في مأزق “التقدميين العرب “مع الثورة السورية
مذهل حد الصدمة استمرار تيارات سياسية وشعبية، في سورية وفي بعض الدول العربية، في دعم نظام بشار الأسد،رغم القمع والدمار الشامل الذي ألحقه بشعبه ووطنه وبعوامل الحياة الأساسية في بلاده.لقد ظلت هذه التيارات وفقا لما تعلن من مواقف وتصريحات، غير قادرة فيما يبدو على التفريق بين النظام المستبد من جهة، وبين الدولة السورية وشعبها من جهة أخرى، وفية لوعي بمفهوم عن الوطنية وسيادة البلد ملتبس بل مختزل،كمحصلة موضوعية،بوجود النظام السوري واستمراره حاكما لسورية.
المثير أن معظم الوجهات السياسية لداعمي النظام السوري في موقفه من الأزمة السورية هي إما قومية أو يسارية، وهي تيارات لطالما ادعت أنها تنحاز إلى الحرية وتحرير الإنسان العربي وإلى التقدم بواقعه وصولا إلى آفاق يحقق فيها شخصيته القومية أو ينجز تحرره الطبقي،ليرتقي بظروف حياته كافة منعتقا من شروط القهر والتخلف والاستلاب التي يعانيها. في حين أن ما كشف عنه تعاطي تلك التيارات مع الوضع السوري لا يتجاوز الدوغمائية التي تستحكم بمواقفها وقراءاتها،والانغلاق الذي تعانيه نظمها الأيديولوجية. هذا الانغلاق هو ما يفسر تثبتها في مقاربتها للحال السوري، حول فهم ملخص حاله،أن العوامل التي تحمل تهديدا وجوديا جديا للدول والمجتمعات العربية،مستقرة في الخارج وأطماعه، في الامبريالية والرأسمالية الغربية، أو في وكلائهما المحليين والإقليميين، وأن ليس ثمة أزمة استبداد سياسي تعانيها الذات العربية نفسها وعليها مواجهتها وتجاوزها والقطيعة معها.إن دوام ترحيل “التقدميين” العرب، من قوميين ويساريين، لمسؤولية الارتكاسات الوجودية والانكسارات الحادة التي تعانيها المجتمعات العربية أثناء مواجهتها لأسئلة التقدم والديمقراطية إلى الخارج، إلى الولايات المتحدة والغرب، واعتبارهما،لا سيما الأولى منهما شرا أكبر ومطلق، وأنهما كذلك أينما يضعان يدهما ويحضران بسياساتهما،وأن لا بد والحالة هذه من الوقوف في صف أي سياسة تتناقض معهما، أيا تكن المعادلات وكيفما تتبدل المعطيات، يشي بأن الأزمات المتحكمة في آليات إنتاج الوعي لديهم ذات منشأ بنيوي، وأن الانقطاع عن الواقع والجمود الذي يعانيه خطابهم السياسي،بما فيه قياسه للوطنية، ومعاييره عن الحقوق والمواثيق الكونية،يكرس ركودهم وبلادتهم وغيابهم عن مستجدات القانون الدولي والمعاهدات الدولية وتجارب التدخل الإنساني التي حصلت في العديد من دول العالم،والأهم من ذلك انه يفضح لا إنسانيتهم ووقوعهم فريسة لنوع جديد من العنصرية، فحين يغدو القتل الذي يمارسه ابن البيت الوطني كمبدأ، أقل وطأة، بما لا يقاس، مما لو فعله من لا ينتمي إلى ذات البيت. وعندما لا ينقض القتل الممنهج والاعتداء الوحشي على آدمية الإنسان،مبدأ السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية،يصبح الإيمان بمبادئ سيادة الدول الوطنية وعدم التدخل في شؤونها مطابقا للدفاع عن استعباد وقهر وقتل الإنسان فيها.
إن الوطنية بالمعنى الذي يتطلب من المرء الوقوف ضد ما يقوض قدرة نظام ما على الاستمرار بالقتل،كالنظام السوري الذي لم يشبع من سفك دم شعبه طوال عامين ونصف، ولم يتورع عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين وأبرياء،أقرب إلى العنصرية منها إلى أي معناً آخر.أي فهم للوطن وأي علاقة معه،لا يكون جوهرها الإنسان وحقوقه هي علاقة بدائية مهددة بالانحراف الدائم وبهدم ما هو إنساني لمصلحة ما هو متخيل وصنمي ومتعالي عن ثقافة الحياة.وكل علاقة مع الوطن لا تموضع بشكل عضوي ومركزي ذلك الجوهر،هي مكون حقيقي ورئيسي للعصبية والانغلاق. الآن،وبعد كل الذي حصل من دمار وخراب طال المجتمع والدولة في سورية،وبعدما ارتكبه نظامها من مجازر وجرائم ضد الشعب السوري يتورع أن يلحقها به عدو حقيقي، هل ستستمر الغالبية الساحقة من القوميين واليساريين العرب على موقفهم الداعم للنظام السوري؟ ألم يحن الوقت بعد كي يضعوا عدتهم الأيديولوجية أمام مساءلة نقدية جادة، تصل إلى العميق والبنيوي في وعيهم ومواقفهم السياسية؟وإلى متى سيظلون أسرى للانغلاق الأيديولوجي الذي يعتور وضعهم؟!
على هؤلاء أن يعوا أنهم ما لم يبادروا إلى تعيين سقوف فكرية جديدة يلتزمون بها، تتحدد معها مهمة السياسي بشكل بدهي ورئيسي في الدفاع عن حق الحياة،ويصبح بموجبها كل وعي لا يتأسس على مركزية صون حقوق الإنسان باعتبار ذلك أولوية قصوى تعلو على أي اعتبار فكري أو أيديولوجي،وعيا زائفا ومنبوذا، كيفما حاول التخفي، تحت ستار الوطنية،أو بحجة الممانعة أو أي حجج واهية أخرى،فسيكونون إلى انكشاف وتردي ومشاركة في مواقع الجريمة والعنصرية.ودون أن يصوغوا تعريفا جديدا وموقفا مختلفا من الوطن وإنسانه وتفاعلهما مع العالم والمجتمع الدولي،على قاعدة التحرر من وهم الاستهداف الحضاري والمؤامرة الاستعمارية الغربية،.فهم إلى مزيد من التكلس الذاتي والعزلة عن الواقع،وتاليا،غياب أكيد عن المستقبل.
رئيس حزب الحداثة و الديمقراطية “فراس قصاص”