لا حداثة بدون علمنة، والعلمنة ليست “كفر” كما يتوهم الكثير في العالم الاسلامي
لم يشتهر مصطلح في العالم ولم ينتشر مثلما اشتهر مصطلح الحداثة وانتشر. صحيح ان مصطلح العولمة، اصبح مشهورا جدا الآن، ولكنه حديث العهد ولا يتجاوز عمره بضع سنوات، يضاف الى ذلك انه مرادف للأول او امتداد له. امام مفهوم الحداثة فقد اصبح قديما من كثرة استخدامه وعريقا في ذات الوقت.
والواقع ان الكلمة تعود الى بودلير ومنتصف القرن التاسع عشر (1849) Modernite. وربما كانت قد ظهرت في اللغة الانكليزية قبل ذلك التاريخ تحت اسم Modernity ولكنها لم تنتشر فعلا الا على يد بودلير وجماعته. وبالتالي فالكلمة انتشرت في مجال الشعر والفن قبل ان تصل الى الفلسفة والفكر. مهما يكن من أمر& فان هذه الكلمة التي كان يخشى بودلير ان تصدم حساسية الناس والتي كاد يعتذر& لاختراعها (!) اصبحت فيما بعد اشهر كلمة في العالم. والواقع ان الفلاسفة يقسمون تاريخ الفكر الى ثلاثة أحقاب كبيرة: العصور اليونانية-الرومانية القديمة، العصورالوسطى المسيحية، عصور الحداثة.
الكل يريد التمتع بثمار الحداثةبالطبع فان هذا التقسيم لا ينطبق الا على تاريخ الفكر الاوروبي اوالغربي.واما الفكر العربي-الاسلامي فله تقسيم اخر يناسبه، وقل الأمر ذاته عن الفكر الهندي، او الصيني،الخ.. ومصطلح الحداثة لا ينطبق الا على الدول السبع الكبار التي تحكم العالم:أي الولايات المتحدة الاميركية، انكلترا، فرنسا، كندا، ايطاليا، المانيا،& اليابان. أما الدول الاخرى فهي تسعى جاهدة نحو الحداثة، أي للدخول في جنة الحداثة. ومن أهمها الآن الصين، والهند، وروسيا بالطبع، والعالم العربي والعالم الافريقي، واميركا اللاتينية وكل العالم في نهاية المطاف. الجميع يريدون ان يتمتعوا بثمار الحداثة، ولكن الحداثة لا تعطي نفسها بسهولة.. فقد يمتلك بلد ما كل اجهزة الحداثة وآلاتها -من برادات وغسالات وعقول الكترونية، وسيارات..- دون ان يكون حديثا. وذلك لأن الحداثة تنقسم الى قسمين: حداثة مادية، وحداثة عقلية او فكرية.
وبامكانك ان تستورد الاولى جاهزة اذا كنت غنيا، ولكن الثانية لا تشترى حتى بالذهب. كما ان الحداثة الفكرية او الفنية اوالفلسفية ليست في متناول أي شخص او بلد. وتشكلها يتطلب وقتا طويلا، كما يتطلب خوض معركة حقيقية مع الذات التراثية. وليس كل الناس بقادرين على ذلك، والدليل على ما نقول ما يحصل الان في عالمنا العربي والاسلامي. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان بودريار ان الحداثة& هي نمط حضاري مضاد للنمط التقليدي الذي سيطر على البشرية طيلة قرون وقرون، بل ولا يزال يسيطر على معظم الدول حتى الآن.الحداثة اسطورة تحلم بهل الجياعوقد ولدت الحداثة في اوروبا أولا، ثم راحت تشعّ على العالم منها بعدئذ. والحداثة اسطورة وحقيقة واقعة في ذات الوقت. فهناك هالة كبيرة تحيط بالحداثة، وجاذبيتها لا تقاوم. والدليل على ذلك ان شبيبة العالم كلها قد تهاجر الى بلدان اوروبا والغرب لواتيح لها ذلك أو لو فتحت الابواب أمامها. فهي تشاهد على شاشات التلفزيون نمط الحياة الاستهلاكية الاوروبية، والافلام السينمائية، والحريات الجنسية وغير الجنسية، وتحلم بان تتمتع بذلك يوما كالشبيبة الاوروبية او الاميركية.وبالتالي فقد تحولت الحداثة الى اسطورة تحلم بها ملايين الجياع والمقموعين في آسيا،وافريقيا وروسيا وجميع انحاء العالم. ولكن وراء هذه الاسطورة توجد الحقيقة: أي حقيقة الحداثة وواقعها اليومي. وهي ليست كلها عسلا، على عكس ما يتوهم ابناء العالم الثالث الذين ينظرون اليها من بعيد من خلال شاشات التلفزيون والافلام السينمائية.
فالحداثة لها ايضا همومها، ومشاكلها، ومتاعبها، كما ان لها شططها وانحرافاتها. ولكن تبقى ايجابياتها اكبر من سلبياتها بالطبع. ولولا ذلك لما انهار العالم الشيوعي ولما اخذت حتى روسيا او الصين تحاول تقليدها اوالتوصل اليها.& لقد ولدت الحداثة نتيجة الانقلابات العميقة التي طرأت على التركبية الاقتصادية والاجتماعية للبلدان الاوروبية. فهذه البلدان كانت ايضا زراعية، فلاحية، فقيرة، اصولية، متخلفة مثلنا واكثر وبكن بدءا من القرن السادس عشر راحت تطرأ عليها بعض المتغيرات الكبرى التي تواصلت في القرن السابع عشر، فالثامن عشر، فالتاسع عشر، فالعشرين، حتى توصلت اوروبا الى ما توصلت اليه اليوم من تقدم وازدهار. وقد سارت، الحداثة بشكل متساوق على عدة اصعدة اومستويات:الحداثة واكتشاف& اميركاالمستوى العلمي- التكنولوجي، فالمستوى الديني- اللاهوتي، فالمستوى الفلسفي، فالمستوى الصناعي-الاقتصادي، فالمستوى السياسي-القانوني،الخ.. وبالتالي فالحداثة عبارة عن حقيقة كلية متكاملة: فاما ان تكون حديثا او لا تكون..ولا يكفي ان نمتلك بعض مظاهرها، او نستورد بعض اجهزتها كما قلنا لكي نصبح حديثين. والواقع ان الحداثة- كظاهرة شمولية- لم تظهر الا في اوروبا ابان القرن السادس عشر، ولم تبلغ ذروتها الا في القرن التاسع عشر.وهناك عدة احداث او وقائع يتخذها المؤرخون كدليل على بداية الازمنة الحديثة. نذكر من بينها اكتشاف امريكا من قبل كريستوف كولومبوس عام 1492، ثم اكتشاف المطبعة من قبل غوتنبرغ 1434، ثم الاكتشافات الفلكية لكوبرنيكوس 1543 (دوران الأرض حول الشمس وليس العكس).
ومن الاحداث الاساسية التي يؤَرَّخ بداية العصور الحديثة بها اندلاع حركة الاصلاح الديني الشهيرة على يد “لوثر” في ألمانيا عام 1517.فهذا الحدث هزّ أوروبا هزا وزعزع الدوغمائية اللاهوتية والجمود المسيحي او الكنسي ودعا الى تحكيم العقل والتفحص الحرفي في مسائل الدين وشؤون العقيدة. ثم ينبغي الا ننسى ذلك الحدث الكبير المتمثل بعصر النهضة وازدهار الحركة الانسانية في ايطاليا اولا (هيومانيزم Humanisme) وفي بقية بلدان اوروبا ثانيا.ثم تواصلت حركة الحداثة في القرون التالية كما ذكرنا آنفا وكما سنعود اليه تفصيلا فيماب عد.نشاط فكري حر محمي من الدعاية السياسيةولكن ما هو تعريف الحداثة؟ وهل يتفق العلماء على تعريفها؟ يرى عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين ان الحداثة ليست عبارة عن مجرد تتابع للحظات الزمن، او تغيّر صرف، وانما هي نشر المنتوجات الفعالية العقلانية للبشر، وكذلك الفعالية العلمية، والتكنولوجية، والادارية. ان الحداثة تموضع العلم في مركز الحياة الاجتماعية بدلا من العقلية الغيبية او الميتافيزيقية.وأما العقائد الدينية فتحصرها داخل اطار الحياة الخاصة للفرد. ولا يكفي ان توجد التطبيقات التكنولوجية للعلم في مجتمع ما لكي نقول بانه حديث. وانما ينبغي ان توجد فيه فعالية فكرية او نشاط فكري حر: أي محمي من الدعاية السياسية والعقائد التقليدية التي تفرض نفسها على الناس من فوق دون مناقشة. كما ان مجتمع الحداثة يمتلك قوانين عامة تنطبق على جميع المواطنين بغض النظرعن اصلهم وفصلهم وعلاقات القرابة التي يتمتعون بها او لا يتمتعون.
فمحاباة الاقارب في التوظيف او سواه ممنوعة، وذلك على عكس ما هو سائد في مجتمعات ما قبل الحداثة حيث تسود علاقات المحسوبية والرشاوى والفساد على اوسع نطاق. القانون في مجتمعات الحداثة ينطبق على كل الناس من ابن رئيس الجمهورية الى اصغر مواطن في البلد، ولا يوجد شخص فوق القانون. ولذلك نسمع كثيرا عن محاكمة الوزراء وابناء الرؤساء والعائلات الكبرى في المجتمعات الاوروبية المتقدمة. وهذا شيء مستحيل في بلدان العالم الثالث.الحداثة حكم العقل لا النقلفي الواقع ان فكرة الحداثة مرتبطة بشكل وثيق بفكرة العقلنة او العقلانية. وحداثة بدون تنظيم عقلاني للمجتمع على كافة الاصعدة والمستويات ليست حداثة.ان الحداثة هي عبارة عن تلك المغامرة الرائعة التي انخرطت فيها اوروبا بدءا من القرن السادس عشر، والتي أدت الى شيوع العقلانية والسعادة والحرية في المجتمعات الغربية. كما وأدت الى تدمير العقائد التقليدية التي كانت مسيطرة في السابق. فالعقل في مجتمعات الحداثة لا يتحكم& فقط بالفعالية العلمية والتكنولوجية، وانما يتحكم ايضا بمصير البشر وكيفية تسيير امورهم وتسيير كل الاشياء في المجتمع. بهذا المعنى فان الحداثة هي حكم العقل لا النقل.
كانت الحداثة احيانا تتصور المجتمع على هيئة نظام او بنيان مرتكز على الحسابات الرياضية. وكانت احيانا تجعل من العقل أداة لخدمة الأفراد ومتعهم. واحيانا اخرى كانت تستخدم العقل (ولا تزال) كسلاح نقدي ضد كل السلطات الفوقية وذلك من اجل تحرير الطبيعة البشرية التي سحقتها الهيبة اللاهوتية. ولكنها في كل الحالات جعلت من العقلنة المبدأ الوحيد لتنظيم الحياة الفردية والجماعية، وذلك عن طريق ربطه بمبدأ آخرهومبدأ العلمنة. فحداثة بدون علمنة ليست حداثة، ولكن بشرط ألا نفهم العلمنة على انها كفر كما يتوهم الكثير من الناس في العالم الاسلامي او العربي. فالعلمنة لا تعني الكفر او فرض الالحاد على الناس بالقوة كما فعلت الشيوعية، وانما تعني احترام الحرية الدينية والتعددية العقائدية في المجتمع، ثم التمييز بين المواطن وانتمائه الطائفي او المذهبي، ومعاملة جميع المواطنين على قدم المساواة امام مؤسسات الدولة والتوظيف والقانون والادارة العامة، الخ… ودولة العلمنة تكفل لجميع الاديان حرية أداء طقوسها وشعائرها دون تمييز أي دين على اخر، اواي مذهب على اخر.. كل العقائد الدينية محترمة في دولة العلمنة،وينبغي ان تحترم.سيادة العقل في شتى المجالاتأما الفيلسوف الالماني يورغين هابرماس فيرى ايضا ان الحداثة تعني حكم العقلنة او سيادة العقل في شتى مجالات المجتمع. فمجتمع غير منظم عقلانيا ليس مجتمعا حديثا، وانما هو مجتمع تقليدي. وفي مقدمة كتابه الشهير “الخطاب الفلسفي للحداثة” يقول هابرماس بما معناه: لماذا سار التطور العلمي، والفني، والسياسي، والاقتصادي في اوروبا باتجاه العقلنة، ولم يحصل نفس الشيء في مكان اخر في العالم؟ بمعنى اخر: لماذا انحصرت الحداثة بمجتمعات اوروبا الغربية التي شهدت ازدهار العقلانية بشكل لم يسبق له مثيل من قبل؟
صحيح ان الحضارات الاخرى كالعربية، والصينية، والهندية الخ.. لم تخل من العقلانية. ولكن القارة الاوروبية هي وحدها التي شهدت انتصار العقل والعقلانية بشكل كامل. فما هو سر ذلك يا ترى؟ في الواقع انه يكفي ان ننتقل من أي مجتمع اوروبي منظم عقلانيا كالمجتمع الانكليزي او الالماني مثلا الى أي مجتمع عربي تقليدي وفوضوي لكي ندرك الفرق واضحا كليا، ونفهم معنى الحداثة ومضمونها. هذا لا يعني بالطبع ان هناك تفوقا عنصريا اوأزليا للانسان الاوروبي على الانسان العربي، او الهندي، او الافريقي. وانما هناك ظروف تاريخية معنية تضافرت وأدت الى ظهور الحداثة في اوروبا. فقد تتوصل بلداننا نحن أيضا الى الحداثة والعقلنة في يوم ما.وهي حتما سائرة في هذا الاتجاه على الرغم من كل الكوارث والمحن التي تتعرض لها حاليا.
مهما يكن من أمر فان فهم ظاهرة ضخمة، كظاهرة الحداثة، يتطلب منا ان نستعرض بداياتها الاولى منذ القرن السادس عشر، وكيف نمت بعدئذ وتطورت على مدار القرن السابع عشر، فالثامن عشر، فالتاسع عشر، فالعشرين حتى وصلت الى ما وصلت اليه اليوم من اكتمال وانتشار. بل واصبحوا يتحدثون اليوم عن فترة “ما بعد الحداثة” بعد أن تأزمت الحداثة ووصلت الى آخر الشوط. .
هاشم صالح
الإيلاف- موقع الحداثة و الديمقراطية