ثقافة

الزمن في المشروع الشعري الحداثي عند أدونيس(١)

مصطفى حسن

((بعد الإعصار الذي يمحو حدود الأنواع من على خريطة الكتابة، يجيءُ الهدوء. ثمّةُ حاجةٍ إلى الدخول في تحديدٍ جديدٍ لكتابةٍ جديدة.))

الثابت و المتحول *

يُطلَق مفهوم الحداثة على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم؛ ويُغطِّي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة والأدبيّة.[2] وهو مفهوم فلسفيّ مركَّب أساسهُ هو السعي المستمر والمتواصل للكشف عن أسرار الوجود. ويمثِّل نسقًا من الانقطاعات التاريخيّة عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي. وفي سبيل هذا مزّقت الحداثة العالم المُقدَّس الذي كان إلهيًا وطبيعيًا في آنٍ، وحلّت محلّه العقلنة وتحقيق الذات.[3] وعند أوزفالد شبنجلرOswald Arnold Gottfried Spengler (1880-1936) فإن الحداثة هي حضارة الرجل الفاوستيّ الساعيّ أبدًا إلى المعرفة دون أن يُشبع طموحه وظمأة.[4] ويُعرّف محمد أركون الحداثة بأنها موقف الروح أمام مشكلة المعرفة والمناهج العقليّة التي تصل إلى لمعرفةٍ ملموسةٍ للواقع.[5] فالحداثة إذن كممارسة ونمطًا من الحياة تقوم على التغيير والتطوير والتبدّل والابتكار، وتقوم في نفس الوقت على وعيّ الذات بنفسها.[6]

في سبيل سعيّ العقل المستمّر إلى المعرفّة؛ ينشأ مفهوم الصيرورة بمعنى الانتقال من حالٍ إلى حالٍ أو من زمانٍ لآخر. وهو ما يعطينا فهمًا لعلاقة الذات بالزمن بتطوّر المعرفة والإدراك الحسيين. للحداثة إذن علاقة جوهريّة بالزمن من حيث هي انقطاعٌ مستمر عن الماضي، وتعقّب وملاحقةُ مستمرّة لكل ما هو حديث. فشرط تحقق الحداثةِ –فيما يبدو لنا- هو الديمومة والاستمراريّة في عمليّة التحديث والتطوير والابتكار، فعلاقّة الحداثة بالزمن هي علاقة تقدُّم وصعود مستمر في المعرفة، وربما هذه الرؤية هي ما أدّت بفرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama (1952- ) إلى الحديث عن التراكم المعرفيّ الذي سيصل بالإنسان إلى المعرفة الشاملة وبالتالي نهاية التاريخ.[7]

تكوّنت عدّة مشاريع فكريّة عربيّة انطلاقًا من الحداثة الغربية، تحاول التنظير لحداثةٍ عربية تتوازى مع الحداثةِ الغربية. فتحدّث طه عبد الرحمن (1944- ) عن إشكاليات الترجمة التي عملت على نقل المفاهيم الغربيّة إلى السياق العربيّ كمدخلاتٍ غريبةٍ لا تعمل على تأصيل منهجٍ للحداثةِ العربية، ومن هنا بنى مشروعه الفكري على مفهوم القول الفلسفيّ الذي يسعى إلى التأصيل للغةٍ فلسفيّةٍ عربيّة تنطلق من البيئةِ العربية. كذلك بنى عبد الوهاب المسيري (1938-2008) مشروعه الفكريّ على نقد الحداثة الغربيّة انطلاقًا من رؤيةٍ إسلاميّة تعتمد النظر إلى العالم في جانبيهِ الروحي/ الميتافيزيقي، والماديّ معًا. غير أن أقرب النماذج الفكريّة لنموذج الحداثة الغربية كما قدّمنا له في علاقتهِ بالزمن هو ما قدّمه على أحمد سعيد الشهير بأدونيس (1930- ) حول مفهوميّ الثابت والمتحوّل، ومفهوم الحداثة الشعريّة، وعلم جمال المتحوّل.

تحاول هذه الورقة أن تبحث دور عامل الزمن في المشروع الفكريّ الذي قدّمه أدونيس حول الحداثة الشعريّة العربية، في علاقتهِ بالنموذج الغربيّ، وفي علاقتهِ كذلك بمحاولات التحديث –قديمًا- في السياق العربيّ، وموقف المتلقيّ العربي للشعر الحداثي الذي قدّمه أدونيس.

من الشعريّة الشفويّة إلى الشعريّة الكتابيّة.

في محاضرةٍ ألقاها في الكوليج دو فرانس عام 1984 يفرّق أدونيس بين جماليّة الشعريّة الشفويّة التي تعتمد على الأذن وما تستدعيه من إيقاعٍ ووزنٍ ونغم، وبين جماليّة الشعريّة الكتابية التي صارت – في العصر الحديث – في حاجةٍ إلى إعادة نظر كونها تقوم في الأساس على غير ما كانت تقوم عليهِ في الشعر الجاهلي.[8]

الجماليّة الشعريّة الشفويّة هي فنٌ خاصٌ –وليس عام أو مُطلق- في القول الشعريّ، لا يقوم في المعبَّر عنه وإنما في طريقة التعبير التي تعتمد بالأساس –في الجماليّة الشفويّة- على الموسيقى والإيقاع والوزن والنغم. وشاعريّة الشاعر هنا تقاس بالقدرة على الابتكار بما يؤثِّر في نفس السامع، وبما هو أيضًا انعكاسٌ للذوق العام. استوجب هذا الوضوح والابتعاد عن الغموض وعن استخدام الإشارات البعيدة، واستوجب كذلك استعمال المجاز بما يُقرِّب الحقيقة ولا يبعد عنها. وقد أدّت الجماليّة الشفويّة بهذا المعنى إلى الفصل بين الفكر وبين الشعر، والانحياز إلى البدوية والبداهة الصافيّة.[9]

تكمن المشكلة الأساسية – بحسب أدونيس- في الشعر في استمرار النظرة النقديّة المؤسسة على خصائص الشعريّة الشفوية في تناول الشعر الذي نتج في العصر الحديث. وقد صاحب هذا التطبيق نظرة أيديولوجيّة تعمل على التوكيد على أن للشعر العربيّ من خصوصيّةٍ بيانيّة وموسيقيّة ما يُميّزه عن الأمم الأخرى. وهو يرى أن حل هذه المشكلة يكمن في أن نقرأ ماضينا الشعريّ –ليس كما رآه السابقون- وإنما لنرى ما غاب عنهم، أي نقرأ الفراغ والنقص الذي تركوه. إذ إن اللغة الشعريّةِ –بما هي الإنسان في تفجّره واندفاعه – تظل في تجدد وتوهّج وتغاير، فهي بحثٌ عن الذات، وعودةٌ إليهِ؛ لكن عبر هجرةٍ دائمة خارج الذات.[10]

ينظر أدونيس إلى القرآن باعتباره لحظة الحداثة الأولى في السياق العربيّ، إذ مثّل بالأساس لحظة قطيعة مع الجاهليّة على كل المستويات المعرفيّة، وأدّى إلى الانتقال من الشعريّة الشفويّة إلى الشعريّة الكتابية.[11] فبالرغم من أنه جاء نفيًّا للشعر فقد أدّى –على نحوٍ غير مباشر- إلى فتح آفاقٍ جديدة للشعر غير معروفةٍ قبلا، وأدّى في نفس الوقت إلى تأسيس النقد الشعري، بمعناه الحق.[12] إذ أدّت الحركة الثقافيّة والإبداعيّة – بحسب أدونيس – التي ظهرت من خلال ما كُتب عن القرآن الكريم والمقاربات بين النص القرآني والشعر الجاهليّ؛ إلى فتح آفاق رحبة أمام الشعراء لابتداع كتابة شعريّة جديدة ذات بلاغةٍ وبيانًا وتصويرًا مغايرًا للشعر الجاهليّ. وإلى تأسيس نقد حداثيّ منهجيّ – على يد الصوليّ (880-946) يعتمد في أساسه على ابتكار معانٍ جديدة لم تعرفها الشعريّة الجاهلية. أدّت كذلك هذه الحركة الثقافيّة – بحسب أدونيس – إلى تعريف الإحداث الشعريّ من حيث هو ابتكار ما لم يعرفه الأقدمون.[13] وإلى اعتبار جودّة النص الشعريّ تقع في جودة الشعر لا في أسبقيّته الزمنية.

غير أن الأسبقيّة الزمنيّة التي يرفضها أدونيس هنا –نقلًا واتفاقًا مع الصوليّ- لتحديد جودة العمل الأدبيّ، لا تعني رفض عامل الزمن في الحكم على الجودّة فقط، وإنما تعني كذلك ربط العمل الأدبيّ بزمنٍ معيّن، فهو يربط كثيرًا بين جودة الأعمال الأدبية الحداثيّة – وفقًا لتعريفه لها – والتي نتجت في أزمنةٍ مختلفة. غير أن ما سينتهي إليهِ – كما سيأتي لاحقا – يضع مفهوم التغيير والتطوير المستمر على سلّمٍ زمنيّ يصعد إلى أعلى باستمرار ليحقق المزيد من الاكتشافات والإبداعات. وهو ما يعني – في رأينا – أنه أسس براهين – معتمدّةً على السياق الثقافي العربيّ القديم – ليصل إلى استنتاجاتٍ مغايرةٍ لما أسس عليهِ قراءته للتراث العربي. وهو ما يجعلنا نظنُّ أن رفضهِ لوضع العمل الأدبيّ على خط الزمن لتحديد جودته أتى فقط لهدم الافتراض القائل بأفضلية وجودة التراثيّ عن المعاصر، ولم يدخل في رؤيّة أكثر عمقًا في رفضهِ لموضعة النص في سياق زمني معيّن.

يشترط الصولي كذلك – في تأسيسه للنقد الشعري الكتابيّ – الثقافة المعمّقة عند كلٍ من الشاعر والناقد على حد سواء. من هنا يدخل غموض المعاني ودقّتها كإحدة جماليًات الشعريّة الكتابيّة؛ على عكس الجمالية الشفويّة.[14]بينما يستكمّل عبد القاهر الجرجانيّ (1009-1078) – بحسب أدونيس – معايير الشعريّة الكتابيّة ليحدد أساسمها في مفهوم (النظم) الذي هو تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسببٍ من بعض. وهو ما يعني ترتيب الكلمات بحسب ترتيب المعاني في النفس، بحيثُ تتناسق دلالاتها، وتتلاقى معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل. تُسقط الشعريّة الكتابية بهذا المعني جماليّة الشعر من اللفظ لتضعها في حُسن التخير ومعرفة مواضع الكلم.[15]تتحوّل الشعريّة الكتابية بهذا المعنى إلى طريقةٍ في إثبات المعنى وهو ما لا يتم بالسماع وحدّه وإنما بالنظر إلى النص بالقلب، والاستعانة بالفكر وإعمال الرويّة ومراجعة العقل والاستنجاد بالفهم. وهنا لا يعود للوزن أهميّته ومكانته السابقة التي كانت في الجاهليّة، وإنما يتم الاستعاضة عنها بالمجاز الذي يقرّب بين الأشياء المتباعدة، إذ يعمل المجاز – الذي يمثّل سر النظم – عمل السحر في تأليف ما يختلف. وكذلك يصير لمذهب الغموض موضع الأستاذيّة ومكان الحذق – كما ينقل أدونيس عن الجرجاني – في تعريف مزيّة الكلام الشعري.

القرآن – باعتبار نزوله يمثّل لحظة الحداثة الأولى كما يُنظِّر أدونيس – مثّل الإتيان بفكرٍ جديدٍ ورؤيةٍ جديدةٍ منقطعة عن التراث الجاهلي، في كتابةٍ دون احتذاءٍ مسبق، وفي الإتيان بلغةٍ جديدةٍ لها جماليّاتها الخاصّة التي لم تعد تعتبر الوضوح معيار الجمال والتأثير، بل على العكس ترى في النص الغامض المتشابه الذي يحتمل تأويلاتٍ مختلفة جماليّة وسحرًا خاصًّا ومختلفًا عمّا سبقه. هذه العوامل هي ما تمثّل جوهر الكتابة الحداثيّة عند أدونيس. فالشعر تجاوزًا دائمًا للعاديّ المشترك والموروث لا يهاب أن يخرق الإجماع.[16]

غير أن هذا الفهم لم يتم الانتباه إليه في السياق العربيّ الحديث. وظلّ النقد الشعريّ المعتمد على نمذجة الشعر الجاهليّ باعتباره فصلٌ بين الفكر والشعر هو التوجّه السائد، ساعد على هذا النظام المعرفيّ الذي بُنى على الدينِ واللغة؛ والذي نظر للشعر باعتبار مجاله الكذب واللامعقول، ولأن ما يتجاوز الحسّ فهو مجال الدين؛ ساد الاعتقاد بأن الشعر عاجز –بطبيعتهِ- عن انتاج معرفة أو كشف حقيقة، وفي هذا الاعتقاد مخالفة لجذر كلمة شعر كما يرى أدونيس،[17] وبهِ مفارقةً كذلك من المنظور الجماليّ إذ إن هذا النظام المعرفيّ المُستمد من النص الكتابيّ بخصائص كتابيّة؛ يُدعم التنظير للشفويّة الغنائيّة ويؤكّد معاييرها الفنيّة.

يرى أدونيس أن هذه الفجوّة على المستوى النظريّ تم رتقها عبر النص الإبداعيّ الذي يخترق النظم المعرفيّة ويحقق علاقة عضويّة بين الشعريّة والفكريّة، وهو ما يؤدّي إلى فتح أفق جديد على مستوى الفكر والجماليّات. نجده هذا واضحًا عند أبي نوّاس (756-814) والنفريّ (-) وأبي العلاء المعريّ (793-1057)، إذ تتحوّل اللغة العربيّة معهم في بنيتها المجازيّة لأن تكون لغة تشويقٍ للبحث، ولمعرفة المجهول وتحصيل الكمال، وتكون أوسع من أن تنحصر في حدود الواقع المعطى. كذلك لا يصير الأدب معهم أدبًا وإنما حركة دائمة من اكتشافٍ لا ينتهي؛ يتضمن هدمًا مستمرًا للأشكال – كونه لا تستقر في شكلٍ- بل يتحوّل الشكل/ الصورة إلى فضاءٍ متموّج، فتصير لكل قصيدةٍ شكلها ووعاءها الخاص.[18]

بدأت الحداثة الشعريّة إذن – وفقًا لأدونيس – في القرن الثامن الميلاديّ مع أبي نوّاس وأبي تمام في الشعر، والنفريّ وأبي حيّان التوحيديّ في التصوّف، والجرجاني في النقد. غير أن هذه الحداثة تراجعت مع سقوط بغداد على أيدي المغول (1258)، واشتداد الحملات الصليبيّة، وسيطرة العثمانيين على مختلف الأقطار العربية. وحين عادت الحداثة من جديد إلى السياق العربيّ في بدايات القرن التاسع عشر، ارتبطت بعلاقةٍ شائكة مع الحداثة الأوروبية، ونتج عن النقاشات النهضويّة اتجاهان؛ اتجاهٌ أصوليّ متشبث بالماضيّ ومنجزاتهِ غير مُدركٍ لما في التراث من اتجاهات حداثوية، واتجاهٌ تجاوزيّ يرى الحداثة في تطبيق واستيراد منجزات ومكتسبات العلمانيّة الأوروبيّة. ويرى أدونيس أن كلا الاتجاهيّن لم يدركا حقيقة معنى الحداثة وجوهرها. فالحداثة إنما تعني الخروج عن السائد والتقليديّ، والقول بما لم يكن معروفًا؛ على أن يكون هذا الخروج وهذا القول عمليّة مستمرّة لا تنتهي.

يرفض أدونيس ثقافة الأصول التي هيمنت على مستوى المؤسسة، وساعدت عليها ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة داخليّة وخارجيّة. وهي ثقافة تتجسّد في ممارسة معرفيّة متواصلة ترى أن الحقيقة كامنة في النص، وليس في التجربة والواقع، فهي مُعطىً نهائيّ. ودور الفكر هو أن يشرح ويُعلِّم انطلاقًا من الإيمان هذه الحقيقة، لا أن يبحث ويتساءل من أجل الوصول إلى حقائق جديدة مغايرة.[19]

الحداثة بهذا المعنى هي حداثة إنسانيّة لا مرجعيّة ثابتة لها، إذ تتجاوز التقنيّ والعلم التقدّمي المستقبليّ، والماضي الأصوليّ. فهي تعني التحوّل والتغيّر المستمر وفقًا للحقائق المدركة في كل لحظة. وهذا هو جوهر مفهوم التحوّل عنده.

ساسة بوست / موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate