الإصلاح الديني في ظل ما عشناه ونعيشه وسنعيشه في المستقبل
د. محمد الحدّاد
عبارة “الإصلاح الديني” عبارة حديثة، رغم أنّها متكوّنة من كلمتين شديدتي التداول منذ القديم، وهي لا تحظى بالإجماع؛ إذ يطعن العديد في صحّتها وشرعيتها لأسباب سنتعرّض إليها بالتفصيل. أمّا الذين يقبلون باستعمالها فقد يمنحونها معاني واسعة الاختلاف.
من الضروري حينئذ أن نخصّص جزءاً من الدراسة لمحاولة تحديد المفهوم ومناقشة صحته، أخذاً بعين الاعتبار مختلف وجهات النظر المطروحة في الموضوع. ثمّ نتطرّق في الجزء الثاني إلى الاتجاهات والشخصيات التي يمكن الاتفاق في تصنيفها تحت هذه العبارة. ثم نخصّص الجزء الثالث لما يمكن أن تفتح عليه هذه العبارة من إمكانيات توصيف واقع متطوّر ومعقّد يتواصل إلى يومنا هذا.
عبارة مشكلة؟
قديماً استبشع بعض ما ذهب إليه حجة الإسلام الغزالي (ت 505/1111) عندما وضع لأحد كتبه عنوان “إحياء علوم الدين”، فقالوا: وهل ماتت هذه العلوم حتى يحييها؟ وكذلك يطعن بعضهم اليوم في عبارة “إصلاح ديني” بدعوى أنها قد تستبطن فكرة أنّ الدين أصابه الفساد ويحتاج إلى إصلاح، أو أنّ في الدين جوانب تحتاج إلى الإصلاح والتقويم. ولم يكن هذا مقصد الذين أطلقوا هذه العبارة في الأصل، وإن ظهرت في السنوات الأخيرة كتابات محدودة جدّا يمكن أن تفهم بهذا المعنى؛ لكن كلّ عبارة يمكن أن تحرّف عن مقاصدها الأصلية، ولا يعدّ ذلك سبباً للطعن فيها. وقد اشتهر كتاب الغزالي السالف الذكر وأصبح مرجعاً من أكبر المراجع التراثية، فهل تصبح عبارة “الإصلاح الديني” مستساغة في الاستعمال الإسلامي العام؟
الواقع أن الاعتراض عليها لا يقف عند حدود العبارة؛فثمّة اعتراضان في المضمون يستند إليهما موقف الرفض: أحدهما يرى أنّ العبارة تمثّل إسقاطاً للتجربة المسيحية الغربية على الإسلام، على أساس أنّ فكرة الإصلاح الديني قد ارتبطت بشخصيات مسيحية غربيّة، على غرار لوثر وكالفن ، وبحوادث طبعت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد يذهب أصحاب هذا الاعتراض إلى أبعد من ذلك فيقولون: إنّ “الإصلاح الديني”قد قسّم المسيحية إلى ما يشبه أن يكون دينين متعارضين: الكاثوليكية والبروتستانتية، ودفع إلى حروب ضارية بينهما، وإنّ إسقاطه على الإسلامي يهدّد بمصير مماثل ويضرب وحدة الإسلام وتماسكه.
أمّا الاعتراض الثاني فيرى أنّ عبارة “إصلاح ديني” تتضمن أن يكون كلّ إصلاح في العالم الإسلامي مرتبطاًبالدين، أو مصاغاً صياغة دينية، في حين أنّ المطلوب إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية ومعرفية بعيدا عن المجادلات الدينية، ولا حاجة لإقحام العامل الديني في قضايا ذات طبيعة “دنيوية”؛ لأنّ من أسباب تأخّر الإصلاحات في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة هذه النزعة إلى “تديين” مشاكلها وقضاياها، واستنفاذ الجهود والطاقات في النقاشات المجرّدة بدل توجيهها نحو الإصلاحات المرجوّة.
وإذا تجاوزنا الاعتراض اللغوي-بوصفه اعتراضاً شكليّاً- فإنّ الاعتراضيْن على المضمون يحتاجان مناقشة معمّقة.لا يمكن الإنكار أنّ عبارة “الإصلاح الديني” قد دخلت الاستعمال العام استيحاًء من التجربة الأوروبيّة كما سنبيّن لاحقاً؛ لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّها عبارة مسقطة؛فقد تكون فكرة مشتركة بين عدّة أديان، كما هو شأن فكرة التوحيد أو الحساب بعد الموت، ويمكن أن نفترض أن يكون الإسلام والمسيحية وأديان أخرى أيضاً تواجه تحدياً مشتركاً يتمثّل في الملاءمة بين الدين والعصر الحديث، وأن تكون المسيحية سابقة في هذه التجربة؛ لأنّها واجهت التغيرات الكبرى التي فرضتها الحداثة قبل الأديان الأخرى، ومن هذه التغيرات الانتقال من الشكل الإمبراطوري في الحكم إلى الدولة الوطنية، ومن العلم القديم إلى العلوم الحديثة الرياضية والتجريبية والإنسانية، ومن مجتمعات قائمة على التراتبية إلى تنظيمات اجتماعية تتساوى فيها الأقليات والأغلبية والرجل والمرأة، ولم يعد فيها سادة وعبيد أو خاصة وعامة. فالعمل على الملاءمة بين الدين وهذه التغيرات التي تفرض نفسها على كلّ البشرية ليس خاصاً بمجموعة دينية معينة، ولا يتضمن فكرة الإسقاط؛ لأنّ لكلّ تراث ديني خصوصياته، فلن تحصل عملية الملاءمة بالطريقة ذاتها بسبب اختلاف الأديان. والسؤال: هل المسلمين مشمولون بتلك التغيرات أم أنهم بمعزل عنها؟ من الواضح أنهم مثل غيرهم لا يمكن أن يعيشوا في العصر الحديث إلاّ بالتفاعل؛ معها، والإصلاح الديني جزء من هذا التفاعل، لأن هدفه تطوير الخطابات الدينية كي لا تتعارض مع هذه التغيرات ولا تستعمل عائقاً أمامها.
أمّا الذهاب إلى أن ذلك يؤدي إلى تقسيم الإسلام فهو أمر لا معنى له، أوّلاً لأنّ انقسام الإسلام إلى فرقٍ ومذاهب وتيارات ظاهرةٌ قديمة، ولن يكون تقسيم المسلمين بين محافظين وإصلاحيين أكثر خطورة من انقسامهم سابقاً بين شيعة وسنة وخوارج ومرجئة،إلخ. ثم إنّ مقولة الإصلاح الديني لن تؤسس فرقة جديدة؛ لأنها تطرح إشكالية تواجهها كل المذاهب الإسلامية القائمة، بوصفها كلها معنية بالملاءمة التي تحدثنا عنها، بل قد يكون من الأفضل أن ينقسم المسلمون اليوم بين محافظين وإصلاحيين على أن يواصلوا الانقسام على قضايا تجاوزها التاريخ منذ قرون.
أمّا الاعتراض الثاني فجوابه أن العبارة لا تعني اعتماد الدين للإصلاح؛ وإنّما تعني البحث في التوافق بين الدين والإصلاح؛ فقد حدث في كثير من الأحيان أن حالت قراءات تراثية أو حَرْفية للدين دون إدخال الإصلاحات الضرورية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، أو وقع توظيف الدين لمنع مثل هذه الإصلاحات. وعادةً ما يحدث أن يختلط “المخيال” الديني و”المخيال” الاجتماعي، وأن تفرض عادات وأحكام قديمة باسم الدين وتصبح وكأنها جزء منه، لاسيما في ثقافات اعتمدت -على مدى قرون- الفتوى الدينية لضبط الأحكام في كل المجالات الاجتماعية. وتفرض الفترات الكبرى للتحوّل فكّ هذا الارتباط المتخيّل لفتح إمكانيات التغيير في المجتمع، والحيلولة دون توظيف الدين من القوى المحافظة التي تدافع عن مصالحها وامتيازاتها باسم الدين، أو الرأي العام الذي يتجه أحيانا ضدّ مصالحه عندما يتوهّم أنّها مخالفة للدين. ولا يمكن الشكّ في أنّ سنّ القوانين للدولة أو وضع البرامج التعليمية أو اعتماد الأحكام الأسرية قد اصطدم في كثير من الأحيان بمجادلات دينية، وأن تجاهل ذلك لن يغيّر في الأمر شيئا، بل الأولى تحصيل القدرة على تجاوز هذه الانسدادات الحضارية بتجديد الخطاب الديني السائد. ثم إنّ تحديد ما هو ديني وما هو دنيوي أو علماني في المجتمع يدخل في صلب إشكالية الإصلاح الديني التي هي إشكالية إعادة توزيع الوظائف الاجتماعية حسب متغيرات العصر.
إذا تجاوزنا هذه الاعتراضات وقبلنا باعتماد عبارة “الإصلاح الديني”؛ فإنه يطرح تحديد هذه العبارة لتصبح مصطلحاً ومفهوماً. وههنا نجد أنفسنا أمام اختلاف أساسي بين مستعمليها؛ فبعضهم يرى أن المعنى المقصود معروف ومتواصل منذ القديم، بينما يطرح بعضهم الآخر معنى حادثا ومخصوصا يتميّز عن الاستعمال العام لكلمة “إصلاح”، على أساس أنّ “الإصلاح الديني” غير ما كان يفهم عامة من كلمة “إصلاح”.
الإصلاح الديني بالمعنى الحديث
ممّا لا شكّ فيه أنّ كلمة “إصلاح” قديمةٌ مبنىً ومعنى؛ فهي أوّلاً وبالذات كلمة قرآنية وردت في عشرات الآيات القرآنية، إضافة إلى أحاديث وآثار تحدثت عن تجديد الدين على رأس كلّ قرن، إلخ ؛ لكنها تتميّز في العصر الحديث بمعنى خاص؛ إذ لم تعد تعني العودة إلى الأصول فحسب؛ وإنما أيضا التلاؤم مع العصر، بحكم أنّ التحدّي الحضاري الجديد المطروح حديثا أمام المسلمين هو تحدٍّ مزدوج، ولم يعد داخليا بحتا؛ فهو مرتبط شديد الارتباط بالمتغيرات الحضارية الحاصلة خارج الدائرة الإسلامية. فالعودة إلى الأصول تفتح طريق التجديد، وتمثل وسيلة لا غاية في ذاتها وجمودا على النصوص.
ومنذ العصور القديمة استقرّ ضرب من توزيع الأدوار أو التمييز بين المجال السياسي والمجال الديني؛ إذ كان المطلوب من الحاكم أن يتصرّف حسب المصلحة، ومن الفقيه أن يفتي حسب التقليد (المذهب). وفي الغالب يتفادى الحاكم معارضة التقليد معارضة صارخة؛بينما يسعى الفقيه إلى تطويع التقليد كي لا يتعارض مع ما يراه الحاكم مصلحة. وقد يحدث أحياناً تعارض بين الوظيفتين لأسباب موضوعية أو في إطار تشبّث كل طرف باستقلاليته وعلويّة وظيفته. كان المال وقرار التعيين بيد الحاكم؛ لكن الجمهور تحت سيطرة الفقيه، بذلكاستقرّ ضرب من توازن القوى لا يسمح للحاكم بالهيمنة المطلقة على الشرعية الدينية، ولا للفقيه بأن يكون في موقع المعارض للحاكم. وإذا تركنا جانباً المنازعات الكثيرة التي كانت تحصل بسبب تعارض الطموحات الشخصيّة، أمكن الإقرار بوجود علاقة بين الدين والسياسة، لا تقوم على الفصل؛ لكنها لا تقوم أيضاً على الحكم الديني (الحكم التيوقراطي)، حيث كان يُعترف لكلّ مجال بمشروعيته الخاصة به، وبوظائف يتميّز بها، فلا يطمع الحاكم في أن يصبح مرجعاً دينياً، ولا يطمع الفقيه في أن يأخذ مكان الحاكم. ولقد أصبح هذا التمييز شديد الوضوح مع الإمبراطورية العثمانية، حيث جسّدت وظيفة “الصدر الأعظم” (رئيس الوزراء) السلطة السياسية المدنية (لذلك لا يشترط في تعيينه للمنصب كفاءات دينية؛ بل يمكن أن يكون غير مسلم) بينما جسّدت وظيفة المفتي الرسمي أو شيخ الإسلام السلطة الدينية.
ظلّ هذا التوازن قائماً نسبياً-رغم أزمات كثيرة- طالما كانت المصلحة لا تقتضي مراجعات كبرى لما يتضمّنه التقليد، بحكم استقرار المجتمع ذاته على تنظيمات مألوفة منذ قرون؛ لكنّ هذا التوازن أصبح معرّضاً للخلل عندما بدأت تغيرات العالم الحديث تضغط على المجتمعات الإسلامية وتدفعها إلى البحث عن سبل الملاءمة.
لنأخذ مثالين بارزين على الخطوات الأولى في محاولة مواجهة هذه التغيرات: بين سنتي 1841 و1846 قرّر حاكم تونس أحمد باي (1837- 1855) إبطال تجارة الرقيق ثمّ إبطال العبودية وتحرير العبيد. لم يكن هذا القرار عاديّا؛ إذ كان الفقهاء متعوّدين على الخوض في أحكام الرفق بالعبيد وحسن معاملتهم وليس إبطال العبودية من الأصل، فهذا القرار الجريء والنوعي لا يمكن أن يستند إلى سوابق مذهبية. وفي الآن ذاته كان على الحاكم أن يجد سنداً دينياً لقراره، فالتجأ إلى المجلس الشرعي وإلى عالمين كبيرين فيه مواليين للسلطة توليا الإفتاء لصالح قراره، على أساس أنه قرار اقتضته المصلحة، وأن تقدير المصلحة من مهام الحاكم دون الفقيه(5).
وفي عصر التنظيمات بتركياكان تأسيس قضاء حديث يتطلب توحيد الأحكام في مجلة قانونية واحدة تكون ملزمة لكلّ القضاة، بدل الطريقة القديمة التي تسمح للقاضي بالحكم بحسب الأقوال العديدة المتوفّرة في مذهبه، وهكذا صدرت مجلة الأحكام العدلية العثمانية من وزارة العدل، ومثّلت محاولة رائدة في تقنين الفقه الإسلامي، بتخليصه من تعدّد الأحكام في القضية الواحدة، والاختيار بين الأحكام المتعدّدة داخل المذهب الحنفي وجزئياً بالانفتاح على المذاهب الأخرى، ما يعدّ من الأحكام الأكثر تحقيقاً للمصلحة في هذا العصر. وبذلك كانت مجلة الأحكام العدلية مدونة قانونية تجاوزت الكتابات الفقهية التقليدية؛ لكنها لم تخرج عن المبادئ السائدة.
نعلم تاريخياً أنّ هذين القرارين اتخذا تفاعلاً مع المتغيرات التي فرضتها الحضارة الحديثة، وبضغط من القوى الأوروبية أيضا؛ لكنّهما كانا ضروريين ومفيدين ويتنزّلان في إطار تحديث المجتمعات الإسلامية، وكانا يتطلبان أكثر من فتوى لتبريرهما، فهما يتطلبان مراجعات من داخل الفكر الديني كي يتخلّى عن مواقف ألفها منذ قرون وأصبحت تحسب لدى الكثيرين جزءًا من الدين. لكن مع توالي السنين وتراكم التحديات لم تعد مثل هذه المواقف مطروحة بصفة استثنائية، بل أصبحت مطلوبة لحلّ مئات الإشكالات التي تطرحها الأزمنة الجديدة، في السياسة والاقتصاد والأسرة والتعليم وغيرها. ولم يعد الحاكم المعني الوحيد بها؛ فالمجتمع كلّه أصبح فاعلاً في هذه التغيرات؛ لأنّه معنيّ بمآلاتها، ولم تعد هذه القضايا تحسم بين الأمير والفقيه، كما كان يحصل في السابق، بل تطرح للتداول العام وتخوض فيها فئات واسعة من المهتمين بالشأن العام.
لذلك استعملت عبارة الإصلاح الديني منذ القرن التاسع عشر للإشارة إلى حركة أو تيار لم يكن مغلقاً ومنظما؛ لكنه كان يتجه إلى إعادة تأويل بعض القضايا الدينية المركزية والحساسة أحيانا؛ للسماح بإصلاحات بدت ضرورية لنهضة المجتمعات الإسلامية، والاستفادة من قوّة الدين في هذه المجتمعات للتعجيل بهذه الإصلاحات. وثمّة اتفاق على إطلاق هذه التسمية على ثلاثة أجيال متوالية عاشت بين القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فالجيل الأوّل هو الذي رافق و”نظر” للإصلاحات التي ارتبطت بتجارب دول، وخاصة مصر في عصر محمد علي وتركيا منذ سليم الثالث وتونس في عهد أحمد باي وربما قبله أيضا مع حمودة باشا (1784-1814). وبرزت في هذا السياق أسماء مثل الطهطاوي (1801-1873) وخير الدين (1822-1890)، وابن أبي الضياف (1802-1874). ومن الواضح أن هؤلاء لم يصدروا فتاوى تبّرر الإصلاحات؛ وإنّما عملوا على تطوير الفكر الديني السائد كي يصبح متقبّلا للإصلاحات ومشجعاً لها. وهذا هو الفارق النوعي بالمقارنة مع النظام السابق في توزيع الأدوار بين الحاكم والفقيه.
فابتداءً من القرن التاسع عشر لم يعد الحاكم المعنيّ وحده بتحديد المصلحة، ولا الفقيه المطالب وحده بضمان شرعيتها؛ لقد أصبح الوضع أكثر تعقيداً من ذلك، ولا يمكن مواجهته بالفتوى؛ بل بالتجديد والإصلاح في مجال الفكر الديني. هذا مع أنّنا لو عدنا إلى مقدمة أقوم المسالك لخير الدين -وهي تمثل أحد النصوص الإصلاحية الأساسية- وجدناها مصاغة في قالب الفتوى؛ إذ إنها تنطلق من سؤال: هل يجوز اقتباس المعارف والتنظيمات الحديثة؟ لكن الجواب على هذا الاستفتاء استدعى منهجية جديدة؛ فمن جهة لم يعد الجواب مرتبطاً بالمذهب؛ وإنما وقع الالتجاء إلى كلّ الموروث الديني لانتقاء المواقف التي تخدم الغرض المطلوب، وبذلك حدث انتقال نوعي من الفتوى حسب المذهب إلى الفتوى حسب المخزون التراثي للأمة. ومن جهة ثانيةلم تقتصر الاستدلالات على المواقف الدينية؛ وإنما استُدعي التاريخ والمعاينة وكتابات غير المسلمين للجواب عن السؤال المطروح. ثمّة إذن فارق كبير بين هذه المنهجية الجديدة والمنهج التقليدي القائم على استصدار الفتاوى لتبرير قرارات كانت تطرح بصفة استثنائية، أو لنقل: إنّه تمّ الانتقال من منهجية الفتوى الفقهية الجزئية إلى منهجية الفتوى الحضارية الجامعة.
ثمّ رسخ هذا التوجّه مع جيل ثان تعمّق أكثر في مقتضيات الإصلاح الديني المطلوب، وكان أبرز أعلامه الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذي جمع بين المعرفة الدينية الواسعة وإلمام أفضل بطبيعة العصر، فكان أكثر قدرة على التعمّق في القضايا الدينية وأكثر جرأة في التجديد، وكان أيضاً أكثر واقعية في قراءة العصر، فلم ينظر إليه نظرة انبهار مطلق ولا رفض مطلق. واحتوت مقالاته في الصحف ودروسه الدينية وفتاواه حدوساً وتوجهات مهمّة اقتبسها منه الخلف، حتى قال د. محمد جابر الأنصاري في كتابه صراع الأضداد:إنّ كلّ الأفكار الجديدة قد خرجت من عمامة هذا الرجل! ومع هذا الجيل أصبح استعمال كلمة إصلاح ديني منتشرا، ويحمل دلالة إيجابية، حتى ذهب الأفغاني وعبده والكواكبي وغيرهم إلى أنّ المطلوب في الإسلام ليس أكثر من تحقيق ثورة دينية؛ مثل تلك التي قادها في أوروبا لوثر وكالفن.فقد قال الأفغاني: “لا بدّ من حركة دينية. إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدنية نراه لا يتعدّى الحركة الدينية التي قام به لوثر وتمت على يده”(6). وكتب محمد عبده: “قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة، ويبيحون للعامة أن ينظروا فيها ويفهموها، وقد رفعوا تلك السيطرة عن الضمائر والعقول. ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى بزغت شمس العلم بالغرب وبسط للعلم بساط التسامح”. وتحدث الكواكبي عن المصلحين في المسيحية بأنهم “الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد، ولا تمسكوا بمعاداة كلّ دين، كمؤسسي جمهورية الفرنسيس، بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقرّبوا، حتى جدّدوه وجعلوه صالحاً لتجديد خليق أخلاق الأمة. وما أحوج الشرقيين أجمعين -من بوذيين ومسلمين ومسيحيّين ويهود وغيرهم- إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء والرؤساء القساة الجهلة، فيجدّدون النظر في الدين”.
هذه الأفكار طوّرها الجيل الثالث الذي كان أكثر تخصصا في القضايا المثارة، مثل الكواكبي في قضية الاستبداد وقاسم أمين ونبويّة موسى ونظيرة زين الدين وطاهر الحدّاد في قضية المرأة، ومصطفى عبد الرازق في قضيّة العقل والفلسفة، وطنطاوي جوهري في علاقة الدين بالعلم، ومصطفى الغلاييني ورفيق العظم في علاقة الدين بالمدنية، والطاهر بن عاشور في قضية التعليم، ومحمد رشيد رضا في قضية الخلافة، وعلال الفاسي ومحمود أبو زهرة في تجديد الفقه الإسلامي، وعبد المتعال الصعيدي وعبد العزيز جاويش في قضية الحرية الدينية إلخ. ويمكن أن ندرج أيضاً في هذا الجيل توجهات أكثر راديكالية وإثارة للاختلاف والاعتراض، على غرار محمود أبو رية صاحب “أضواء على السنة المحمدية” وعلي عبد الرازق صاحب “الإسلام وأصول الحكم” وخالد محمد خالد صاحب “من هنا نبدأ” ومحمد أحمد خلف الله صاحب “الفنّ القصصي في القرآن”.
لقد تطلب طرح قضايا الأزمنة الجديدة مراجعات تأويلية وتغليباً للمقاصد والمصالح على حرفية النص، وبرز كاتبان تجاوزا الدعوات والشعارات إلى تقديم تنظيرات فلسفية جامعة في هذا التوجه؛ أحدهما الباكستاني محمد إقبال (1877- 1938) والثاني الجزائري مالك بن نبي (1905- 1973)؛ فالأوّل درس الفلسفة الحديثة في ألمانيا وحصل على الدكتوراه، إضافة إلى إلمامه بالعربية والفارسية والأردية، واطلاعه العميق على التراث الإسلامي، وخاصة الصوفي منه، فترك عملاً متميزاً يجمع بين الالتزام الإسلامي والانفتاح على المعارف الحديثة، وبين روحانية جلال الدين الرومي وفلسفة أمانويل كانط، تجلّى في دواوينه الشعرية العديدة المنشورة بالفارسية والأردية، ثم خاصة كتابه الفذّ “تجديد الفكر الديني في الإسلام” الذي جمع سبع محاضرات كان قد ألقاها في الثلاثينات من القرن العشرين باللغة الإنجليزية، واختزلت آراءه في الإصلاح الديني والتوفيق بين التراث والعصر والمبادئ الموجهة للتجديد الإسلامي. أما الثاني-مالك بن نبي- فقد نشر سلسلة من الكتب والبحوث تحت عنوان “مشكلات الحضارة”، توجّهها الفكرة الرئيسة التي يتفق فيها دعاة الإصلاح الديني، وقد صاغها مالك بن نبي في الصياغة التالية: كل حضارة تأسست على فكرة دينية، فعلاج كل حضارة عند اعتلالها يكون بإعادة تفعيل الفكرة الدينة التي تأسست عليها. هذا القانون وجّه كتبه المختلفة، ومنها: “الظاهرة القرآنية” (1946)، و”شروط النهضة” (1948)، و”مشكلة الثقافة” (1959) إلخ. وهو كما نرى يتلاءم مع كونية الإصلاح الديني وكونه مرحلة تمرّ بها مختلف الحضارات. كما أنّ الإسلام لدى مالك بن نبي روحٌ قبل أن يكون تفاصيل فقهية قد يكون بعضها قابلاً للتغيير بتغير الأزمنة.
من الإصلاح الديني إلى الأيديولوجيا الدينية
تغيّر المناخ العام بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت حركات التحرّر الوطني أو الثورات القومية هي المسيطرة، فتراجع الاهتمام بمشروع الإصلاح الديني؛ فقد فضلت حركات التحرّر الوطني الابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يحدث الجدل والاختلاف. ومن طبيعة القضايا الدينية أن تكون شديدة الحساسية؛ فتجنبت الخوض فيها في هذا الظرف الحسّاس، ثمّ بعد الاستقلال كان توجه الحكومات سياسياً واقتصادياً أكثر منه ثقافياً، فوقع إهمال الثقافة عامة، والثقافة الدينية خاصّة، ونظر إلى التقدّم على أنّه عملية اقتصادية تقنية أساساً، ورأت الجامعات الحديثة أن قضايا الإصلاح والتجديد في الدين لا محلّ لها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو أنه من غير المناسب طرح النموذج الإسلامي على محكّ المناهج والمقولات والمفاهيم التي تقدمها تلك العلوم، ومنها مفهوم الإصلاح الديني الذي شهد في الأثناء تطورات مهمة بفضل علم الاجتماع الفيبري ومدرسة التاريخ الجديد الفرنسية.
ولئن كان وارداًحصول الاتفاق على تصنيف الأجيال الثلاثة التي ذكرناها سابقاًتحت عبارة الإصلاح الديني، وعلى عدِّ الفترة التاريخية الممتدة من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين مرحلة الإصلاح الديني؛فإنّ ما حصل بعد ذلك جاء مختلفاً؛فقد تواصل تأثير الفكرة الإصلاحية ولكن في شكل محاولات فردية، ولم يعد يمثل حركة اجتماعية ودينية واضحة المعالم. وقد قدّم تلك المحاولات الفردية أشخاص ذوو تعليم ديني أو حديث، اهتموا بتطوير الرؤية الدينية في مجتمعاتهم، ويمكن تصنيفهم في قسمين كبيرين: قسم المتخصصين في العلوم الإنسانية من الذين اتجهوا إلى توظيف مقولات هذه العلوم ومناهجها في التجديد الإسلامي، وقسم الذين جمعوا بين تكوين ديني وتكوين حديث وامتلكوا كفاءة التجديد بحكم هذا التكوين المزدوج. ويمكن أن ندرج العديد من الأسماء من الفريقين؛بيد أنّ هذه المحاولات الفردية ظلت محدودة، ولم يقع تبنّيها في الغالب لا من المؤسسات الدينية الرسمية ولا من المؤسسات الثقافية والتعليمية الرسمية.
ولعلّ من أسباب ذلك أنّ النصف الثاني من القرن العشرين قد تميّز بالسيطرة المطلقة للأيديولوجيا بمختلف تنويعاتها: الماركسية والقومية وأيضاً الدينية؛ حيث إنّ الفراغ الذي تركه مشروع الإصلاح الديني والجمود الذي ظل يميّز المؤسسات الدينية الرسمية في العديد من المجتمعات الإسلامية قد فتح المجال لنشأة الإسلام السياسي، الذي لا يهتم بالتجديد بقدر اهتمامه بالتوظيف؛ أي اختزال الدين في الجانب السياسي واستعماله في تحشيد الأتباع، لذلك يمكن أن تتغيّر مواقفه وآراؤه بتغيّر المصالح والتحالفات، دون عمل عميق في صلب التأويل. ولاشكّ أنّ التوظيف المصلحي للدين لن يخدم قضية التجديد والإصلاح، وما قد يبدو يوما مواقف إيجابية قد يتغيّر غداً بتغير المصالح، وقضية التجديد والإصلاح قضية استراتيجية تتعالى على الخطط الحزبية للحكم أو المعارضة؛ لأنها تحدّد مصير المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة أو الأقليات المسلمة، ولا تحتمل أن تقحم في مجال المناورات السياسية.
إن الاضطراب الديني الذي يربطه بعضهم بالإسلام هو في الحقيقة اضطراب سياسي مصبوغ بلبوس ديني، أسبابه العميقة ما دعاه رضوان السيد بالصراع على الإسلام ومحاولات اختطافه من أطراف مختلفة ومتباينة المصالح. ومن تبعات هذا الوضع أن تغيّر وضع الدين من عنصر جامع في المجتمع إلى عنصرٍ مفرّق، بسبب تسييسه المفرط وحشره في صراعات التفوّق والهيمنة. فهذا هو في العمق سبب الاضطراب الديني الذي يعيشه الإسلام بصفة كامنة منذ بداية العصر الأيديولوجي، وبصفة بارزة منذ انهيار الأيديولوجيات في تسعينات القرن العشرين.
لقد تميّز العصر الأيديولوجي باختزال القضايا الكبرى والمعقدة في سرديات بسيطة وشعارات جذّابة لكنها فاقدة للنجاعة، وقامت الإيديولوجيات عموماً بحجبحقائق الأوضاع والحيلولة دون محاولة تقديم حلول عملية بشأنها، فألهت الأيديولوجية الماركسية الناس بالبروليتاريا والصراع الطبقي في مجتمعات لم تشهد ثورة صناعية، ودعت الأنظمة العسكرية إلى الوحدة العربية وهي عاجزة عن تحقيق الاندماج الاجتماعي بين الطوائف والقبائل في بلدانها، وأغرى الإسلام السياسي الشباب باسترداد الأندلس وإعادة الخلافة والإطاحة بالجاهلية الجديدة في واقعٍ كان الأوْلى فيه دعْم الدولة الوطنية الناشئة، واقتباس المعارف الحديثة وتحويل التكنولوجيا. وزايدت الأيديولوجيات بعضها على بعض، في كل القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي لم تستفد شيئا غير الشعارات الحماسية والصراعات الداخلي،ة التي أضعفتها وأفقدتها كل الأوراق الرابحة.
وكان يؤمل مع انهيار الإيديولوجيات في تسعينات القرن العشرين -بسبب سقوط المنظومة الشيوعية وانهيار مقولة الوحدة العربية مع أزمة غزو الكويت- أن تتجه الأوضاع والآراء والخطابات إلى الواقعية، وأن تقع الاستفادة من دروس الماضي. ودعا عدة كُتاب إلى استلهام ما كان قد حصل في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واستئناف النهضة الأولى، أو تفعيلها بمشروع نهضة ثانية، وذلك برافديها الأدبي والديني. فالرافد الأدبي يتمثّل في إعادة تشجيع الإبداع والترجمة وتبسيط الأفكار الحديثة، وتثمين دور العقل والفلسفة والروح النقدية، كما حصل مع الروّاد سابقاً. والرافد الديني يتمثّل في استعادة الحدوس التي طرحتها حركة الإصلاح الديني، بالمعنى الذي حددناه، وتطويرها وتعميقها، أخذاً بعين الاهتمام التطورات الحضارية العامة المتواصلة إلى اليوم، والحاجيات الخاصة للمجتمعات الإسلامية، بما يجعل الإصلاح الديني جزءا من استراتيجية عامة للنهوض بعد تعثرات النهضة الأولى. لكن نهاية الأيديولوجيات لم تفتح المجال لهذا الطموح الحضاري النبيل بقدر ما حولت نوازع العنف الكامنة من الصراع الأيديولوجي إلى الصراع الديني، ورفعت مخزون العنف السائد عندما صبغته صبغة دينية. وتصادمت داخل الإسلام السياسي أجنحته الشيعيّة والإخوانيّة والسلفية الجهادية، واستفحل صدامها مع الثورات العربية التي تركت خمس بلدان في المنطقة تعاني منهم للسيطرة عليها واختبار برامجهم الفاشلة فيها.
القراءة بالحدّ والقراءة بالأفق
من المقترحات المطروحة اليوم للخروج من الاضطراب الديني الذي استفحل مع الثورات العربية-وقد كانت جذوره كامنة قبل ذلك بكثير للأسباب التي بيّنّاها- أن نعيد تفعيل بعض الحدوس الإصلاحية وتطويرها بما يناسب الأوضاع الجديدة ويستفيد من تجارب الماضي، فيتّسع مفهوم الإصلاح الديني من المعنى التاريخي الضيّق الذي عرضناه إلى معنى أوسع يشمل محاولات فردية عديدة سعت أو تسعى إلى إيجاد توازن إيجابي بين الدين ومتغيرات الواقع، وإلى طرح تأويلات غير متعسفة للنصوص الدينية تدفع نحو تجديد حقيقي في هذا المجال. وليس المقصود العودة إلى حلول طرحت في سياقات القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، ولا إلى مجادلات كانت مرتبطة بأوضاع معرفية وسياسيّة معيّنة؛ وإنّما المطلوب التأكيد على شرعية الإصلاح وعراقة تجربته في الفكر الإسلامي المعاصر، واستلهام ما تميّز به من جرأة وانفتاح وفضول معرفي. ويمكن للإصلاحية الإسلامية- بوصفها رأسمالاً رمزياً ومجموعة من الحدوس التأويلية التجديدية- أن تمثّل اليوم رافداً من روافد مرجعيّة دينية بديلة في المجتمعات ذات الأغلبيّة المسلمة أو الأقليّات المسلمة في العالم، على أساس تطوير مجموعة من المبادئ الموجهة، مثل الإقرار باستمرارية الدين في المجتمع الحديث واحترام الشعور الديني والحريات الدينية، بما يترتّب على ذلك من قطع من الأيديولوجيات الوضعانية التي تعدّ الدين مرحلة تاريخية منتهية، وتنظر إلى حضوره في الأزمنة الحديثة على أنه مجرّد بقايا من الماضي فقدت دورها وأصبحت عبئًا على البشر.
ومن المبادئ الرئيسة أيضا قبول مبدأ المواطنة والدولة الوطنية ونظم الحكم الحديثة، والتخلّي عن وهم استعادة أشكال تاريخية لم تعد مناسبة للعصر، وبعضها لم يكن تاريخياً بقدر ما كان صورة متخيّلة ركّبت بانتقاءِ أحداثٍ متفرقة من التاريخ وإسكات أحداثٍ أخرى كانت أكثر حضوراً وتأثيراً. ومنها أيضاً-أي المبادئ- التفاعل الإيجابي مع العلوم الحديثة في المجالات الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، والاعتراف بالدور الذي أضحت تضطلع به هذه العلوم في توجيه المعرفة البشرية عامة، وتجاوز الوضع الحالي الذي أصبح فيه المسلمون مجرّد مستهلكين لهذه العلوم في أحسن الحالات، بعد أن كانوا في عهود الازدهار أقطابا للمعرفة، تترجم كتاباتهم إلى اللاتينية، وتدرس في الكنائس والأديرة؛ بل أصبحوا في كثير من الأحيان معْرضين عن العلوم ومقتصرين على التقليد الديني، الذي أصبح بدوره مقطوعا عن التفاعل مع تطوّر المعرفة البشرية، رغم أنّه قد شيّد سابقا في سياق التفاعل والانفتاح والمثاقفة بين المسلمين والحضارات الأخرى، كما حصل مع حركات الترجمة للآثار الإغريقية والهنديّة وغيرها.
يمكن أن نذكر أيضاً ضمن هذه المبادئ الإقرار بالتعايش والتسامح بين الأديان والمذاهب؛ لأنّ الأزمنة الحديثة تتميّز بكثافة التواصل بين البشر، بفضل وسائل النقل وشبكات الهاتف والإنترنت وعولمة الاقتصاد وتيسير الأسفار لعامة الناس، فأصبح الإنسان يتجاور ويتعامل مع أصناف شتّى من البشر يختلفون عنه اختلافات ثقافيّة شتّى؛ لكنهم ينتمون معه إلى عالم أصبح قرية كونية صغيرة، فمن المهمّ أن تكون نسبة التسامح أعلى بكثير مما كانت عليه في عهود سابقة، حيث كان الناس يتجاورون دون انصهار، أو أنهم كانوا منفصلين جغرافيا في مجموعات دينية أو مذهبية، ويتطلّب هذا التحوّل مراجعات عديدة في مجال الرؤية إلى الآخر والتعايش معه.
وقد ذكرنا أنّ إعادة التفعيل لمشروع الإصلاح الديني لا تعني العودة الحرفية إلى أفكار وحلول طرحت في السياقات الخاصة للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بقدر ما هي سعي يستوحي من تجربة ماضية لمواجهة تحديات الحاضر. من هنا يجدر التمييز بين القراءة بالحدّ التي تقوم على تكرار المواقف السابقة، والقراءة بالأفق التي تهدف إلى الانطلاق من حدوس سابقة لفتح أفق جديدة في قضيا لها جذور في الماضي وامتدادات في الحاضر.
فعلى سبيل المثال قدّم رفاعة رافع الطهطاوي في القرن التاسع عشر حدوساً ومواقف تعدّ رائدة بمقاييس عصره في مجال المواطنة، عندما ترجم الدستور الفرنسي وعمل على تبيئة مفهوم المواطنة في كتابيه “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين” و”مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية”. فهذا كلّه يستلهم اليوم وإن كانت قضايا المواطنة والدولة الوطنية قد تجاوزت بكثير تصوّرات الطهطاوي وآراءه؛ لكنّ المهمّ الشرعية التاريخية التي يكتسبها المفهوم عندما سينزّل في سياق تأويلي طويل المدى، ويرتبط بشخصيّات تتمتّع برصيد رمزي كبير.
كذلك قدّم خير الدين التونسي برنامجاً إصلاحيّاً يقوم على قاعدة لخّصها في العبارة التالية: “إنّ الأمر إذا كان صادراً من غيرنا وكان صواباً موافقاً للأدلة -لا سيّما إذا كنّا عليه وأُخذ من أيدينا- فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله. وكلّ متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالاً في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداء به فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدّنيوية كما تفعله الأمة الافرنجية. فإنهم ما زالوا يقتدون بغيرهم في كل ما يرونه حسناً من أعماله، حتّى بلغوا في استقامة نظام دنياهم إلى ما هو مشاهد. وشأن النّاقد البصير تمييز الحق بمسبار النظر في الشيء المعروض عليه قولاً أو فعلاً، فإن وجده صواباً قِبله واتبعه، سواء كان صاحبه من أهل الحق أو من غيرهم. فليس بالرجال يعرف الحق بل بالحق تعرف الرجال. والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها”. فهذه القاعدة تستلهم اليوم في تحديد العلاقة بالآخر، مع أنّ مظاهر الاختلاف قد اتّسعت وتعقّدت مقارنة بالعصر الذي عاش فيه خير الدين، وإنّ قضيّة الاقتباس طرحت بالتجربة والعيان إشكالات أكثر تشابكاً وعسراً ممّا تصوّره خير الدين وهو يضع قاعدته تلك، وهي تمثل فتوى حضارية عن حكم الاقتباس من غيرنا بأنه جائز، بل هو فرض وضرورة، كما كتب.
وكما أنّ القراءة بالأفق تقتضي تطوير المواقف والحدوس الأولية؛ فهي تطرح أيضاً مراجعتها بحسب ما تبيّن بالاختبار والتجربة؛ مثل ضرورة تنسيب الأحكام القاسية التي أصدرها بعض الإصلاحيين بشأن المؤسسات الدينية التقليدية، وطرح إمكانية المراهنة على بعض هذه المؤسسات في محاولة التطوير والتجديد لتجنب الفراغ الحاصل حالياً، وضرورة تنسيب الانبهار أحياناً بالحضارة الحديثة والأخذ ببعض المسائل على أنّها من المسلمات اليقينية.
التفاهم-موقع الحداثة و الديمقراطية