في ازمة اطر المعارضة السورية الداعمة للثورة ..الائتلاف الوطني السوري نموذجا
يستمر السوريون اليوم، رغم مرور سنوات طويلة على انطلاق احتجاجاتهم ضد نظام بشار الأسد، في تأدية ثمن متضخم للغاية لثورتهم، ثمن دمر حياتهم في سورية، وأطاح بشروط عيشهم الأساسية فيها. هذا الثمن الذي لم يعد يحتمل أو يطاق، لم يكن حتميا دفعه ومبادلته بالحرية والكرامة التي يتطلع إليها الشعب السوري، كما لم يكن بأي حال، نتيجة أوتوماتيكية للتمرد على نظام الاستبداد، وليس أيضا، كما يخيل للبعض، بسبب تحول الثورة السورية إلى العسكرة، فهذا التحول لمن يعرف كيف تتخلق وتتفاعل ديناميات الاجتماعي السياسي السوري، كان قسريا وحتميا، طالما أن قمع الثورة بوحشية كان سيلازم استمرارها، وطالما لم يكن هناك ثمة عمق اجتماعي لقوى سياسية داعمة لثورة السوريين أو منخرطة فيها، بما يمكنها من توجيه وضبط الفعل الثوري. إنما ترتبت هذه الفاتورة الباهظة، وفق المنظور الذي تعتمده هذه السطور، على سوء إدارة كارثي لشؤون الثورة السياسية، وهو ما تتحمل مسؤوليته القوى السياسية المعارضة، التي شاركت في صناعة القرار السياسي للثورة واستحوذت على تمثيلها، من دون أي معايير واضحة، اللهم إلا وقوع بعضها ضحية لقمع الاستبداد في فترة ماضية، وتنادي بعضها الآخر، متسلحا بدعم واستتباع من قبل طرف إقليمي أو دولي، لتشكيل تنظيمات سياسية جديدة، فقط لغرض التمثيل وشغل الإحداثيات في منصة الهيمنة على الوضع الثوري. وإذا كان البعض الأول من هذه المعارضة يحتاج إلى إعادة تأهيله نفسيا وسياسيا قبل حيازته أي فاعلية في وضع معقد كالوضع السوري، وليس أن يتحكم في إنتاج سياسة الثورة على النحو الذي كان، فإن البعض الثاني بوصوليته ونهمه إلى شغل مواقع السلطة في الطرف الثوري وافتقاده لأي خبرة سياسية سابقة، أضاف عبئا جديدا على المسار السياسي للثورة وراكم سلبياته إلى حد كبير.
إلا أن ما ثبت بعد تدوير الفشل وإعادة إنتاج العجز الذي لازم المعارضة السورية أثناء تصديها لتحديات واستحقاقات الثورة السورية على كل الصعد، لا سيما بعد تحالفها وتأسيسها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، هو أنها تعاني من أزمة بنيوية عميقة وشاملة، أزمة أحالتها إلى مجرد قوى إعاقة متفاقمة للثورة، تؤثر سلبا في الوضع الثوري وتعظم من تداعياته الصعبة بدلا من الحد منها ومعالجتها، وقد أصبح الحديث عن أزمة يعانيها الائتلاف الوطني، بوصفه الجسم الجامع لهذه المعارضة بشقيها، التقليدي واللاحق على انطلاق الثورة، يتطلب رصدا لأبعاد متعددة، منها الفكري السياسي ومنها التنظيمي والعملي، منها ما هو متعلق بالانغلاق الأيديولوجي والاستعلاء النخبوي والذهنية الشللية والعصبوية وإشكالية العلاقة مع القيمة الديمقراطية، ومنها ما له علاقة بضحالة التجربة السياسية وانعدام الإلمام بأبجديات السياسة الأولى، والحال هذه فإن الائتلاف مذ تأسس، جمع في تكوينه مشاكل متعددة المصادر، ولد تجاورها وتضافرها مزيدا من التنافر والدعة، أصاب بنيته الكلية وأثر على أدائه العام، موديا بالمسار السياسي للثورة إلى هوة سحيقة، تجاوزت تلك التي وصل إليها المجلس الوطني في أيامه الآفلة. بيد أن الأكثر خطورة ويبرزه بوضوح تحليل المسار السياسي للثورة منذ تأسيس الائتلاف الوطني، هو تعاطي الأخير للسياسة على نحو سطحي وشفهي، وأنها لم تكن في وعيه إلا هذيانا لغويا عن الدولة الديمقراطية وردحا بإجرام النظام واستبداده، أما الجانب العملي منها، فلا يتجاوز العمل على الأطر السياسية وحضور المؤتمرات، ومن ثم زيارة السفارات ووزارات الخارجية.
أزمة الائتلاف مع السياسة بهذا المعنى، أزمة منهجية وجذرية. هو لم يشتغل سياسة أبدا بالمعنى العلمي/ العملي للكلمة. وعلى ذلك فإن كل من يلقي بفشل الائتلاف على رئيسه السيد احمد الجربا، الذي لم يكن هو صانع السياسة في الائتلاف أو على سواه من أفراد، إنما تخونه الموضوعية وتجافيه القراءة التحليلية العميقة والشاملة، هكذا قراءة لا تعبر ولا تصب في المحصلة، إلا في مصلحة إذكاء الصراع على المواقع والنفوذ بين مختلف الشخصيات والأطراف داخله. صنعت السياسة في الائتلاف كمحصلة وتفاعلا لفهم مكوناته وخبراتها السياسية، ووجود الجربا في موقعه هذا بحد ذاته، هو من علامات أزمة مكونات الائتلاف في مستوى إنتاجها لدوائر وقيادات ومؤسسات الجسم الذي أنجزته بتحالفها وائتلافها، وليس أي شيء آخر.
وإذا كان سلوك الائتلاف السياسي الهزيل ينتج عن المنظور الذي يتعاطى من خلاله السياسة ويدير وفقه الوضع الثوري، وهو منظورلا يفتقد إلى الجانب العملي والتشكل العلمي وحسب، بل هو منظور أيديولوجي مغرق في أدلجته، محبوس عن الواقع وحركته ومرتبط بسمات ثابتة وساكنة عن الوطنية وعن أولويات ومنطلقات التحديات التي تواجه السوريين، التي لا تتبدل ولا تتحول، أيا تكن انعطافات الواقع ومستدعيات الحفاظ على الإنسان في سورية حاضرة وملحة، بما أطاح بفاعليته السياسية وقدرته على تحقيق منافع استراتيجية للثورة، فإن المخيب للآمال إلى درجة مفرطة، يتمثل في ما بدا في سلوكه ومواقفه وكأنه استعادة وتمثل لعقلية وممارسات النظام السوري، فالائتلاف لم يوفر فرصة إلا وصدَر للعلن، من خلال بعض مكوناته وأشخاصه النافذين، كم هي محايثته للقيم الديمقراطية هشة ومتهافتة، وكم هي رغبته بالاستحواذ والإقصاء جلية، وكم هو دخوله، رغم كل ما يحدث في سورية من كوارث، في الصراع على المصالح الضيقة، صارخة ومؤذية، الأمر الذي أفقده مصداقيته أيضا، وأطبق على هيبته وصورته وأضعفهما إلى حد كبير. لكن، إذا كان الائتلاف الوطني يعيش أزمة يبدو تجاوزها أمرا متعذرا ومستبعدا إن لم يكن مستحيلا، على خلفية عمقها وجذريتها وطبيعتها البنيوية، فهل يعجز الأفق السوري وفضاؤه السياسي والثوري عن بلورة بديل ممكن لهذا الجسم ومكوناته العاجزة، بديل قادر على التأثير في معادلات الداخل الثوري والخارج الإقليمي والدولي تأسيسا على ممارسة سياسية بأبعاد ومستويات جديدة؟ أم أن الحال السوري بات عقيما إلا من المزيد من المآسي والانسدادات، وأن سورية كدولة ووطن وإنسان لن تقوم لها أبدا قائمة؟ّ
رئيس حزب الحداثة و الديمقراطية “فراس قصاص”