حقوق النساء و تضارب الخطاب الديني
رابحة سيف علام
يظل الخطاب الديني مؤثراً بشكل كبير في المقدار الذي تحصل عليه المرأة من حقوق في المجتمعات العربية و الاسلامية ، ويتحدد ذلك بحسب المدارس الفقهية والتيارات الفكرية التي تسيطر على إنتاج الخطاب الديني. ولكن في مصر، بلد الأزهر، الذي أُنشئ كأول جامعة متخصصة في إنتاج المعرفة الدينية في العالم الإسلامي قبل أكثر من ألف عام، توقع الكثيرون أن يكون الخطاب الديني وإنتاج الفتاوى أكثر انضباطاً خاصة فيما يتعلق بالنساء، اللواتي يمثلن نصف المجتمع والدعامة الأساسية لاستقراره وتقدم مسار التنمية فيه.
ومع صدور كل فتوى مثيرة للجدل، يثار التساؤل حول أسباب عدم تنظيم إنتاج الفتاوى والمعرفة الدينية المتشابكة مع كافة مناحي الحياة على نحو أكثر انسجاماً مع التحديات المعاصرة. وتثار الشكوك حول جدوى البحث في المرجعيات الدينية والتعويل عليها في تقديم خطاب ديني معاصر قادر على الاستجابة لما يمر به الناس من مشكلات حياتية. ولكن سرعان ما يتحول الجدل من التفكير في الحلول للمشكلات إلى إصدار الأحكام والفتاوى التي تتصدى للأمر بالتحريم أو الإباحة، وهنا قد لا تكون ملابسات إصدار الفتوى على نفس الدرجة من الوضوح مقارنةً بنص الفتوى نفسها، مما يقلل من درجة قبولها أو يشكك في مصداقيتها لدى الجمهور المُستقبِل لها.
وتختلف النظرة إلى المؤسسات الدينية الإسلامية العاملة على إصدار الفتاوى في مصر، إذ يرى البعض أن دورها في إصدار هذه الفتاوى ضروري كى تنتظم حركة المجتمع ويستعلم الناس عما يختلط عليهم في شئون حياتهم اليومية من أهل الاختصاص في العلم الديني، وهو أمر لا فرار منه بحكم استناد القوانين التي تنظم الحياة الشخصية والأحوال المدنية إلى المرجعية الدينية، وبالتالي ففي الأمر إحالة مشروعة للمؤسسات الدينية في هذا الصدد. بينما لا يستسيغ آخرون هذه الإحالة ويعتبرون أن الدولة المدنية المعاصرة لابد أن تستند في كل قوانينها على أحكام مدنية تنظم العلاقات بين المواطنين وبينهم وبين مؤسسات الدولة دون وساطة من علماء الدين أو من مرجعية دينية. فيما يقف فريق ثالث في منطقة وسطى، حيث يعترف بأهمية المرجعية الدينية في تنظيم بعض الشئون الاجتماعية بينما يحاول الدفع باتجاه عصرنة منطوق هذه المرجعية الدينية كي تكون أكثر استجابة للاحتياجات المستجدة وأكثر ملائمة للظروف الاجتماعية الراهنة. ولكن يبقى الفيصل في هذا الإطار هو مدى استجابة الفتاوى للاحتياجات المجتمعية بشكل واقعي ومدى واقعية الخطاب الديني وانعكاس الواقع المعاش على أولويات وأجندة هذا الخطاب.
الفتاوى وحقوق النساء
تتصدى الفتاوى الدينية الخلافية لقضايا المرأة بشكل واسع، حتى يظن المتابع أن قسماً كبيراً من الفتاوى الصادرة هى بالأساس في شئون المرأة فقط، وكأن لا شأن آخر يستجد في المجتمع لابد للفتوى أن تتصدى له، وهو أمر مفهوم إذا كان السائل هو بالأساس من النساء وبالتالي تريد استيضاح بعض الأمور من أهل العلم الديني. ولكن ليس بالضرورة أن يكون السائل من النساء، وهنا قد يبدو أن الاستعانة بالمؤسسات الدينية وفتاويها هى ضلع أساسي في آليات الضبط المجتمعي التي تمارس على النساء. فالرجل، وفقاً لأحد الاتجاهات، يتحرك في المجتمع بحرية دون انتظار آراء علماء أو فتاوى بالتحريم أو الإباحة، بينما يبدو أن المرأة لابد أن تنتظر مثل هذه الفتاوى كى يصبح لها فرصة في ممارسة أغلب حقوقها الاجتماعية والاقتصادية أو حتى السياسية، وهو ما يعود بشكل كبير ليس فقط إلى نص من النصوص الشرعية بقدر ما يعود إلى سياق التطور التاريخي للمجتمعات العربية ، وما طرأ عليها من تطورات استفادت منها النساء لتعزيز حقوقهن أو ردّات انعكست على ضيق المساحة المتاحة لهن في المجتمع.
باستعراض الفتاوى الواردة في قسم فتاوى النساء على موقعى دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف، تتصدر بعض المجالات التي يطلب الناس الاستعلام عنها فيما يخص المرأة ومنها تنظيم الحياة الزوجية والأسرة وتوازن الحقوق والواجبات بين الزوجين، فضلاً عن المواريث وكيفية تحديد الزكاة والذمة المالية للزوجة، بالإضافة إلى التعامل مع بعض الملفات المستجدة مثل وسائل التجميل وصولاً إلى عمليات التجميل . فيما يبدو أن أغلب طلبات الفتاوى الواردة إلى دار الإفتاء مطروحة في معظمها من جانب نساء، إذ تتخطى نسبة طلبات الفتاوى من النساء تلك التي يطلبها الرجال عبر الوسائط المختلفة سواء الموقع أو الهاتف أو صفحة الفيسبوك أو المقابلة الشخصية وطلبات الفتاوى المكتوبة بنسبة تصل في أعلاها إلى 80% وأدناها إلى 55%، وهو ما يكشف عن رغبة النساء في التحقق من بعض المسائل الدينية التي تخص حقوقهن سواء للاستفادة منها بشكل مباشر أو لمشاركتها مع ذويهن مما يخلق لهن مساحة أوسع من ممارسة هذه الحقوق ضمن محيطهن الأسري والمجتمعي.
ولكن في مقابل إحصاءات طلبات الفتاوى، لا توجد إحصاءات مشابهة تبين كم رد على هذه الفتاوى كان صادراً عن مُفتِيات نساء وكم صدر عن مفتين من الرجال. يتجدد هذا الجدل بشكل تلقائي مع كل قضية خلافية تتصدى لها فتاوى تخص النساء، إذ عادةً ما يكون المفتى رجلاً، وهنا لا تكون درجة المصداقية، في رؤية اتجاه آخر، بنفس قدر إصدار فتاوى النساء من جانب النساء أنفسهن بعد تلقيهن قدرٍ كافٍ من العلم الشرعي الذي يسمح لهن بالإفتاء. إذ عادة ما تحمل الفتاوى الخلافية المثيرة للجدل قدراً لا بأس به من آراء المفتي الشخصية وتصوراته عن المجتمع وفق السياق الاجتماعي والاقتصادي المحيط به هو لا بالضرورة المحيط بمُقدِم/ مُقدِمة طلب الفتوى. وهنا ينشأ الجدل حول إلى أى مدى تحمل الفتوى رأى الدين في الواقعة المطلوبة وإلى أى مدى تحمل تصورات المفتي وبالتالي إلى أى مدى تكون متوافقة مع ظروف طالب/ طالبة الفتوى. ومن ثم فإن إعداد وتدريب مفتيات من النساء ليكنّ أقدر على فهم ظروف طالبات الفتاوى من النساء وبالتالي أقدر على إصدار فتاوى أكثر ملائمة وموضوعية لكل حالة، أصبح مسألة مُلِحَّة يجب تشجيعها والتوسع فيها. ومن هنا كانت فكرة إنشاء قسم خاص لفتاوى النساء ضمن المركز العالمي للفتوى بالأزهر الشريف منذ عام 2017، فضلاً عن تخصيص برنامج محدد للتوعية بالحقوق والواجبات في نطاق الأسرة كبرنامج التوعية الأسرية والمجتمعية الذي تم إطلاقه في أكتوبر 2018 . كما أنشأ المركز أيضاً وحدة متخصصة تسمى “لم الشمل” للتصدي للخلافات الزوجية والأسرية التي ترد إليها، وقد ورد إليها مؤخراً قرابة 69 ألف حالة نزاع أسري، تمكنت من الوساطة وإجراء تصالح في نحو 63 ألفاً فيما لا تزال البقية محل نظر. بينما نفذ المركز حملات توعية على مستوى الجمهورية فيما يخص قضايا الأسرة استفاد منها نحو ثلاثة ملايين ونصف من المواطنين والمواطنات ، وهو ما يعكس الحرص الواضح من جانب المؤسسات الدينية على خلق مساحة خاصة يمكن فيها البت في النزاعات الأسرية من خلال الفتاوى المراعية لظروف وسياق كل حالة على حدة، وهو أمر جيد في المطلق فيما يخص النزاعات الأسرية التي تنشأ في المجال الخاص والتي تجد طريقها لهذه الآليات التابعة للأزهر الشريف.
من منصات للاستقطاب إلى منصات للحوار
أما ما يخص حقوق المرأة في المجال العام، فلا تزال حالة الشد والجذب على منصات التواصل الاجتماعي هى السائدة. فكثيراً ما يشتعل النقاش حول حقوق أو حريات النساء بشأن قضية معينة ونجد من يتصدى بطرح الآراء الشخصية لبعض المنتمين للمؤسسات الدينية وانتحال هذه الآراء الشخصية لصفة الفتاوى. وهو ما يعيدنا مرة أخرى لمربع التمييز بين الفتاوى المستندة على المعايير المرعية للاستنباط أو الآراء الشخصية التي أصبحت تجد طريقها للجمهور العام بفضل حالة السيولة التي تسود في وسائل التواصل الاجتماعي. فظاهرة إطلاق الفتاوى على الهواء وعلى عجل وكأنها رأى شخصي بسيط ظهرت بالأساس مع انتشار دعاة ومشايخ الفضائيات وأصبحت هذه الفتاوى التي كانت يطلق عليها “فتاوى تيك أواى” هى المسيطرة على الساحة. ورغم التحذير مراراً من الضرر المترتب على تقديم معايير وسائل الإعلام على معايير استنباط الفتاوى بشكل صحيح، إلا أن هذه الفتاوى استمرت في خلق حالة من الفوضى والتضارب بين الفتاوى، مع عدم قدرة المفتي على الاستعلام جيداً عن ظروف طالب الفتوى قبل التصدي لتقديم فتواه، وهو ما يتكرر مرة أخرى مع حالة النقاش العام في منصات التواصل الاجتماعي، إذ أصبح الهم الأكبر هو المشاركة في الجدل وإعتلاء الموجة بصرف النظر عن صوابية التصدي للفتوى على معايير سليمة. وينشأ عن ذلك خلق تيارات مرحبة أو رافضة مع كل فتوى تلقى على منصات التواصل الاجتماعي، مما يعمق من حالة الشقاق أكثر فأكثر. ولكن ما لا يدركه خالقو حالة الاستقطاب الحاد حول هذه القضايا على منصات التواصل الاجتماعي أن التيار الأوسع من المجتمع ليس مستَقطَباً لأىٍ من الجهتين، ليس من مناصري الخطاب الديني الضيق الخانق وليس من مناصري الخطاب التحرري الحاد، بل تنتمي الغالبية لمرجعية مختلطة تحمل بعض ملامح الخطاب المدني المعاصر وبعض ملامح الخطاب الديني المتمسك بثوابت النصوص الدينية. ومن ثم فالرهان الأكبر ليس أن يربح أحد الفريقين المعركة، بل أن يجدا طريقاً للحوار الهادئ الذي يؤسس لخطاب ديني معاصر يقبل به المصريون لترتيب شئونهم الخاصة دون أن يعزلهم عن حركة المجتمع والواقع الذي يعيشون فيه.
في 7 مايو الماضي (2021)، أطلق شيح الأزهر الدكتور أحمد الطيب تدوينة يعبر فيها عن المساحة الأرحب التي يمكن للنساء أن يتفاعلن بها في المجتمع والحقوق الراسخة التي يتمتعن بها. إذ ذكر أنه “يجوز للمرأة تولي الوظائف العليا والقضاء والإفتاء، والسفر من دون محرم متى كان آمناً، والطلاق التعسفي بغير سبب حرام وجريمة أخلاقية، ولا وجود لبيت الطاعة في الإسلام، ولا يحق للولى منع تزويج المرأة بكفء ترضاه دون سبب مقبول، وللمرأة أن تحدد لها نصيباً من ثروة زوجها إذا أسهمت في تنميتها” .
وفيما استقبل البعض هذه التدوينة بالكثير من الاحتفاء، رأى البعض الآخر أن الأمر لا يستدعي الاحتفاء، فشيخ الأزهر لم يذكر إلا حقوقاً بديهية لابد أن تتمتع بها النساء على قدم المساواة مع أقرانهن من الرجال. ولكن في الحقيقة يبقى للدين دور كبير في تحديد أو تحرير المساحة التي تمارس فيها النساء حقوقهن في المجتمعات العربية. بل أحياناً ما نجد أن الفتاوى الدينية توسع من مساحة هذه الحريات، ثم يبقى الوصم المجتمعي والعادات والتقاليد المستندة على حجج واهية لتُضيق هذه المساحة وتجعلها خانقة. فدرجة امتثال المجتمع للفتاوى الدينية المناصرة للمرأة ليست بالضرورة مطلقة، وهو ما يعود إلى روافد ثقافية أخرى غير متصلة بالدين، بل باستحباب السيطرة الذكورية أو التصورات المسبقة عن أدوار النساء والرجال وميزان القوى المختل في المجتمع لصالح السلطة الذكورية، وهو ما حدا بمجلس الدولة، في 26 يونيو الماضي، إلى إصدار حكم بحظر الإفتاء لغير المتخصصين في محاولة للسيطرة على فوضى الإفتاء على المنصات الإفتراضية المختلفة، فضلاً عن حظر اعتلاء المنابر على غير الحاصلين على تصريح من الأزهر أو وزارة الأوقاف.
ورغم المحاولات المتعددة من جانب الدولة لتشجيع عملية تجديد الخطاب الديني والارتقاء بأجندته لمواكبة المشكلات المجتمعية الضاغطة التي تواجه الناس، فإن عملية ضبط الفتاوى في اتجاه محدد أو لمناصرة رأى بعينه عملية معقدة للغاية ولا يمكن السيطرة عليها بالكامل، بل سيظل دوماً هناك عدة أبعاد لكل قضية ينشأ حولها خلاف بين الفقهاء، وهو أمر تكرر كثيراً على مدار التاريخ ومقبول دينياً على أرضية أن الاختلاف رحمة. ولكن ما يهم حقاً هو ترسيخ معالم الخطاب الديني المنفتح والوسطي الذي تمثله مؤسسة الأزهر والذي يسمح بانطلاق قطار التنمية بمشاركة النساء والرجال على قدم المساواة، وللمجتمع بكافة فئاته أن يختار أى الخطابات الدينية أولى بالاتباع والتصديق.
يظل الخطاب الديني مؤثراً بشكل كبير في المقدار الذي تحصل عليه المرأة من حقوق في المجتمعات العربية و الإسلامية ، ويتحدد ذلك بحسب المدارس الفقهية والتيارات الفكرية التي تسيطر على إنتاج الخطاب الديني. ولكن في مصر، بلد الأزهر، الذي أُنشئ كأول جامعة متخصصة في إنتاج المعرفة الدينية في العالم الإسلامي قبل أكثر من ألف عام، توقع الكثيرون أن يكون الخطاب الديني وإنتاج الفتاوى أكثر انضباطاً خاصة فيما يتعلق بالنساء، اللواتي يمثلن نصف المجتمع والدعامة الأساسية لاستقراره وتقدم مسار التنمية فيه.
ومع صدور كل فتوى مثيرة للجدل، يثار التساؤل حول أسباب عدم تنظيم إنتاج الفتاوى والمعرفة الدينية المتشابكة مع كافة مناحي الحياة على نحو أكثر انسجاماً مع التحديات المعاصرة. وتثار الشكوك حول جدوى البحث في المرجعيات الدينية والتعويل عليها في تقديم خطاب ديني معاصر قادر على الاستجابة لما يمر به الناس من مشكلات حياتية. ولكن سرعان ما يتحول الجدل من التفكير في الحلول للمشكلات إلى إصدار الأحكام والفتاوى التي تتصدى للأمر بالتحريم أو الإباحة، وهنا قد لا تكون ملابسات إصدار الفتوى على نفس الدرجة من الوضوح مقارنةً بنص الفتوى نفسها، مما يقلل من درجة قبولها أو يشكك في مصداقيتها لدى الجمهور المُستقبِل لها.
وتختلف النظرة إلى المؤسسات الدينية الإسلامية العاملة على إصدار الفتاوى في مصر، إذ يرى البعض أن دورها في إصدار هذه الفتاوى ضروري كى تنتظم حركة المجتمع ويستعلم الناس عما يختلط عليهم في شئون حياتهم اليومية من أهل الاختصاص في العلم الديني، وهو أمر لا فرار منه بحكم استناد القوانين التي تنظم الحياة الشخصية والأحوال المدنية إلى المرجعية الدينية، وبالتالي ففي الأمر إحالة مشروعة للمؤسسات الدينية في هذا الصدد. بينما لا يستسيغ آخرون هذه الإحالة ويعتبرون أن الدولة المدنية المعاصرة لابد أن تستند في كل قوانينها على أحكام مدنية تنظم العلاقات بين المواطنين وبينهم وبين مؤسسات الدولة دون وساطة من علماء الدين أو من مرجعية دينية. فيما يقف فريق ثالث في منطقة وسطى، حيث يعترف بأهمية المرجعية الدينية في تنظيم بعض الشئون الاجتماعية بينما يحاول الدفع باتجاه عصرنة منطوق هذه المرجعية الدينية كي تكون أكثر استجابة للاحتياجات المستجدة وأكثر ملائمة للظروف الاجتماعية الراهنة. ولكن يبقى الفيصل في هذا الإطار هو مدى استجابة الفتاوى للاحتياجات المجتمعية بشكل واقعي ومدى واقعية الخطاب الديني وانعكاس الواقع المعاش على أولويات وأجندة هذا الخطاب.
مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية-موقع الحداثة و الديمقراطية