حداثة و ديمقراطية

لماذا لا يحدث الإصلاح السياسي المستدام المستقر ؟

محمد أبو رمان

ناقشت في مقال أمس “إعادة التفكير في الإصلاح” مآلات الإصلاح السياسي في المشهد العربي، في ظل حالة “الاستعصاء السلطوي”، التي لا تسمح بمرور تغييرات جذرية وبنيوية في المعادلات السياسية المتكلّسة الراهنة، رغم “انتهاء صلاحيتها” التاريخية والمنطقية والواقعية.

والنتيجة الماثلة حالياً، أمامنا، انفجار الأزمات الاجتماعية والانتكاسات الثقافية المرعبة، التي تصيب العديد من المجتمعات العربية وتبرز في عناوين واضحة على السطح العام، كذبول “الجوامع الوطنية” والدينية، والردّة نحو الانتماءات الأولية والطائفية والقبلية، وانهيارات في التعليم، وفشل في التنمية، ومعدّلات مرعبة من الأميّة المعرفية والبطالة والفقر، وجيوب الحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية..الخ.

والحال، أنّنا وبعد قرن على ولادة الخطاب النهضوي- الإصلاحي العربي الذي عاين “الفجوة الحضارية” والأزمات السياسية نجد أنّ الأمراض الثقافية والاجتماعية تستفحل، بل تأخذ صيغةً مركّبة معقّدة، فبدلاً من أن تكون مشكلتنا المواجهة المباشرة مع الأمية والتخلف الصناعي وأزمة السلطة، وتخليق قيم المدنية والمواطنة والإنتاج، أصبحت في تركيب أنماط استهلاكية وثقافية مشوّهة على الأمراض المقيمة فينا، ونظم قمعية ترفع شعارات وطنية وقومية ودينية لتستر فسادها وفشلها وعجزها المزمن في تحقيق شرعيتها السياسية التعاقدية مع المجتمعات.

لعلّ السؤال الذهبي من وحي الاستعصاء السلطوي الحالي: لماذا لا يحدث التغيير في العالم العربي؟

الجواب، بلا شك، ذو أبعاد سياسية وتاريخية واجتماعية وثقافية، وهو ليس وليد اليوم، بل ممتد من الولادة المتعسّرة لنظام الحكم في الإسلام إلى اليوم.

لكنّ مقاربة اللحظة التاريخية الراهنة تؤشّر على أنّ المشكلة لا تقف عند حدود النظام السياسي الرسمي العربي، بل تصيب في الصميم المعارضة السياسية وقدرتها على اجتراح بدائل وخيارات سياسية استراتيجية تعكس توافقات اجتماعية وسياسية على مشروع الإصلاح السياسي وخريطة النهضة الوطنية.

على النقيض من ذلك، فإنّ “المعارضات” العربية فشلت في العديد من التجارب بحماية “الُّلحمة الوطنية” عندما وصلت إلى السلطة أو تفكّكت فيها الدول، بل كانت الفوضى الداخلية ومخاطر الحروب الأهلية هي البديل المرعب للمواطن العربي.

بيت القصيد (هنا) أنّ المشكلة لا تقبع فقط عند الحكومات أو السلطات العربية، وكذلك فإنّ الانتخابات ليست الباب الوحيد لتغييرات نوعية بنيوية في الحال العربية الراهنة (وإن كانت عاملاً مساعداً)، بل هنالك فجوة واسعة تفصل بين الشعوب والحالة الثقافية- الاجتماعية العربية وبين القدرة على فعل التغيير رغم حالة الاستعصاء السلطوي المقيمة.

“فجوة الفعل”، إن جاز التعبير، لدى الشعوب والمجتمعات العربية تفسّرها عوامل ثقافية وتراثية وسياسية متعددة، وتستدعي، بالفعل، اليوم نقل “بؤرة” الخطاب السياسي الإصلاحي من التمركّز حول السلطة والحكومة إلى المجتمع والثقافة، كما بدأ الخطاب الإصلاحي- النهضوي الحديث، قبل أكثر من قرن مضى، عندما وجّه اهتماماته نحو المجتمع لاستنهاضه وإخراجه من حالة الركود والاستسلام لثقافة التواكل التي ارتبطت في شطرٍ منها بميراث يمجّد السلطة ويلعن السياسة، ويحذّر مما تحمله من متاعب ومشكلات.

لم نكمل الطريق، فأحدثنا قطيعة مع الخطاب الإصلاحي، بصورة كاملة، منذ ولادة الدولة القطرية العربية، ودخولنا في نفق الصدام العقيم بين الاتجاهات الإسلامية والعلمانية، وبروز أسئلة الهوية المتمحورة على الذات، على حساب أسئلة النهضة والتنوير، فتراجع دور الفقهاء والأكاديميين والمثقفين لصالح النخب الحزبية المؤدلجة أو التي تدور مع السلطة، ففقد الإصلاح خطاب التواصل مع المجتمع.

في المقابل، فإنّ الحركات الإسلامية الفاعلة التي احتلت مساحة واسعة من المشهد السياسي لم تتجه بخطابها السياسي نحو المجتمع بصورة نقدية تدفع به إلى تعزيز قيم المواطنة والعطاء والفعل والتغيير الذاتي، بقدر ما فعّلت خطاب “الحشد” و”التعبئة” والتمازج مع الثقافة السائدة بدلاً من تفكيكها.

اليوم، وبعد مرور قرن ونصف قرن من “التجريب” في السياسة، والصراعات التي تدور في فلك السلطة، وتبدّد محاولات التغيير السياسي الإصلاحي كافة، التي تردم الثغرات التي تحول بين شعوبنا وبين الخلاص من غوائل التخلف والاستبداد والفساد، فإنّنا بحاجة إلى تفكير استراتيجي مختلف بطبيعة القوى والخطاب المطلوب لتحقيق الإصلاح المستدام المستقر.

ذلك، لا يعني التخلّي عن مطالب الإصلاح السياسي تجاه السلطة، لكنّه يدفع إلى البحث عن الحلقة المفقودة التي تفسّر لماذا ندور، نحن العرب، حول أنفسنا منذ عقود ونكرر ونجتر الأسئلة ذاتها، بينما العالم الآخر، حتى الدول الإسلامية تسبقنا بمسافات فلكية!

الغد- موقع الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate