حداثة و ديمقراطية

في سمات فكر ما بعد الحداثة كتابة مدخلية (٢)

• مافوق الحقيقة: تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فجان بودريار – مثلا – ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما ذهب إلى ذلك نيتشه (Neitsze) الذي ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. بينما يربط بودريار الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.

• التخلص من المعايير والقواعد: ما يعرف عن نظريات ما بعد الحداثة في مجال النقد والأدب تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، فميشيل فوكو يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائما، ويحفظها عن ظهر قلب، فيرى أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة، كما أن ديريدا يرفض أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة سحرية ناجحة لتحليل النص الأدبي؛حيث لا يوجد المعنى أصلا مادام مقوضا ومفككا ومشتتا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول جاك ديريدا.

4- رواد نظرية مابعد الحداثة:

من المعلوم أن لمابعد الحداثة روادا ومنظرين وفلاسفة ونقادا، ومن بين هؤلاء نستحضر: الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (Jean Baudrillard) (1929-2007) الذي اشتهر بنقده للتكنولوجيا الحديثة والإعلام. ومن ثم، فقد أدلى جان بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، ومافوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير ، حيث أنكر –  كجاك ديريدا – وجود معنى واضح، بل قال بالدلالات العائمة أو المعنى المغيب. وبالتالي، ” فقد رفض التمييز بين المظاهر والحقائق الكامنة وراء هذه المظاهر. وبالنسبة له، انهارت أخيرا الفوارق بين الدال والمدلول.ولم تعد العلامات تشير إلى مدلولات بأي معنى معقول، حيث يتكون العالم الحقيقي من الدلالات العائمة . وقد شرح بوديار هذه الأفكار في عمله:” التظاهرات والمحاكاة ” (1981م).”[7]

هذا، وقد أنكر جان بودريار ، وذلك مثل: الفيلسوف الألماني نيتشه، وجود الحقيقة مادامت ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة والخطأ والظن والمبالغة المجازية والبلاغة التخييلية ووسائل الإعلام. ومن ثم، فقد قال بودريار بمفهوم “مافوق الحقيقة”:” يتولد مفهوم مافوق الحقيقة، حيث يكون شيء ما حقيقيا فقط عندما يتحرك ضمن نطاق وسائل الإعلام. وتولد تكنولوجيات الاتصال في مابعد الحداثة الصور العائمة بشكل حر، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة إذا لم تكن بصيغة مشتقة. وقد أخذت تجربة العالم للعبث مكان أي ثقافة مميزة ، وأصبح للعبث لهجة واحدة فقط: تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أصبحت كتابات بودريار (على سبيل المثال:” إستراتيجيات فادحة” و” وهم النهاية“) عدمية بشكل متزايد: فقد أصبحت العلامات بلا معنى بسبب تكرارها واختلافها اللذين لاينتهيان…وقد قادت آراؤه المتطرفة إلى العبارة الشهيرة- التي اجتذبت انتقادات قاسية- أن حرب الخليج عام 1991م لم تكن حقيقية، بل كانت حدثا إعلاميا:” إنها غير حقيقية، إنها حرب دون أعراض الحرب”. وهذا ماقاد العديد للشك في أن بودريار نفسه قد ابتعد إلى مافوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسدا دنيويا. “[8]

وعليه، فقد دفعه مفهوم مافوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر:”لا يرى بورديار في حججه أي تفاصيل محددة عن السياقات الثقافية أو الاجتماعية . وليس في كتابة قصص الخيال العلمي والروايات الخيالية. وقد برهن بعضهم أيضا أن العديد من أفكاره قد استبقت في مثل هذه الأعمال. كتب بودريار نفسه مقالا يمدح كاتب الخيال العلمي ج. جي بالارد. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في هذا النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي، وأيضا في مفهوم ” السايبورغ”،وهو هجين من البشر والتكنولوجيا.”[9]

ونستدعي أيضا من رواد مابعد الحداثة  المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998)، الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، وخاصة في كتابه:” حالة مابعد الحداثة” (1979م). ففي هذا الكتاب:” يجادل ليوتار أن المعرفة لا يمكنها أن تدعي أنها تقدم الحقيقة في أي معنى مطلق؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة. وهنا، نجد أن ليوتار مدين بالفضل الكثير لنيتشه وفيتغنشتاين، حيث يدعي أن أهداف التنوير في تحرير الإنسان ، وانتشار المنطق لم ينتج سوى نوع من العجرفة العلمية. وقد رفض يورغن هابرماس قبول هذا التقييم لمصير أهداف التنوير، حيث يعتقد أنها لاتزال قابلة للحياة.”[10]

هذا، وقد ثار ليوتار على التمركز العقلي على غرار رواد الفلسفة التفكيكية (جاك ديريدا مثلا)، منتقدا هيمنته ، واستغلاله،  وانغلاقه، وسطوته على الفن والحياة، حيث “يقدم ليوتار ملاحظة في كتابه:” الخطاب والشخصية” (1971م) بأن البنيوية قد تجاهلتها . فقد ميز ليوتار بين ما “يرى” ويفهم وهو البعد الثالث. أي: الشكل ، وبين مايقرأ في النص ذي البعدين. ويناقش ليوتار مستشهدا بفوكو أن ما يعد تفكيرا عقلانيا من قبل المفكرين الحداثيين هو، في الواقع، شكل من أشكال السيطرة والهيمنة. وبالنسبة لليوتار المستوى ” الشكلي”، الذي يبدو أنه يضم ما يشبه الرغبة الجنسية عند فرويد أو قوة الرغبة، يكتسب معنى موحدا من خلال عمليات التفكير العقلاني، وينتقد ويزعزع ويقلق الفن، من جهة أخرى.أي : معنى من معاني الانتهاء والانغلاق.”[11]

وأهم مايطرحه جان فرانسوا ليوتار في إطار مابعد الحداثة  النقدية الأدبية هو التخلص من القواعد النظرية والمعايير التطبيقية في لحظة الممارسة النقدية، بمعنى أن يتحرر النقد الأدبي من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة. وفي هذا النطاق، يقول دافيد كارتر:” وأحد تلميحات ليوتار عن مابعد الحداثة، وهو أمر هام بالنسبة للإجراءات التي اعتمدها النقد الأدبي، هو أن التحليل يجب أن يمضي قدما دون أي معايير محددة مسبقا، حيث يتم الكشف عن المبادىء والقواعد المنظمة في عملية التحليل.”[12]

ويعد جاك ديريدا (Jacques Derrida) كذلك من أهم فلاسفة مابعد الحداثة ، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية تشتيتا وتأجيلا، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة، وفضح الميثولوجيا البيضاء المبنية على الهيمنة والاستغلال والاستعمار والتغريب والإقصاء. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم ، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، كما ارتأى أن مدلول العلامة ليس مدلولا واحدا، بل هو عبارة عن مدلولات مختلفة، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن ديريدا لا يحب القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب ، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم،  لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية ، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.

هذا، وقد انتقد جاك ديريدا الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول،والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والذكاء، والحساسية، والواقعية، والحقيقة، واليقين، والثقافة، والطبيعة، والتمظهر، والخطإ، والكلام،…

هذا، ويعد ميشيل فوكو(Foucault) كذلك من رواد مابعد الحداثة ، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة ، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. وبتعبير آخر، إن لكل مجتمع قوته وسلطته، ويتم التعبير عن تلك السلطة بالخطاب والمعرفة، وهذا مايوضحه فوكو في كتابه:” نظام الخطاب” (1970م). ويرى فوكو أن ثمة علاقة وثيقة بين المعرفة والقوة، وأن الخطاب حول الإنسان قديم ، وقد أصبح الخطاب في القرن التاسع عشر خطابا حول الإنسان بامتياز. ويتأثر فوكو بنتشه حين يبين مدى ترابط المعرفة بالقوة وسلطة المجتمع، وأن الحقيقة قوة وسلطة. ومن ثم، فقد قرأ المعرفة الإنسانية في ضوء تحليلات حفرية وجينيالوجية ، وذلك في علاقتها بالسلطة. كما ثار ميشيل فوكو على الفلسفة الغربية وتقسيماتها الكلاسيكية، بمعنى أنه قوض الأوهام الفلسفية، وارتأى أن من يمتلك العلم والمعرفة يمتلك السلطة. ويدرس فوكو في كتابه:” المراقبة والعقاب” (1975م)  نظام السلطة ، وذلك باعتبارها مؤسسة مهيكلة ومنظمة ، وجهازا للضبط والتأديب والعقاب، وهي كذلك تعبير عن المجتمع الليبرالي، وقد تأثر فوكو في ذلك بأعمال بنتهام (Bentham). وقد بين فوكو في هذا الكتاب أننا قد انطلقنا تاريخيا  من مرحلة مراقبة الأجساد إلى مرحلة مراقبة العقول والسلوكات. ويعني هذا أن الدولة مبنية على قوة السلطة والتأديب والانضباط، ومراقبة الأفراد أجسادا وعقولا وسلوكات. ومن هنا، فإن السجن – مثلا- نموذج لقوة السلطة الليبرالية وقوة الدولة وهيبتها. ويعني هذا أن فوكو يدعو إلى تحرير الإنسان من السلطة، وتخليصه من قوة الدولة المؤسساتية.

وعليه، يرتبط فوكو بفلسفة السلطة ارتباطا وثيقا، ويدافع عن حرية الذات ، ويبين بأن كل عصر ينتج خطابه المنظم والمهيمن. وبالتالي، يعلن نظام الخطاب حقيقة العالم ، ويجسد معاييره اليقينية الثابتة.

هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب ، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة ، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لايمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد  القراءات واختلافها من ناقد إلى آخر. وقد اهتم فوكو بمواضيع جديدة كالجنوسة  والنظريات الجنسية. وقد كان أكثر الكتاب والفلاسفة الفرنسيين تأثيرا في الثقافة الأنجلوسكسونية.

ومن جهة أخرى، اهتم جيل دولوز (Gilles Deleuze)  بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكا وتفاعلا، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية.  ومن ثم، فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق. كما انتقد دولوز مجموعة من الفلاسفة كدافيد هيوم ، وبرجسون، وليبنز، وسبينوزا. وخصص الأنطولوجيا بدراسات فلسفية عميقة. وقد سخر فلسفته منطلقا لفهم الأدب والفن والسياسة. وبعد ذلك، تحدث عن الحقل الاجتماعي، وصاغ أنطولوجيا ملموسة للفعل والحدث. وقد آمن جيل دولوز بالتعددية والاختلاف ، بعد أن تأثر في ذلك بأطروحات برغسون (Bergson) الحدسية حول الديمومة والزمان والمحايثة والتعددية. وقد اهتم دولوز بفلسفة التأسيس في كتابه:”الاختلاف والتكرار“، وتحدث عن التعددية في إطار الاختلاف، والتعددية- كما هو معلوم –  نقيض فلسفة الهوية. ومن ثم، يربط فلسفة التأسيس بالديمقراطية كفضاء لتحقيق الاختلاف، ويعتبر  الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع. وبالتالي، ففكر التأسيس والاختلاف هو فكر يناقض فكر الهوية والوحدة والإقصاء والتغريب. 

5- أهم نظريات مابعد الحداثة:

ثمة مجموعة من النظريات الأدبية والنقدية والثقافية التي رافقت مرحلة مابعد الحداثة، وذلك مابين سنوات الستين والتسعين من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى  التأويلية، ونظرية التلقي والتقبل، والنظرية التفكيكية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والنظريات الثقافية، والنظرية الجنسية، ونظرية الجنوسة، والنظرية التاريخانية الجديدة، والنظرية العرقية، والنظرية النسوية، والنظرية الجمالية الجديدة، ونظرية مابعد الاستعمار، ونظرية الخطاب (ميشيل فوكو)، والمقاربة التناصية، والمقاربة التداولية،  والمقاربة الإثنوسينولوجية، والمقاربة المتعددة الاختصاصات، والفينومينولوجيا، والنقد البيئي، والنقد الجيني، والنقد الحواري، والمادية الثقافية، وسيميوطيقا التأويل، وسيميوطيقا الأهواء…

هذا، وقد ظهرت النظرية الإسلامية في الحقل الثقافي العربي في الفترة نفسها التي ظهرت فيها نظريات مابعد الحداثة، وذلك في مجالات: النقد والأدب والفن، لكن حداثتها تكمن في دعوتها إلى النظام والانسجام والاعتدال والوضوح، والانطلاق من الثقافة الربانية، واستلهام التصور الإسلامي في الأدب والنقد وجودا ومعرفة وقيمة. وبالتالي، فهي نظرية أخلاقية متوازنة  تهدف إلى البناء، والتأسيس، والتنوير، وتحرير الإنسان من الأوهام الأيديولوجية وإنقاذه من الضلالة والوثنية والعبثية، كما أنها نظرية لا تؤمن بفلسفات التقويض والتشتيت والاختلاف، وتسعى جاهدة للتعمير، والتغيير، وتخليق الإنسان على أسس أخلاقية صحيحة، تلك الأسس المستمدة من المصدر الرباني اليقيني.

6- تقييم تجربة مابعد الحداثة:

من المعلوم أن لنظرية مابعد الحداثة إيجابيات وسلبيات كباقي الظواهر والنظريات الثقافية ، وباقي المناهج النقدية الأدبية. وبالتالي، لايمكن الحديث عن الكمال والتمام في العلوم الإنسانية إطلاقا؛ لأن الأفكار والمناهج والتصورات تتناسخ وتتناسل وتتوالد تناصا وتقويضا وتفكيكا وتأجيلا وتشتيتا. ومن إيجابيات مابعد الحداثة أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير، وتخليصه من هيمنة الميثولوجيا البيضاء. كما تعمل فلسفات مابعد الحداثة على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة ، وذلك عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم، والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة. كما حاربت من جهة أخرى ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية، ثم انتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري بالنقد والتفكيك والتحليل. كما آمنت نظرية مابعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي، كما هو حال الهيرمينوطيقا وجمالية التلقي. واهتمت كذلك بالتناص والاختلاف اللوني والجنوسي والعرقي، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك، والسخرية، والقبح،  والمفارقة والغرابة، واعتنت كذلك بالعرضية، والمهمش، والمدنس، وانزاحت عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة. واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللانظام، ونددت بالمفاهيم القمعية القسرية وسلطة القوة…

بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات مابعد الحداثة واقعيا لغرابتها وشذوذها. و” بذلك، استهلكت مابعد الحداثة قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لاغرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة  مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لايترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع مابعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت مابعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة ، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو مابعد حداثية.”[13]

ويلاحظ أن نظرية مابعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها ؛ نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:” وقد اجتذبت مابعد الحداثة نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعد حقبة مابعد الحداثة أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية. وأحد الأنواع الأدبية الشائعة التي تمكن من الاعتراف الآني، وتفكك الأنماط الأدبية التقليدية. يحطم كتاب الحداثة الحدود بين الخطابات المختلفة، وبين القصص الخيالية وغير الخيالية ، وبين التاريخ والسيرة الذاتية (ومثال ساطع على ذلك هو كتابات و.ج.سيبالد).”[14]

وهكذا، نجد أن فلسفة مابعد الحداثة لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلا عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

خلاصات ونتائج:

وخلاصة القول؛ نستنتج مما سبق ذكره أن فلسفات ما بعد الحداثة عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، و تعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، وذلك عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الكولونيالي، ومحارية التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.

بيد أن لمابعد الحداثة كذلك عيوبها الخطيرة، ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية  وعدمية وتقويضية تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لاقيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.


[1] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية ، سنة 2000م، ص:138.

[2] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:130.

[3] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ص:131.

[4] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ص:131.

[5] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص:143.

[6] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص:142.

[7] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:132.

[8] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:133.

[9] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:133.

[10] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[11] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[12] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[13] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: المرجع السابق، ص:138.

[14] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص144.

جميل الحمداوي

شبكة الألوكة / موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate