اصلاح ديني

الصداقة في التاريخ ديدرو – جان جاك روسو من الانصهار الكامل إلى الطلاق الكامل

نروي باختصار شديد قصة إحدى الصداقات الكبرى في التاريخ. كان ذلك إبان عصر التنوير أواسط القرن الثامن عشر. وأعني بها قصة تلك الصداقة الرائعة التي جمعت بين اثنين من كبار الفلاسفة: ديدرو، وجان جاك روسو. فقد التقى الرجلان في باريس حوالي عام 1742م أي بعد وصول روسو إليها مباشرة تقريبًا. وكانا آنذاك في الثلاثين من عمريهما. كان روسو المولود عام 1712م يكبر ديدرو المولود عام 1713م بسنة واحدة فقط. وبالطبع كانا فقيرين بل شبه معدمين. كانا يبحثان عن الشغل لدى العائلات الأرستقراطية ويشحذان الترجمات وأعمال السكرتاريا من هنا أو هناك لكي يسدَّا الرمقَ ويدفعا أجرة الغرفة في نهاية الشهر. وبالطبع لم يكن أحد يتوقع آنذاك أنهما سيصبحان أكبر مثقفي العصر. صحيح أن شهرة روسو أصبحت أسطورية لاحقًا وتعادل شهرة البطريرك فولتير ذاته، ولكن شهرة ديدرو لم تنفجر فعلًا إلا بعد موته في القرن التاسع عشر. بالطبع كان معروفًا كأحد كبار المفكرين لأنه صاحب مشروع الإنسيكلوبيديا الشهير ومناطح الأصولية والإخوان المسيحيين. ولكن شهرته ظلت أقل بكثير من شهرة فولتير وروسو. على أي حال لنعد إلى البدايات.

طيلة أكثر من عشر سنوات كانا صديقين حميمين لا يكادان يفترقان. كانا «روحًا واحدة في لباسين أو جسدين» كما يقول ديدرو شخصيًّا. وكانا يلتقيان يوميًّا في مقاهي باريس أو عند أحدهما وينخرطان في مناقشات فكرية لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. وكانا يخططان لمصير فرنسا والعالم كله، إذا جاز التعبير. فعلى الرغم من فقرهما الشديد وأنهما نكرة من النكرات فإنهما كانا يعرفان أن نار العبقرية تتأجج في أعماق كل واحد منهما. كانا يعرفان أن لحظتهما آتية لا ريب فيها. وقد أتت بالفعل. العبقري يعرف أن هناك شيئًا ما يعتمل في داخله، شيئًا يغلي غليانًا ويتجاوزه دون أن يعرف كنهه أو سره. 

على أي حال فقد أصبح جان جاك روسو مشهورًا بين عشية وضحاها عندما أصدر خطابه الشهير الأول عام 1750م. أي وهو في الأربعين تقريبًا. وكان ذلك على إثر الإلهام الصاعق الذي نزل عليه فجأة وهو سائر على طريق غابة «فانسين» فطرحه أرضًا. وهي الغابة التي كنت أسكن مقابلها يومًا ما أو قل أراها من نافذة شقتي في الضواحي الباريسية. بدءًا من تلك اللحظة أصبح رجلًا آخر. وبدءًا من تلك اللحظة أصبح ذلك الشخص النكرة التعيس جان جاك روسو: أي نبي العصور الحديثة. هل غار ديدرو منه يا ترى بعد أن اشتعلت شهرته كالحريق في حين ظل هو مغمورًا؟ ربما. على أي حال فالصداقة لا يمكن أن تصمد إذا ما أصبح أحد الصديقين فجأة أكثر شهرة من الصديق الآخر بكثير. لا بد أن تتأثر من جراء ذلك. ثم حصلت أشياء وأشياء بينهما أدَّت إلى القطيعة المرة. وكانت آخر رسالة كتبها روسو إلى ديدرو في عام 1758م. 

ولكن بعد ذلك بسنوات طويلة وربما في أواخر حياتهما طلب ديدرو من صديق مشترك أن يتوسط له لدى روسو، لكي تعود الأمور إلى مجاريها ويستأنفا الصداقة القديمة. لقد حن فجأة إلى زمن مضى وانقضى. نقول ذلك وبخاصة أن روسو كان قد أصبح ملاحقًا في كل مكان ومحاطًا بالأعداء الأقوياء من كل جانب بل مهددًا بالقتل والاغتيال في أي لحظة. فكان جواب روسو بالنفي القاطع. قال لهذا الصديق المشترك: «أعرف كيف أحترم الصداقة حتى لو كانت منطفئة. ولكن لا أعيد إشعالها أبدًا. هذا هو المبدأ الأخلاقي الأعلى الذي ألتزم به». بمعنى آخر: لن نلتقي مرة أخرى يا ديدرو، يا صديق العمر. وداعًا يا صديق الشباب الأول وسنوات الحرمان ومحاولات الوصول. وداعًا لتلك الأيام القديمة. كل هذا أصبح في ذمة الماضي. لن نلتقي في هذا العالم يا صديقي وإنما في العالم الآخر. ولكن المشكلة هي أن ديدرو كان قد أصبح ماديًّا ملحدًا لا يعتقد بوجود عالم آخر ولا من يحزنون. وذلك على عكس روسو الذي ظل مؤمنًا بالله والعناية الإلهية. وهنا يكمن أيضًا أحد أسباب اختلافهما ونفور بعضهما من بعض. إضافة إلى الاختلاف الشخصي حول قضية معينة كان هناك خلاف فكري عميق بين الرجلين. 

ديدرو

ولكن لا ريب في أن صداقتهما كانت قد بلغت الذروة في لحظة من اللحظات. ولأنها كانت قوية جارفة فإن روسو لم يستطع المساومة على أنصاف الحلول فرفض إعادة العلاقة. ومعلوم أن جان جاك روسو كان حساسًا إلى أبعد الحدود، إلى درجة أنهم اتهموه بالهذيان والجنون. والحق أنه وصل إلى أعماق سيكولوجية وأنطولوجية وميتافيزيقية لم يصل إليها شخص آخر في ذلك العصر. حتى فولتير لم يصل إليها. فولتير على الرغم من أهميته يعدّ صحفيًّا عبقريًّا قياسًا إلى صاحب «إميل» و«العقد الاجتماعي». جان جاك روسو هو المفكر الأول والأعمق للعصر. ومن كثرة عمقه لم يستطع أحد مجاراته أو فهمه. 

وأخيرًا نضيف ما يلي: في الواقع كان هناك شخص حقير وخسيس ولكن ماكر جدًّا يدعى «غريم». وهو الذي أفسد الصداقة بين الرجلين. فقد ألَّب ديدرو على صديقه الحميم جان جاك روسو. واستطاع عن طريق النميمة والمناورات والمراوغات أن يفصل ديدرو عن روسو. وبالتالي فالواشي اللعين لا يخرب فقط علاقة الحب بين الحبيبين، وإنما أيضًا علاقة الصداقة بين الصديقين. كم ورد ذكره في الشعر العربي وبخاصة لدى الشعراء العذريين؟ تقريبًا لا توجد قصة حب واحدة في التاريخ إلا ويتصدى لها أحد الوشاة المفسدين. والمشكلة هي أنه ينجح في معظم الأحيان في تخريبها أو القضاء عليها! وبالتالي فلا ينبغي أن تستهينوا إطلاقًا بسموم هذا الجاسوس الخطير المدعو في آدابنا العربية: بالواشي أو النمام.

الصداقة في مرآة كبار الفلاسفة والأدباء

تُعزى للمعلم الأول أرسطو هذه العبارة أو الصرخة التي ندت عنه في لحظة ضيق: آه يا أصدقائي، لا يوجد أصدقاء! وبالفعل فالكثيرون يعتقدون أن الصداقة شيء نسبي جدًّا وعرضة للتقلبات والمتغيرات. ولكن لا ينبغي أن نكون متشائمين أكثر من اللزوم. فالصداقة شيء موجود وهي إحدى القيم الرفيعة إضافة إلى الإخلاص والصدق والاستقامة الأخلاقية… إلخ. والدليل على ذلك أن أرسطو نفسه يمجدها في مكان آخر حيث يقول: الهدف الرئيسي للسياسة هو خلق الصداقة والمودة بين أعضاء المجتمع. ثم يردف أرسطو قائلًا: عندما يكون الناس أصدقاء لا تعود هناك حاجة إلى العدالة إطلاقًا؛ لأنها تصبح تحصيل حاصل. ولكن حتى عندما يكونون عادلين ومنصفين فإنهم يظلون بحاجة إلى الصداقة والمودة. وهذا يعني أن الصداقة من أجمل نعم الحياة. وفي مكان آخر يقول أرسطو هذه العبارة: أن ترغب في أن تكون صديقًا فهذا شيء سهل. ولكن الصداقة ليست سهلة. إنها ثمرة إنضاج طويل وصعب.

ولكن ليس هذا هو رأي الفيلسوف الفرنسي الشهير باسكال. ومعلوم أنه يختصر بعبارة واحدة المجلدات! ولكنه كان متشائمًا بالطبيعة البشرية. يقول هذه العبارة: لو كان الناس يعرفون ما يقوله بعضهم عن بعضهم الآخر لما تبقى على سطح الأرض أربعة أصدقاء! كيف نفهم ذلك؟ كيف نفسره باعتبار أن باسكال لا يلقي الكلام على عواهنه؟ أعتقد أنه يقصد ما يلي: النميمة تشكل جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية. والإنسان يجد متعة كبيرة في التحدث عن نواقص الآخرين بمن فيهم الأصدقاء. ونادرون هم الذين يستطيعون مقاومة هذا الإغراء.

ننتقل الآن إلى فيلسوف آخر لا يقل عبقريةً عن باسكال هو: فريدريك نيتشه. هو الآخر كان متشائمًا من الطبيعة البشرية والدليل على ذلك هذه العبارة الخبيثة جدًّا: لا يمكن للمرأة أن تصبح صديقة للرجل إلا إذا كانت بشعة. أما إذا كانت جميلة وجذابة فإنه سيقع في حبها حتمًا أو سوف يشتهيها. وفي كلتا الحالتين تنتفي الصداقة. والعكس صحيح أيضًا. ولكن هناك عبارة أخرى لنيتشه بليغة جدًّا، تقول: الحب أعمى، أما الصداقة فتغضُّ الطرف. بمعنى أنك عندما تقع في الحب تصبح مولعًا بها إلى درجة أنك لا ترى فيها عيبًا واحدًا. ولا تنكشف لك عيوبها إلا بعد أن ينتهي الحب. أما الصداقة فلا تبهرك ولا تعميك إلى مثل هذا الحد. إنك ترى عيوب الصديق ونواقصه منذ البداية ولكنك تغض الطرف عنها. هذه هي المسألة بكل بساطة.

أما القديس أوغسطين أحد آباء الكنيسة الكبار والجزائري الأصل فيقول هذه العبارة العميقة: لا يمكن أن تعرف حقيقة شخص ما إلا بعد مصادقته. وضمن هذا المعنى نفهم كلمة الروائي الفرنسي الشهير بلزاك: هناك ميزة واحدة للمصائب: هي أنها تكشف لنا عن هوية أصدقائنا الحقيقيين. ويشبه ذلك عبارة شيشرون: الأصدقاء الحقيقيون لا يُعرفون إلا وقت الشدائد. أما الزعيم الأميركي الشهير أبراهام لنكولن فيطرح هذا التساؤل الرائع: ألن أدمر أعدائي إذ أجعل منهم أصدقائي؟ ربما كان هذا التساؤل محصورًا برجال السياسة فقط. أما الحكيم الكبير بوذا فيقول لنا ما يلي: الصديق الشرير غير الصدوق ينبغي أن تخشاه أكثر من الحيوان المفترس. لماذا؟ لأن الوحش الضاري قد يجرحك جسديًّا، أما هو فيجرحك نفسيًّا وروحيًّا وفي أعماق أعماقك. 

لهاشم صالح

الفيصل -موقع الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate