ثقافةحداثة و ديمقراطية

اللغة والتلاعب بالوعي

الجوهرة بنت مقعد العتيبي

“نحن عبيد الكلمات”… قالهـا كـارل ماركـس، كيـف يمكن أن تكون العلاقة بين اللغة والوعي؟ وكيف بالإمكان استخدام اللغة للتلاعب بالوعي مما يجعل الإنسان عبداً لها… أي عبداً للكلمات ؟ للغة صبغة إيحائية في التأثير على شعور الانسان ومن ثَم فكره وإدراكه، لذا كان الإنسان قديماً ولا زال يطلب النصيحة والمشورة في قضاياه الخاصة ويستمع للمواساة في مصائبه، فعندما نقول لشخص ما : “لا تحزن” نعلم بأننا لن نستطيع إيقاف القدَر الذي أحزنه، وربما نعجز عن تغييره، لكننا نحاول الإيحاء لشعوره وتهيئته من أجل التأثير على إدراكه للواقع ورؤيته للأمر، ومن ثَم تخفيف ذلك الشعور بالألم.

ولهذا، نجد كتب تطوير الذات تضج بالتجارب والممارسات التي تركز فيها على الجانب اللغوي، فإحدى النصائح مثلاً تقول : “اكتب أحلامك كي تتحقق” أي حَوّل هذا الحلم من أمنية إلى لغة مكتوبة لكي توحي هذه اللغة إلى عقلك بحلمك كلما قرأتها، وبالتالي تبرمج سلوكك وتعيد ترتيب جدول يومك.يقول سيرجي في كتابه التلاعب بالوعي : “فالوظيفة الابتدائية للكلمة كانت منذ فجر البشرية التأثير الإيحائي والإخضاع، لا من خلال الإدراك، بل من خلال الشعور”.وقد ظهر الاهتمام بهذا الجانب من اللغة في التأثير بالشعور على أساس فلسفي مبني على جذور الفلسفة السفسطائية.

إذ استخدم السفسطائيون اللغة من أجل التأثير على الرأي العام والجماهير. أي وضعوا آليات واستراتيجيات لترويج أفكارهم عن طريق التلاعب باللغة واستثمار معرفتهم بأسرارها.حيث قام السفسطائي غورجياس بتأسيس منظومة فلسفية كاملة حول الرأي واللوغوس الكلامي.فاستخدم اللوغوس من أجل التأثير على الرأي العام، وبالتالي تولد لدينا مصطلح : “فن قيادة النفوس”، أي التأثير على النفوس والآراء من خلال الإقناع الكلامي ليكون بمثابة الحرب النفسية على الجماهير.

ومن خلال هذه المنظومة الفلسفية وضع غورجياس نظريات تحدث فيها عن كيفية توجيه الحرب على الأعداء من خلال التهويل والإغواء الذي توحي به اللغة، كما تحدث عن آلية إرهاب العدو عن طريق الصوت والصورة. وهدفهم من ذلك هو الوصول إلى السلطة والسيطرة والتسلط على الشعب في اليونان، وبالتالي أصبحوا الأوائل في فلسفة التضليل السياسي.

يقول غورجياس : “إن الكلام متسلط كبير، فبواسطة جسم صغير وغير محسوس : يُـنجز الأعمال الأكثر قدسية، حيث أن له القدرة على تسكين الخوف، ونزع الألم، وتوليد الفرح، وتعظيم الشفقه”. هذه الحركة الفلسفية أصبحت في اصطدام مع التيار الفلسفي الذي تبناه سقراط وتلاميذه، فكان الصراع بينهم قائماً حول المفاهيم السياسية كـالعدالة والقانون.

فقد كانت منهجية السفسطائيين تقوم على الوصول للسلطة من خلال الإلمام التام باللغة والاعتماد على المحاجّة البرهانية والإقناع والتفسير، وبالتالي أطلق الآخرون عليهم مصطلحـات تكشـف زيـف فلسفتهم مثل : “باعة علم الكلام”، “الذين مزجوا الحق بالباطل” و “زيفوا الحقائق”. في تلك الحقبة تحولت اللغة من كونها سمة إنسانية قيمة تحمل معاني صادقة كما قال هايدجر: “كانت الأقدس من بين القيم كلها” إلى سلعة سوقية تباع وتشترى بحسب أهداف السلطة التي تمتلكها وتقوم بالترويج لها. فزالت قداسة اللغة وتحولت إلى أداة لا روح فيها.

لقد حاولت السلطة منذ القدم أن تجعل اللغة أداتها المتجددة في السيطرة ومد النفوذ، لأنها علمـت أن القـوة العسـكرية ستأخذ منها أضعاف ما تأخذه القوة اللغوية (الكلامية)، فما تأخذه الحرب العسكرية في سنوات قد تأخذه الحرب النفسية الكلامية في أشهر وربما أقل ليتحقق مُرادها ومرامُها. يقول هتلر في كتابه كفاحي :”القوة التي أدت إلى حركة التيارات التاريخية الكبرى في المجال السياسي أو الديني، كانت منذ الأزمنة السحيقة هي السطوة السحرية للكلمة المنطوقة وحدها. إن الجمهور الأكبر من الناس يخضع إلى سطوة الكلمة دائماً”.

    كيف بالإمكان استخدام    اللغة للتلاعب بالوعي؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في معرفة أبرز مظاهر اللوغوس الكلامي وهما : مظهر القوة السحرية للكلمة – أي الكلامي التشويقي وأساليب المدح والإطراء والتشويق -.ومظهر القوة الكلامية المسيطرة – أي التهديد والوعيد والحث على العنف والانتقام – [2].

وبهذين المظهرين نجد أن المتحدث أو من يعد الخطابات والنشرات يحرص أن تكون اللغة ذات استخدام للتشبيهات والاستعارات والصور الجمالية من أجل خلق صورة ذهنية محددة في ذهن السامع يقوم برسمها المتحدث بريشة كلماته.فباستخدام الاستعارات والتشبيهات والمصطلحات المبتذلة، ستوفر جهداً ذهنياً، نتيجة لإبقاء المعنى غامضاً [3].

أي ستجعل الجماهير في حالة من الانقياد للصورة المرسومة أمامهم بحديثك فلا يعارضونه بتفكير نقدي.

وما دفع هؤلاء إلى ذلك سوى فهمهم الدقيق لتفكير الجماهير ومخيلتهم ونفسيتهم، حيث يصفها غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير) بأنها – أي الجماهير- : “سريعة التأثر والتصديق لأي شيء” فالصورة الذهنية المثارة لديها تعتبر حقائق واقعية، ولا يمكن محاجتها بالحجج العقلية.فمخيلة الجماهير تتأثر بالصور وتنجذب إلى الجانب السحري. والجماهير متعصبة، ولديها نزعة محافظة، وخاضعة للاستبدادية، ولديها عبودية أمام السلطة القوية، وبالتالي أمام السلطة اللغوية القوية.لقد استطاع جورج أورويل في مقالتـه : (اللغـة الإنجليزيـة والسياسـة) أن يصـف اللغـة المستخدمة في السياسة بقوله :”العدو الأكبر للغة هو النفاق، فعندما تكون هناك فجوة بين حقيقة المرء وأهدافة المعلنة، يتحول الكلام إلى (كلامات) طويلة بأسلوب مسهب مستفيض”. وبالنظر إلى عدة أمثلة في مقالته ؛ فقد ذكر أن أبرز السـمات الأساســيـة للكتابـة والخطابة السياسية هي : “خليط من الضبابية والغموض والعجز”.وقد حرص على تمثيل ذلك في روايته : “1984” عند وصفه للأخ الكبير : “لم يكن ثمة ما يسمع ما كان يقوله الأخ الكبير. فقد كانت مجرد كلمات تشجيعية معدودة من تلك التي يتمتم بها في معمعة المعارك لا يستطيع المرء تمييزها”.

وأوضح الغاية من ترديد تلك الكلمات بأنها : “شكل من التنويم الذاتي المغناطيسي، وحالة من تغييب الوعي من خلال الإيقاعات الرتيبة”.لقد تنوعت الأساليب والطرق والاسـتراتيجيـات فـي التلاعـب باللغة لأجل توجيه الجماهير (أو الرأي العام)، في محاولة منها لفرض السلطة بمختلف مجالاتها السياسـية والقبليـة والدينيـة، وذلك عن طريق الإعلام كأحد أبرز الطرق وأسهلها في إيصال الكلمة لأكبر عدد ممكن من الناس عن طريق الدعايـة.فالدعاية هي : “التأثير على آراء ومعتقـدات الجماهيـر لجعلهـا تتخذ اتجاهاً معيناً نحو نظام أو مذهب بصورة إيجابية أو سلبية، كما تحاول تهيئة نفسيات الأفراد لقبول وجهات النظر التي تدعو لها والتشبع بها، وتلجأ إلى تشويه الحقائق وتحريفها”.

[4]ويعرفها “بارتلت” على أنها : “محاولة التأثير في رأي الجماعة وسلوكهم بحيث يتخذ الأفراد رأياً وسلوكاً معينين دون أن تفكر الجماهير في الأساليب التي دفعتها لتبني تلك الآراء والمعتقدات والبحث في منطقيتها”. ومن بين هذه الأساليب والوسائل ما يلي :-1 تزييف الحقائق :للسلطة التي تمسك بزمام الإعلام – كما في حالة الحكم النازي في ألمانيا في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين – علاقة كبيرة مع تزييف الحقائق أمام عقول الناس من أجل الحصول على أكبر عدد من المؤيدين في بلوغ أهدفها.

-2 التهويل واستخدام الخوف :تجلى هذا الأسلوب بوضوح في رواية جورج أورويل “1984” إذ كونها الرواية المبادرة في كشف بعض الأنظمة السياسة الاستبدادية والمساهمة لغوياً في إثراء اللغة الإنجليزية بمصطلحات كـمصطلح “الخطاب المزدوج” Double think  ومصطلح“أورويليـان” Orwellian إشـارة إلى النظام السياسي الذي يعبر عنه جورج في كتاباته. تكمن الفكرة الرئيسية في هذه الرواية في كيفية تصور “الأخ الكبير” وكيفية التعبير عنه بأنه رمز السلام والعدالة، وأنه يسمع ويرى ومعك حيثما كنت، وذلك لأجل إرهاب الناس وتخويفهم وقمعهم تحت سيادة الحزب.

واستمراراً لذلك : نجد استخدام التهويل الكلامي كأحد أساليب نشر الخوف والرعب بين الناس، فقد كانت النازية تردد : “هتلر هو القوة الحقيقية الوحيدة، وبما أن الجميع مع هتلر، فإنه يتوجب عليّ أن أكون معه أيضاً إذا كنت أبغي السلامة”. وبالمثل ما أشاعه الفاتح المغولي جنكيز خان عن جيشه بقوله : “إنهم أعداد كالجراد لا تحصى، ويأكلون كل شيء يجدونه في طريقهم، حتى الذئاب والدببة والكلاب”. فمثل تلك التصريحات تثير الخوف والرعب في نفوس الجماهير، وتساهم في تضليل أفكارهم، يقول كلاوس : “يستخدم التضليل عن عمد، السيكولوجية الفردية والاجتماعية المتمحورة حـول هـذه الكلمـات، لأن الخائفين يفتشون دوماً عن منقذ أو عن رجل قوي أو حزب قوي يأخذ عنهم عبء المسؤوليات الملقاة عليهم.

ولا ينصبّ الخوف والجزع في التضليل على أحداث مشخصة دائماً، بل يتم نشرهما في حالات كثيرة لذاتها، وبذلك يبقى مفعول التحريض ضاغطاً باستمرار على المتلقين :”الخوف من الأزمة”، “الخوف من الجريمة”، “الخوف على الوجود الخاص”.. فالمخاوف دوماً تخدم بأنماطها المتنوعة الأهداف المقررة للسياسة وتحريضها. فالخوف من الأزمة يعني الموافقــة علــى الخطــط الاقتصادية، والخوف من الجريمة يعني الموافقة على السلطات الخاصة، والخوف على الوجود الشخصي يعني العودة إلى أشكال بدائية من الولاءات الغيبية وفقدان القدرة على التفكير النقدي”.

-3 المصطلحات المُضللة :تلجأ الخطابات الاستعمارية إلى تضليل الشعوب عن طريق التلاعب الدلالي – وهو أن يكون الدالّ الكلامي مخالفاً للمدلول الواقعي – وذلك لترسيخ أهدافها ومعانيها الخاصة انطلاقاً من رؤيتها وتوجهاتها. فعلى سبيل المثال : عندما قامت بعض الجيوش الأوروبية بـ “الاستعمار” ادعت لمن حولها بأن ذلك من باب “نشر الحضارة”، ثم لم يتركوا إلا خراباً ودماراً ونهباً للثروات.ومثل هذا التضليل الكلامي للدلالات له أثره وصبغته على الصورة الذهنية للأفراد في رؤيتهم للأمور.

مركز دلائل -موقع الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate