تحديث الفكر السياسي لبناء الديمقراطية
التحديث الذي تحتاج إليه المجتمعات هو قيام المجتمع المدني الذي يعني بالدرجة الأولى كل نوعيات وأشكال العمل المدني التي يقوم بها من خلال الأدوار المتعددة التى يشارك بها الدولة فى تنفيذ مهامها. إن المجتمع المدني أيضا لا ينمو و يتطور إلا في ظل وجود مجتمع حر مكون من أفراد متمتعين بمواطنتهم يومنون بالعمل الديمقراطي، ويتبادلون بشكل عادل، نتائج و ثمار العمل الاجتماعي ويعملون على تدعيم الأسس الديمقراطية لتداول القيم والمصالح في سياق منظم و قانوني واضح بعيدا عن المصالح الذاتيه والانانية، غير أن كل ذلك يتطلب ايضا ثقافة سياسية تقوم على المشاركة و الاختلاف و التعددية و تساهم بالتالي في خلق فضاءات اجتماعية وسياسية جديدة. وهو المناخ الذي كان غائبا على مستوى المشهد السياسي فى الدول الحديثه، حيث إن أجهزة الدولة فى تلك البلاد تسيطر على كافة فضاءات التعبير و تراقبها و لا تسمح إلا بهامش ضئيل من النقد والإحتجاج الذي لا يجب أن يتجاوز في شتى الحالات الحدود المسموح بها وبالتالى لم تستطيع منظمات المجتمع الجاده فى بناء ثقافة سياسية تكون عاملا مساعدا لتحقيق أهداف التغيير. . توجد فى هذه الدول العديد من مؤسسات المجتمع المدني تتوزع بين منظمات تعنى بحقوق الإنسان ومنظمات تسعى للدفاع عن التنمية وحرية المرأة وحرية و حقوق الطفل، وجمعيات مهنية ينظر إليها المواطن كقوة مضافة إلى التكتلات السياسية و المنظمات النقابية للمطالبة بالإصلاح و التغيير ولكن معظم هذه الموسسات المدنية غير فعاله و أداءها على مستوى الممارسة الواقعية يفضي إلى القول بأنها تفتقر إلى الفعالية ،وبالتالى تحولت إلى مؤسسات صورية و شكلية لاستكمال المشهد المؤسساتي الهش ، فانهارت، بفعل ذلك، طموحات فئات عريضة من المواطنين في بناء مؤسسات و تنظيمات قادرة على المشاركه فى البناء التنموي للمجتمع. حيث تم تضييق مجال المجتمع المدني وحصره في تقديم الخدمات الاجتماعية بدلا من المشاركة مع الدولة فى العمل التنموي العام، و استبعدت ما هو أهم مثل تمكن مؤسسات المجتمع المدني من التعبير عن قيم الديمقراطية وتقف مجموعة من التحديات و العوائق حجرة عثرة أمام تحقيق مؤسسات المجتمع المدني لأهدافها و لدورها في تطويق ومحاصرة البنى التقليدية للمجتمعات ، مما أفقدته فعاليته فأصبح ليس له علاقه بعمليات التحديث و الإصلاح المنشود، وافرضت عليه القيود التي حدت من قدرته على الحركة وشلت إرادته في التغيير. وتعاني أيضا معظم مؤسسات المجتمع المدني من التوتر في العلاقة مع أجهزة الدولة و نظامها السياسي الذي يضع ضمن أولوياته الأولى مراقبة فضاء الفعل السياسي و الإقتصادي و الاعلامى مراقبة شديدة، مما يستحيل معه ظهور أية مؤسسة أو تنظيم لا يحظى بالموافقة المسبقة لأجهزة النظام المختصة. قد يكون لدى بعض الدول اسبابها لخوفها من هذه المنظمات لزعزعه الاستقرار خاصة بعض منظمات المجتمع المدني ذات التوجهات الخاصة والتى تستغل فضاءت الحرية لتطبيق اجندتها. فقد سعت العديد من الأنظمة السياسية إلى تسخير أجهزتها و سياساتها في خدمة مركزيتها و شمولية أنظمتها، فتبنت أساليب التضييق على كل من يحمل توجها لبناء مجتمع مدني حقيقي بعيدا عن سلطة الدولة. هذا ما حرم المجتمعات من نقطة الارتكاز الضرورية لبناء هياكل ومؤسسات من طبيعة مدنية، أي قائمة على أسس قانونية سياسية عقلانية وعلى الشراكة بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ما نريد أن نقوله بأن وجود ديموقراطية في بلد ما يجب بنائها تدريجيا وتدريب وتثقيف المجتمع عليها، قد يستغرق ذلك عشرات السنوات. يقال بأن التجربة الديمقراطية فى الهند استغرقت اكثر من عشرات السنوات ، وقد طبقها الاستعمار الإنجليزى قبل إعطاء الهنود استقلالهم، وكانت هناك نخبة من الهنود المثقفيين الذين تبنوا عملية دعم التوجة الديمقراطي وكان لهؤلاء النخبة من المثقفيين دور بارز فى قيادة هذا التحول، ماتنعم به الهند وغيرها اليوم من مشاركة وتعددية من خلال نظام ديمقراطي ليبرالي.وإذا كانت الهند اليوم أقدم ديمقراطية وأكبرديمقراطية على مستوى العالم لم تأتى من فراغ بل كان هناك تدرج فى العمل الديموقراطي هذا أدى فى النهاية الى حكم لبيرالي الذى لولاه لدخلت الهند فى حمام دم بسبب كثرة و تعدد الديانات واللغات والعرقيات التى تعيش فى شبه القارة الهندية.
إن التفكير في بناء الديمقراطية كطريقة لتحديث البنى السياسية التقليدية في العالم دفع إلى التساؤل حول الشروط والإمكانيات الثقافية و الاجتماعية التى تساعد فى تحقيق الديمقراطية أوخلق مجتمع ديمقراطي لديه الإستعداد للتحول الديمقراطي اي تبني قيم ديمقراطية من عدالة وتسامح وتقبل الاخر وكذلك التعددية وسيادة القانون واحترام الحقوق المدنية والانسانية، حيث لا يمكن لأي مجتمع التحول الى مجتمع حديث بدون أن تكون لدية ثقافة سياسية تؤهله للتغيير. مايحدث فى وقتنا هذا من تداعيات سياسية فى بعض المجتمعات دليل واضح على ما نسرده فى هذا المقال ، بالرغم من قدرة الشعوب على القيام بالتغيير السياسي فى ما بعض الدول ولكنها اصطدمت بوجود عقبات من ضمنها عدم وجود بنى سياسية حديثة يستطيع من خلالها بناء نظام قائم على المشاركة وقبول الاخر، وبالتالى نجاح هذه المجتمعات من تغيير قيادتها السياسيه ليس بالضرورة نجاح في تغيير النظام القائم، وجدالنا هنا ما فائدة الثورة أو تغيير القيادة السياسية إذا كانت الأهداف من وراء هذا التغيير لم تتحقق بل ادى الى حروب طائفيه ودينيه واباده جماعية، إذن بناء الديمقراطية أو تحديث الفكر السياسي للشعوب هو الأساس قبل البداء بالتغيير السياسي وهذا يحتاج الى جهود وسنوات من العمل التدريجي يسبق هذا التحول، وهنا لابد من البنية التحتية لثقافة سياسية قبل تطبيق نظام حكم ديمقراطي فى مجتمعا ما.
د .حامد بن شظا المرجان
الشبيبة- موقع الحداثة و الديمقراطية