مسئول عن ضرورة احترام مبدأ عدم التدخل. فقال “هوفويه بواني” رئيس جمهورية ساحل العاج: “إن ما نعتبره مخالفاً لروح الوحدة التي تحركنا جميعاً هو الاغتيال، أو القتل المدبر في الخارج، أو الذي تشترك فيه دولة أجنبية بصورة خفية، وذلك بغية قلب حكومة أو نظام حكم لا يلقى تأييد الدول الأفريقية التي تدبر أو تشجع مثل هذه الأعمال، ومن ثم يتعين على مؤتمرنا أن يحدد سياسة مشتركة نتبعها في مثل هذه الحالات. ويجب أن تكون هذه السياسة واضحة تماماً لهؤلاء الأخوة المزيفين حتى لا تنزلق أفريقيا، فنغرق في مثل هذه الثورات التي طالما مزقت دولاً كثيرة نتيجة لتحريض بعض الطموحين المتعطشين للشهرة، وهذا ما يأتي دائماً على حساب الجماهير المجاهدة التي تغرق بالتالي في الفقر والبؤس، وهي النتائج الحتمية لمثل هذه الاضطرابات”.

كذلك قال “تافاوا باليو” رئيس وزراء نيجيريا حينذاك: “إننا لا نستطيع أن نحقق الوحدة طالما أن بعض الدول الأفريقية لا تزال تمارس أوجه نشاط هدام في دول أفريقية أخرى”.

ولم يمض على هذه التصريحات، وعلى ميثاق أديس أبابا وقت طويل حتى تجاهلت الدول الأفريقية مبدأ عدم التدخل، وانقسمت إلى فريقين: فريق يتدخل في الكونغو ليساند حكومة “ليموبولد فيل” وفريق يتدخل ليساند حكومة “ستانلي فيل”.

3ـ  ميثاق جامعة الدول العربية:

نصت “م8” من ميثاق جامعة الدول العربية الذي تحرر في 22 مارس 1945، في مدينة القاهرة، على “أن تحترم كل الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”.

وبالاطلاع على مواد الميثاق نجد أنه لم يتعرض لمبدأ عدم التدخل الدولي بصورة واضحة، كما جاء في ميثاق الأمم المتحدة في م2/7 منه، أو ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في “م3” منه، أو ميثاق منظمة الدول الأمريكية “م15” منه والتي تعد أكثرها تقدماً، لأنها نصت على مشروعية التدخل المباشر أو غير المباشر، في شئون الدول الأخرى.

ولما كان ميثاق الجامعة العربية لم يتصد لمبدأ عدم التدخل الدولي، إلا بصورة غير مباشرة من خلال “م8” لأنها أكدت على عدم جواز التدخل لتغيير نظام الحكم في الدول العربية، وهي في الحقيقة إحدى صور التدخل، كما أكد الميثاق على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تلجأ إلى القوة لفض المنازعات التي تقع بينها وبين غيرها من الدول العربية، كما الزم كل دولة عربية أن تحترم نظام الحكم القائم في غيرها، وأن تنظر إليه على أنه حق من حقوق تلك الدول، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.

وعلى الرغم من ذلك، طالما ارتفعت الشكوى من جانب دولة عربية تتدخل في شؤونها دولة عربية أخرى ـ بل إن هناك من جاهر، باستنكار مبدأ عدم التدخل بالنسبة إلى العالم العربي، على اعتبار أن القومية العربية تقتضي التدخل المستمر بين الدول العربية بعضها وبعض متخطية الحدود السياسية، والحكومات المحلية، تحقيقاً للإرادة الشعبية العربية .

ونظرة واضعي الميثاق لمبدأ عدم التدخل من خلال عدم جواز تغيير أنظمة الحكم في الدول الأخرى فقط دون غيرها من الأمور التي قد تمس كيان الدولة، هو أمر يمثل في الحقيقة قصوراً واضحاً، يضع الميثاق والمنظمة ككل في مرتبة متدنية بالنسبة للتنظيم الدولي، خاصة في عصرنا الحديث الذي شهد تطورات جد مهمة في إطار إنشاء الكيانات الإقليمية الفاعلة والقوية على الساحة الدولية. وهذا الوضع الذي رسمه الميثاق للمنظمة جعلها عاجزة عن مواجهة مشاكلها، خاصة ما يتعلق بالنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي.

لعبد الله محمود الطناوي

المعهد المصري للدراسات- موقع الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate