اصلاح ديني

ختل دعاوى الاصلاح الديني في خطاب الإسلام السياسي

محمد الحمامصي

يرى الباحث التونسي محمد الهادي الطاهري أن للإسلام السياسي في العالم العربي، كما في غيره من دول العالم الإسلامي، ثلاث صيغ رئيسية: صيغة أولى اصطلح على تسميتها بالسلفية تتسم بالتشدد وتستعيد لغة الفقهاء والمتكلمين وتصوراتهم للإنسان والطبيعة والمجتمع والدولة، وصيغة ثانية تسمى تقدمية أو مستنيرة تتسم بالمرونة، وتعبر عن نفسها بلغة عصرية، وتفكر في مشكلات العصر بأسلوب جديد، وتستخدم مفاهيم وتصورات حديثة مستوحاة من التراثين الإصلاحي العربي والتنويري الغربي، وبينهما صيغة ثالثة لا هي من جنس الأولى، على الرغم من قرابتها منها، ولا هي من جنس الثانية، على الرغم من التقاطع معها في بعض النقاط؛ وهي بسبب ذلك الصيغة الأوسع انتشاراً والأبرز ظهوراً في الساحتين السياسية والفكرية.

ويضيف الطاهري “لئن نُعتت هذه الصيغة الثالثة في بعض الأوساط الفكرية والسياسية بالاعتدال والوسطية، فقد وُصفت في بعضها الآخر بالازدواجية والمخاتلة والتذبذب. ويعكس هذا الوصف المتردد بين السلب والإيجاب شيئاً من الحيرة والغموض لدى النخب الفكرية والسياسية إزاء أكبر كتلة من كتل الإسلام السياسي. ومن شأن هذه الحيرة وذلك الغموض أن يقودا إلى بناء مواقف من هذه الصيغة من صيغ الإسلام السياسي وربط صلات معها يشوبها الكثير من التذبذب وعدم الاستقرار، وهو ما نلاحظه بوضوح في الكثير من الدول العربية والإسلامية التي هبت عليها رياح ما بات يُعرف بالربيع العربي”.

“الإسلام السياسي فكر ارتدّ بالمسلمين إلى ما قبل عصر الإصلاح وتجاهل المكاسب الحضاريّة المادية والرمزية

ويسعى الطاهري في دراسته الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للبحث في ما بين صيغ الإسلام السياسي الثلاث من جهة، والحركة الإصلاحية العربية من جهة أخرى، من علاقات، وأن يبرز الفوارق الجوهرية بينهما بقصد الكشف عما يميز الصيغة الوسطى بين “الإسلام السلفي” و”الإسلام المستنير”. وهي الصيغة التي تمثلها حركات إسلامية سياسية نجحت في الإبقاء على الخلط بين مرجعيات مختلفة كما نجحت في الوصول إلى السلطة والبقاء فيها أو الخروج منها واستمرارها في ترويج خطاب يوصف بالاعتدال والوسطية، ويوصف أيضاً بأنه خطاب مفعم بالتناقضات في المفاهيم والتصورات بتأثير مباشر أو غير مباشر من تراث الحركة الإصلاحية.

إن نقد هذا الخطاب وتفكيك تناقضاته لا يندرج في سياق الحملات السياسية والأيديولوجية المعادية للإسلام السياسي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون كذلك؛ لأنه نقد يندرج في سياق معرفي، وغايته القصوى تحصيل معرفة موضوعية بهذه الظاهرة التي يلتبس فيها الديني بالسياسي، والقديم بالجديد، فتلتبس فيها المفاهيم والتصورات والرؤى، وتختلط السبل على الناس، خاصتهم وعامتهم، فلا يعرفون أيها يسلكون.

مساحات التباين

يلفت الأكاديمي إلى أن “واو” العطف الجامعة بين الإسلام السياسي والحركة الإصلاحية في العنوان قائلا “إن عطف حركات الإسلام السياسي على تراث الحركة الإصلاحية يعني أن العلاقة بين المعطوف والمعطوف عليه هي، في الوقت نفسه، علاقة وصل وعلاقة فصل، وهذا يعني أننا سنعثر في ثنايا البحث عن المنجز الفكري والسياسي في المرحلتين الإصلاحية العربية والإسلامية السياسية عما يفيد ترابطاً بينهما، سواء كان هذا الترابط بمعنى أن الثانية استمرار للأولى وتطوير لها، أم بمعنى أنها إعادة إنتاج لما أنتج من قبل بما في إعادة الإنتاج من تشويه. فضلاً عن أننا سنعثر على ما يفيد الانفصال والقطيعة بين تراث الحركة الإصلاحية وتجارب الإسلام السياسي، سواء كان الانفصال بمعنى أن الثانية تجاوزت الأولى تجاوزاً نقدياً أم أنها ارتدت عليها وانقطعت عنها لتعود بنا إلى ما قبل لحظة الإصلاح.

ويوضح أن ما دعاه لإنجاز هذه الدراسة أن الكثير من حركات الإسلام السياسي تعد نفسها حركات تصحيحية ترمي إلى إعادة بناء الفرد والمجتمع والدولة على أسس مغايرة وبأنماط تفكير وسلوك مختلفة عن الأسس والأنماط التي أنتجتها الحركة الإصلاحية منذ ظهورها في القرن التاسع عشر إلى أن طُوِي ملف النهضة وفُتِحَ بدلاً منه ملف الدولة الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين. وأن منها من ترى في نفسها استمراراً للحركة الإصلاحية.

وفي مقابل ذلك، يرى خصوم هذه الحركات من السياسيين والمفكرين أن الإسلام السياسي ظاهرة فكرية سياسية اجتماعية ارتدت بالعرب والمسلمين إلى ما قبل عصر الإصلاح أو عصر النهضة العربية الحديثة، وأنها تعمل على الرجوع بالفرد والمجتمع والدولة إلى ماضٍ متخيل، متجاهلة المكاسب الحضارية التي أنتجتها الحركة الإصلاحية على الصعيدين المادي والرمزي.

موقفان اثنان ينفي الواحد منهما الآخر؛ إذ تصر حركات الإسلام السياسي على ما بينها وبين الحركة الإصلاحية العربية من قرابة فكرية، وأنها إذاً صيغة أخرى من صيغها، أو هي وريث لها من بين ورثة آخرين، ويتمسك خصومها في المقابل بوصفها نفياً للحركة الإصلاحية وارتداداً عليها ونسفاً لمكتسباتها، أو هي، في أفضل الأحوال، إعادة إنتاج للحركة الإصلاحية على نحو مشوه يعكس قصورا في فهم المشروع الإصلاحي العربي ورهاناته.

وينطلق الطاهري في دراسته من ثلاثة محاور رئيسية: الأول فهو محور الحركة الإصلاحية وفيه يتناول بالتحليل الإشكاليات التي واجهت زعماء الإصلاح ومنظريه، والطرق التي انتهجوها لحل تلك الإشكاليات، والنتائج التي توصلوا إليها نظرياً وعملياً بعد قرابة قرن من المعاناة الحضارية، التي بفضلها انتقل العرب والمسلمون إلى مرحلة الدولة الوطنية بعد أن كانوا رعايا إمبراطوريات متعاقبة.

وأما المحور الثاني فهو حركات الإسلام السياسي، وفيه يتناول بالتحليل الإشكاليات التي واجهت هذه الحركات والأساليب التي توختها لتجاوز تلك الإشكاليات بفرعيها النظري والعملي، والنتائج المترتبة على ذلك، التي بسببها عاد العرب والمسلمون من جديد إلى سؤال الهوية (من نحن؟) وسؤال المأزق الحضاري (كيف ننهض؟).

وبعد ذلك يأتي المحور الثالث، وهو بيت القصيد كله، وفيه يرسم خطاطة فكرية سياسية تسهل عليهم الوقوف على ما بين حركات الإسلام السياسي وتراث الحركة الإصلاحية من مساحات التقاطع والتباين. خطاطة من شأنها بيان الحدود الفاصلة الواصلة بين الظاهرتين؛ أي ظاهرة الإصلاح العربي وظاهرة الإسلام السياسي، ولكن ذلك يستوجب حتماً الإحاطة بالظاهرتين معاً في حالتي الانفصال والاتصال.

رؤيتان متناظرتان

الحرية كل لا يتجزأ

تبيّن للطاهري، بعد قراءة هاتين الظاهرتين الحركة الإصلاحية والإسلام السياسي “أنهما لحظتان وإن كانتا متتاليتين في التاريخ فهما متناظرتان في الفكر والخطاب؛ إذ مالت الإصلاحية العربية بكل تياراتها عن الاختيار الثقافي الذي ارتآه مؤسسوها الأوائل، وهو الموازنة بين قيم الحضارة العربية الإسلامية وقيم الحضارة الغربية لتحقيق الرقي وتجاوز الانحطاط دون أن يفقد الوجود العربي الإسلامي معناه. وقد تجلى هذا الانحراف عن خط التوازن في ميل الإصلاحية السلفية مع محمد رشيد رضا إلى الانكفاء على الذات، كما يتجلى في ميل الإصلاحية العلمانية مع طه حسين وكتابه (مستقبل الثقافة في مصر) إلى الذوبان في الآخر”.

وقد شهدت لحظة الانحراف عن خط التوازن ميلاد الإسلام السياسي من آخر حلقات الإصلاحية السلفية، وكانت جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا علامة على انفصال الظاهرتين، وبميلاد هذه الجماعة حدث الانتقال في التاريخ من زمن النهضة العربية إلى زمن الصحوة الإسلامية.

وأما الإصلاحية الليبرالية والإصلاحية العلمانية فقد تحولتا إلى جهاز أيديولوجي يدير مؤسسة الدولة الوطنية الناشئة على أنقاض الخلافة الإسلامية. وهو ما جعل الإسلام السياسي منذ نشأته في حالة تصادم مع الدولة وجهازها الأيديولوجي الليبرالي العلماني.

الديمقراطية من منظور فكري لاهوتي

وقد كان هذا التصادم، في واقع الأمر، علامة على تصدع في صلب الحركة الإصلاحية بموجب انتقالها من حركة لنقد الواقع إلى حركة لنقد التاريخ برمته، كما ظهر جلياً في أعمال طه حسين وشكه في الشعر الجاهلي، وأعمال علي عبدالرازق وشكه في نظام الخلافة، أو إلى حركة لنقد الغرب والشك في قيمه الوافدة بما فيها قيم المعرفة العلمية والحرية والديمقراطية، كما ظهر في أعمال محمد عبده ورشيد رضا وما فيها من ردود على المستشرقين وطعنهم في الإسلام ورموزه.

ويتابع “كانت لحظة التصدع مناسبة لإعادة النظر في اختيار الموازنة والبحث عن اختيار ثقافي بديل مازال الصراع عليه محتدماً في الأوساط الفكرية والسياسية إلى اليوم. وعلى الرغم من كل الثورات التي شهدها العرب، من الثورات التحريرية إلى ما يعرف بثورات الربيع العربي، لم تخلص الحضارة العربية إلى اختيار ثقافي بديل يتجاوز اختيار الموازنة بين الإسلام والغرب، أو بين التراث والحداثة. ولئن سعى الإسلام السياسي بعد موجة الثورات الأخيرة إلى اقتناص اللحظة لفرض اختيار العودة إلى العيش في حدود الإسلام واستعادة أنماط السلوك والتفكير القديمة سواء في مستوى الخطاب أم في مستوى الممارسة، فقد اختارت بعض فصائله الإبقاء على اختيار الموازنة الإصلاحي، وهو ما يظهر بوضوح في تجربة الحكم التي خاضتها بعض الحركات الإسلامية، وما نجم عنها من نصوص ودساتير”.

وأما في مستوى الخطاب فقد رصد الطاهري لغتين مختلفتين “لغة الحركة الإصلاحية كيفما قلبناها لغة سياسية أخلاقية تدور حول مفردات الحرية والاستبداد والعدل والجور والفضيلة والرذيلة، ولغة الإسلام السياسي لغة فقهية لاهوتية تدور حول مفردات الإيمان والكفر والحلال والحرام والخلافة والبيعة والردة والقصاص؛ لغتان مختلفتان تعكسان تصورين مختلفين لمعنى الوجود وتقنيات العيش فيه”.

ليخلص بأن “التصور الإصلاحي مبني على فكرة الحرية وشروطها، من منظور عمراني مقاصدي، وينبني التصور الإسلامي السياسي، في المقابل، على فكرة الشمولية، من منظور فقهي لاهوتي”.

وبين هذين المنظورين المتناقضين تحاول بعض فصائل الإسلام السياسي استعادة المنظور الإصلاحي واستعارة لغته ومفرداته السياسية إلا أن هذه المحاولة، “كما بدا لنا من قراءة نصوص زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية راشد الغنوشي خاصة، فيها الكثير من الاختلاط إن لم نقل المخاتلة؛ لأن لغتها – وإن بدت بمفردات سياسية إصلاحية – شُحنت بدلالات لاهوتية وفقهية، وظل الإنسان فيها لا كائناً حراً مسؤولاً بل عبداً طيعاً أو عبداً آبقاً”.

العرب- موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate