حداثة و ديمقراطية

ما بعد الحداثة (١)

مقالة اغاري آيلزورث ترجمة فاطمة الزهراء علي

حول ما بعد الحداثة وطلائعها والوضع فيما بعد الحداثة، حول الجينالوجيا والذاتية، والختلاف المثمر، والتفكيك، والواقعية الفائقة، وجماليات ما بعد الحداثة؛ نص مترجم للـد. غاري آيلزورث، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


 إن عدم قابلية مصطلح (ما بعد الحداثة) للتعريف هو أمر بدهي؛ ومع ذلك، فيمكن وصفه كمجموعة من الممارسات النقدية والاستراتيجية والسردية التي توظف مفاهيم مثل: الاختلاف، والتكرار، والأثر، والمحاكاة، والواقعية الفائقة من أجل زعزعة تماسك مفاهيم أخرى مثل: الحضور، والهوية، والتقدم التاريخي، واليقين المعرفي، وأحادية المعنى.

دخل مصطلح (ما بعد الحداثة) إلى معجم الفلسفة لأول مرة عام 1979 مع نشر جان فرنسوا ليوتار كتابه (الوضع ما بعد الحداثي). وبالتالي، فإن ليوتار سيحتل موضع الصدارة في الفقرات اللاحقة. آلية الانتقاء تفرض العناية في اختيار الشخصيات الأخرى لهذا المدخل، وقد قمتُ باختيار أولئك الذين تمَّ الاستشهاد بهم على نطاق شاسع في المناقشات الفلسفية المابعد حداثية؛ خمسة فرنسيين وإيطاليَّان، بالرغم من أنهم على الصعيد الفردي ربما يقاومون فكرة الانتماء المشترك، وترتيبهم حسب الجنسية ربما يكون مُخطَّطا حداثيا قد يعترضون عليه، إلا أن هناك اختلافات شديدة بينهم، وهذه تميل للانقسام على أسس لغوية وثقافية. يعمل الفرنسيون – مثلا – مع مفاهيم تمَّ تطويرها من خلال الثورة البنيوية في باريس في الخمسينيات وأوائل الستينيات، بما في ذلك القراءات البنيوية لـ ماركس وفرويد، ولذلك فغالبا ما يطلق عليهم “ما بعد البنيويين”. كما أنهم يستشهدون بأحداث مايو 1968 باعتبارها لحظة فاصلة في الفكر الحديث ومؤسساته، وخاصة الجامعات. على النقيض من ذلك؛ فإن الإيطاليين – من أمثال جيامباتيستا فيكو وبينيديتو كروتش – يعتمدون على تقاليد البلاغة والجماليات، وكان تركيزهم تاريخيا بالأساس، ولم يُظهِروا افتِتاناً باللحظة الثورية. عوضا عن ذلك؛ أكدُّوا على السرد، والاستمرارية، والاختلاف ضمن الاستمرارية، بدلا من الاستراتيجيات المقاوِمة والفجوات المنطقية.

بالرغم من ذلك؛ فإن أيّاً من الجانبين لا يقترح أن ما بعد الحداثة هجوم على الحداثة أو رحيل كامل عنها، بل إن اختلافاتهما تكمن داخل الحداثة نفسها، وفلسفة ما بعد الحداثة هي استمرار للتفكير الحداثي ولكن بنمط مختلف.

وأخيرا؛ قمتُ بتضمين ملخص لنقد هابرماس الذي يمثل الخطوط الأساسية للنقاش الدائر على جانبي الأطلسي. يجادل هابرماس بأن ما بعد الحداثة تناقض نفسها من خلال المرجعية الذاتية، ويلاحظ أن مفكري ما بعد الحداثة يتصورون مفاهيم يسعون – من ناحية أخرى – إلى تقويضها، مثل: الحرية، والذاتية، أو الإبداع. ويرى هابرماس في هذا الاستعمال البلاغي للاستراتيجيات الذي تمَّ توظيفه من قِبل الفن الطليعي artistic avant-garde في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو لا يمكن أن يكون طليعيا في المقام الأول إلا لأن الحداثة تفصل القيم الفنية عن السياسة والعِلم. ما بعد الحداثة هي تجميل غير مشروع – من وجهة نظره – للمعرفة والخطاب العام.

في مقابل ذلك؛ يسعى هابرماس إلى إعادة تأهيل العقل المعاصر باعتباره نظاما من القواعد الإجرائية بهدف تحقيق الإجماع والاتفاق حول الموضوعات التواصلية. بقدر ما تقدم ما بعد الحداثة بهجة الجماليات والتقويض إلى العِلم والسياسة؛ فإن هابرماس يقاومها باسم الحداثة التي تتجه نحو الاكتمال عِوضا عن التحول الذاتي.

 

  1. طلائع ما بعد الحداثة
  2. الوضع ما بعد الحداثي
  3. الجينالوجيا والذاتية
  4. الاختلاف المثمر
  5. التفكيك
  6. الواقعية الفائقة
  7. هيرمنيوطيقيا ما بعد الحداثة
  8. فن الخطاب وجماليات ما بعد الحداثة
  9. نقد هابرماس
  • المراجع
  • أدوات أكاديمية
  • مصادر أخرى على الإنترنت
  • مداخل ذات صلة

  1. طلائع ما بعد الحداثة

بدأت ما بعد الحداثة بالظهور في فلسفة الحداثة مع الثورة الكوبرنيكية التي أحدثها كانط؛ أي في افتراضه أننا لا نستطيع أن نعرف الأشياء بذواتها، وأن موضوعات المعرفة يجب أن تتوافق مع تصوراتنا الكلية. إن أفكارا مثل الإله، الحرية، الخلود، العالَم، البداية الأولى والغاية النهائية تقوم بوظيفة تنظيمية للمعرفة حيث أنها لا تستطيع إيجاد نماذج مُرْضِية ضمن موضوعات التجربة.

ظهرت مع هيغل وهمية بداهة العلاقة بين الذات والموضوع بحدِّ ذاتها، إذ يقول في كتابه (فنومينولوجيا الروح): “نلاحظ أن وجود الواحد والآخر لا ينحصر بصورة مباشرة في منطق اليقين، إذ أن كلا منهما يتمُّ التَّوسُّل به”، لأن الذات والموضوع على حد سواء نماذج لـ “هذا” و “الآن” ولا يمكن استشعار أي منهما مباشرة.  وبالتالي؛ فإن ما يسمى بالفهم المباشر يفتقر إلى اليقين المباشر ذاته، وهو يقين يجب إحالته إلى تطوير نظام متكامل من التجربة. وبالرغم من ذلك؛ فإن بعض المفكرين أشاروا في وقت لاحق أن منطق هيغل يفترض مفاهيما بشكل مسبق، مثل الهوية والنقيض، والتي لا يمكن قبولها كمفاهيم مُعطاة على نحو مباشر، ويجب تعليلها – بالتالي – بطريقة أخرى غير جدلية.

أواخر القرن التاسع عشر هو عصر الحداثة كحقيقة ناجزة حيث يقوم العِلم والتكنولوجيا، بما في ذلك شبكات الاتصال الجماهيري ووسائل النقل، بإعادة تشكيل التصورات البشرية، ولم يعد يوجد بالتجربة تمييز واضح بين الطبيعي والمصطنع. إن كثيرا من مؤيدي ما بعد الحداثة – بالفعل – يعترضون على قابلية هذا التمييز الذي لا طائل منه، ويرون في الحداثة المنجَزة ظهور مشكلة قامت الفلسفة التقليدية بِكبْتِها. إن تَبِعَة تحقيق الحداثة هو ما قد يشير إليه المابعد حداثيون باعتباره غربة عن الواقع؛ تؤثر على كل من الذات والموضوع محل التجربة، إذ يكون إدراكهما للهوية والأصالة والجوهر مضطربا أو مُـتداخِلا. ظهرت مقدِّمات مهمة لهذه الفكرة عند كيركيغارد وماركس ونيتشه.

كيركيغارد – على سبيل المثال – يصف المجتمع الحديث بشبكة من العلاقات التي يتمُّ تحويل الأفراد فيها إلى أشباح مجردة تُعرَف باسم “الجمهور”. الجمهور الحديث؛ على النقيض من المجتمعات القديمة ومجتمعات العصور الوسطى؛ هو من ابتكار الصحافة، وهي الأداة الوحيدة القادرة على ربط كُتْلة من الأفراد “الزائفين” ببعضهم البعض “الذين ليسوا أبدا، ولا يمكن أبدا أن يكونوا في تنظيم أو وضع حقيقي”. بهذا المعنى؛ يحقق المجتمع فكرة مجردة، متماسكة بفعل وسيط مصطنع واسع الانتشار يتحدث باسم الجميع في الوقت الذي لا يمثل فيه أي أحد.

من جهة أخرى؛ نجد لدى ماركس تحليلا عن صنمية السِّلع حيث تفقد الأشياء متانة قيمتها الاستخدامية، وتصبح رموزا طيفية تندرج ضمن حيثية قيمة التبادل، وتنتج طبيعتها الشبحية من الاستيعاب الحاصل لها داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تتأرجح فيها قيمتها بشكل مستقل عن كيانها المادي. الذوات البشرية نفسها تتعرض لهذا النمط من الاغتراب لأن السِّلَع هي نتاج للعمل البشري. وللمفارقة؛ فإن العمال يفقدون كينونتهم بإدراك ذواتهم، ويتحول ذلك لرمز بالنسبة لأولئك الذين ينادون إلى وعي ما بعد حداثي.

نجد أيضا إشارات للاغتراب لدى نيتشه الذي يتحدث عن الكينونة باعتبارها “الرمق الأخير للواقع المُتَشَظِّي”، ويُعَقِّب على إزالة التمييز بين العالم “الحقيقي” والعالم “الظاهري”. يَتتبَّع نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) تاريخ هذا التمييز من أفلاطون إلى عصره حيث يصبح “العالم الحقيقي” فكرة فائضة وعديمة الفائدة. على أي حال؛ يقول نيتشه أنه مع فكرة العالم الحقيقي فإننا ابتعدنا عن فكرة العالم الظاهري، وما تبقَّى ليس حقيقيا ولا ظاهرا، إنما شيء بينهما، وبالتالي هو شيء أقرب إلى الواقع الافتراضي لماض أكثر حداثة.

إن مفهوم انهيار [الحاجز] بين الحقيقي والظاهري تمَّت الإشارة إليه في أول كتاب نيتشه الصادر عام 1872 (مولد التراجيديا)، إذا يعرض فيه التراجيديا اليونانية كتوليفة من الدوافع الفنية الطبيعية المُمَثَّلَة في الآلهة أبولو وديونيسوس. في الوقت الذي يعتبر فيه أبولو إله الأشكال والصور الجميلة فإن ديونيسوس هو إله الهيجان والسُّكْر الذي بفعل تأرجحه تنكسر فتنة تفرُّد الوجود في لحظة اتِّحاد غير متفرِّد مع الطبيعة. في حين أن الفن التراجيدي هو فن مؤكِّد للحياة بربطه بين هذين الدافعين فإن المنطق والعلم مبنيَّان على التصورات الأبولوية التي أصبحت باهتة وجامدة. ومِن ثمَّ فإن نيتشه يعتقد فقط أن عودة دافع الفن الديونيسوسي يمكن أن ينقذ المجتمع الحديث من الجدب والعدمية. ينطوي هذا التفسير على نُذُر مفاهيم ما بعد الحداثة للفن والتصورات، كما يتنبَّأ أيضا بافتتان ما بعد الحداثة باحتمالية ظهور لحظة ثورية تنذر باتجاه جديد أناركي للمجتمع.

يعتبر نيتشه – كذلك – رائدا لما بعد الحداثة في تحليله الجينالوجي للمفاهيم الأساسية، وخاصة فيما يعتبره المفهوم الأساسي للميتافيزيقيا الغربية؛ الـ “أنا”. يعتقد نيتشه أن مفهوم الـ “أنا” ينبع من الواجب الأخلاقي لتحمل مسؤولية أفعالنا، ولكي نكون مسؤولين فلا بُدَّ أن نفترض أننا السبب في أفعالنا، ويجب أن يَظَلَّ هذا السبب ثابتا مع مرور الوقت، محتفظا بذاتيته، بحيث يتم قبول الثواب والعقاب باعتبارهما عواقب لأفعال تعتبر نافعة أو مؤذية للآخرين. بهذه الطريقة فإن مفهوم الـ “أنا” يأتي كبناء اجتماعي ووهم أخلاقي، ووفقا لنيتشه، فإن المعنى الأخلاقي للـ “أنا” باعتباره سببا ذاتيا يتمُّ إسقاطه على أحداث العالم الذي تتشكل فيه هوية الأشياء والعِلل والتأثيرات..وما إلى ذلك؛ يتبلور [أي المعنى الأخلاقي للـ “أنا] لتصورات سهلة الانتشار. تولَّد هذا المنطق من المطالبة بالالتزام بالمعايير الاجتماعية السائدة التي تصوغ الجمهور البشري لمجتمع من الذوات المعرفية والعاملة.

بالنسبة للمتخصصين فيما بعد الحداثة فإن تأصيل نيتشه للمفاهيم في مقالته (عن الحقيقة والأوهام بحس لاأخلاقي) الصادرة عام 1873؛ يُعَدُّ أيضا مرجعا مهما. يقدم نيتشه في ذلك النَّص فرضية أن المفاهيم العلمية هي سلسلة من الاستعارات التي صارت صلبة وتمَّ تحويلها إلى حقائق مقبولة. بهذا المعنى؛ فإن الاستعارة تبدأ عندما يُنسَخ المحفز العصبي كصورة، ومِن ثَمَّ محاكاته بالصوت الذي يرتقي مع التكرار إلى الكلمة، والتي بدورها تتحوَّل إلى مفهوم عند استخدام الكلمة لتحديد نماذج متعددة لوقائع منفردة. الاستعارات المفاهيمية هي – إذن – أكاذيب لأنها تُماثِل بين أمور غير متماثلة بمجرد انتقال سلسلة الاستعارات من مستوى لآخر. وبالتالي؛ فإن مشكلة هيغل مع “هذا” و”الآن” توسعت لتشمل تكرار النماذج عبر فجوات متقطِّعة بين مستويات الأشياء وأنواعها.

في ارتباط وثيق مع هذه الجينالوجيا؛ ينتقد نيتشه تاريخانية القرن التاسع عشر في كتابه الذي ظهر في عام 1874 بعنوان (حول منافع ومضار التاريخ على الحياة). حسب وجهة نظر نيتشه؛ فإن الثقافة وحياة الفرد يعتمدان على قدرتهما على تكرار لحظة غير تاريخية، وهو نوع من النسيان الذي يواكب تطورهما المستمر عبر الزمن، وبالتالي فإن دراسة التاريخ يجب أن تُبرِز كيفية وصول كل فرد وكل ثقافة لتلك اللحظة، وكيفية تكرارهما لها. ومِنْ ثَمَّ فلا مجال للوصول لنقطة استشراف خارج التاريخ، أو خارج تصور العصور الماضية باعتبارها محطات في الطريق إلى الحاضر. التكرار التاريخي ليس خطيا، لكن كل عصر جدير بأن يعيد اختياره للحظة غير تاريخية تمثل حاضره بوصفه “جديدا”. وفي هذا الصدد؛ سيتفق نيتشه مع تشارلز بودلير الذي يصف الحداثة بـكونها “لحظية، عابرة، وعَرَضيَّة” بحيث تتكرر في جميع الأزمنة، وملاحظات نيتشه وما بعد الحداثيين حول العود الأبدي تتفق مع ذلك.

يقدم نيتشه هذا المفهوم في كتابه (العلم الجذل) الصادر عام 1882، وبشكل أكثر تطورا في كتابه (هكذا تكلم زارادشت) (1883–1891). أخذ الكثيرون هذا المفهوم للدلالة على تكرار أبدي متطابق لكل شيء في الكون، بحيث أنه لم يحدث أي شيء إلا وقد حدث بالفعل في السابق مرات غير محدودة العدد. وبالرغم من ذلك؛ فهناك آخرون – بما في ذلك ما بعد الحداثيين – ممن قرأوا تلك الفقرات بالتزامن مع فكرة أن التاريخ هو تكرار للحظة غير تاريخية، متجددة باستمرار في كل حدث. حسب وجهة نظر هؤلاء؛ فما عناه نيتشه ليس سوى أن الأبدية الجديدة تعيد ذاتها باعتبارها جديدة، وبذلك فإن التكرار هو مسألة تمايز لا تماثل. علاوة على ذلك؛ يؤيد ما بعد الحداثيون مفهوم العود الأبدي مع فقدان التمييز بين العالم الحقيقي والعالم الظاهري. هذا التمييز بحد ذاته لا يعاود الظهور، وما يتكرر ليس حقيقيا ولا ظاهريا بالمعنى التقليدي، بل هو توهُّم ومحاكاة.

يُعَدُّ نيتشه محطَّ اهتمام مشترك بين فلاسفة ما بعد الحداثة ومارتن هايدغر، والذين استشهدوا وعلَّقوا بانتظام على تأملاته في الفن والتكنولوجيا وانحسار الكينونة. غالبا ما تنبثق إسهامات هايدغر في معنى الاغتراب من ملاحظات متكررة مِن قبيل: “نحن في كل مكان كائنات تعيش في خضم سيرورة، ولم نعد نعرف – مع ذلك – كيف نتفق مع الكينونة”، و “لا يوجد اليوم أي مكان على وجه التحديد حيث يستطيع الإنسان أن يواجه نفسه؛ أي جوهره”. ينظر هايدغر إلى التكنولوجيا الحديثة باعتبارها إنجازا للميتافيزيقيا الغربية التي يصفها بميتافيزيقيا الموجود، ويرى أن الفكر الغربي منذ زمن الفلاسفة الأوائل، وعلى وجه التحديد منذ أفلاطون، تصور الكينونة كوجود للكائنات، وتطور هذا التصور في العصر الحديث ليتحول إلى توفر الكائنات للاستخدام.

يميل وجود الكائنات؛ كما كتب هايدغر في كتابه (الكينونة والزمان)؛ إلى التَّواري في وضوح فائدتها كأشياء يسهُل أن تكون في متناول اليد. يقلِّص جوهر التكنولوجيا – الذي يسميه هايدغر بـ “التأطير” – وجود الكائنات إلى نظام حسابي، وبناءً عليه، فإن الجبل ليس جبلا بل مصدر ثابت للفحم، ونهر الراين ليس نهرا بل مولدا للطاقة الكهرومائية، والبشر ليسوا بشرا بل مصدرا احتياطيا للقوة العاملة. إن تجربة العالم الحديث هي إذن تجربة انحسار الكينونة في مواجهة سطوة التأطير على الكائنات. ويتأثر البشر – مع ذلك – بهذا الانحسار في لحظات القلق أو الملل، وهنا يكمن طريق لعودة محتَمَلة للكينونة، الأمر الذي سيكون بمثابة عودة مكررة لتجربة الكينونة التي تمَّ عرضها من قِبل الفيلسوفين بارمينيدس وهرقليطس.

يرى هايدغر أن ذلك هو إدراك لإرادة القوة، وهذا مفهوم نيتشوي آخر يمثل – إلى جانب مفهوم العود الأبدي – استنزافا للتراث الميتافيزيقي. بالنسبة لهايدغر؛ فإن إرادة القوة هي العود الأبدي باعتباره صيرورة، وديمومة الصيرورة هي اللحظة الختامية للميتافيزيقيا الوجودية. في هذه القراءة؛ فإن الصيرورة هي انبثاق وزوال الكائنات ضمن كائنات أخرى عِوضا عن الانبثاق من الوجود. وبالتالي؛ فإن نيتشه – في نظر هايدغر – كان مؤشرا على نهاية التفكير الميتافيزيقي، وليس على مسار آخر يتفوق عليه، وعليه فإن هايدغر يرى نيتشه أنه الميتافيزيقي الأخير الذي اكتمل معه امِّحاء الكينونة.

وبالأحرى يكمن أمل في مسار فكري غير ميتافيزيقي لدى هولدرلين الذي تمنح أبياته صوتا لإشارات الكينونة المؤكِّدة على انسحابها. في حين يدين ما بعد الحداثيون الكثير لتأملات هايدغر حول غياب الكينونة واغتراب الكائنات من خلال التأطير التكنولوجي؛ فإنهم يختلفون بحدِّة معه حول قراءته لنيتشه.

يجد العديد من فلاسفة ما بعد الحداثة لدى هايدغر حنينا لكينونة لا يتشاركونها معه، ويفضلون بدلا من ذلك معنى النسيان البهيج والإبداع اللعوب الكامن في العود الأبدي عند نيتشه كتكرار للمختلف والجديد، وذهب بعضهم إلى حدِّ قلب الطاولة على هايدغر وقراءة تأملاته حول الميتافيزيقيا كتكرار لبادرة ميتافيزيقية أصيلة؛ مراكمة الأفكار صوب جوهرها ونداءها الباطني “الملائم”. في هذه المراكمة التي تتبع حصرا اتجاهات تقاليد يونانية-مسيحية-ألمانية؛ يتمُّ نسيان شيء أكثر أصالة من الكينونة، وهو الاختلاف والغيرية المضادَّة التي تشكَّلتْ بمعيَّتِها تلك التقاليد.

وقد أشار كُتَّاب بارزون مرتبطون بما بعد الحداثة إلى أن “الآخر” المنسي والمُستثنَى لدى هايدغر والغرب بصورة عامة قد تمثَّل في اليهودي، وأصبحوا بهذه الطريقة قادرين على تمييز مشاريعهم عن فكر هايدغر، وعلى محاسبته نقديا على انخراطه في الاشتراكية القومية وصمته عن الهولوكوست، وإن كان ذلك بعبارات لا تعالج تلك الإشكالات باعتبارها إخفاقات شخصية. لن يجد أولئك الذين يبحثون عن إدانات شخصية لهايدغر بسبب أفعاله أو “رفضه تحمُّل المسؤولية” أي إشارة لذلك في شروحات ما بعد الحداثة، لكنهم سيجدون – مع ذلك – استثناءات عديدة حول أهمية نيتشه الفلسفية، والكثير من الحالات التي يتمُّ فيها تفعيل أفكار نيتشه بشكل نقدي ضد هايدغر وتمثيله للذات. وبالرغم من ذلك؛ فإن كُلًّا من هايدغر ونيتشه يعتبران مصدران رئيسان للنقد التفكيكي المابعد حداثوي، ولإزاحة المفهوم البارز لفلسفة الحداثة؛ “الذات”، والذي يتمُّ فهمه عادة على أنه وعي، أو هويَّة الوعي، أو أساسه، أو مُتَّحِدا معه، أو موسوما بـ “الأنا”. في حين يجد نيتشه في هذا المفهوم الخطأ الميتافيزيقي الأصلي الناتج عن الفضيلة والاحتياجات التواصلية للدهماء، فإن هايدغر يرى فيه نهايةً وإسْتِنْفاداً للتقاليد الميتافيزيقية التي دشَّنها الإغريق حيث تمَّ تفسير الكينونة كحضور. الكينونة هنا هي الأساس الكامن وراء وجود الكائنات، والـ subiectum الجوهر الذي اعتُبِر في فلسفة الحداثة موضوعا للوعي. إلا أن هايدغر يتصور الوجود الإنساني في كتابه (الكينونة والزمان) كـ “دازاين”Dasein، والذي ليس ببساطة مجرد وعي حاضر بل حالة من الانشراح المؤقت المفتوح على كينونة الماضي Gewesensein الذي لن يكون حاضرا أبدا (كان موجودا بالفعل في السابق) ومستقبل Zu-kunft لم يأت بعد (إمكانية الموت). وبالتالي فإنه لا يمكن احتواء محدودية “الدازاين” في نطاق حدود الوعي، ولا في نطاق حدود الذات، سواء تمَّ إدراكها بشكل جوهري أو بشكل صوري.

بالإضافة إلى انتقادات الذات التي قدَّمها كُلٌّ من نيتشه وهايدغر؛ فإن العديد من فلاسفة ما بعد الحداثة يستعيرون بشكل مُكثَّف نظريات التحليل النفسي لجاك لاكان. تكمن بادرة لاكان المميزة في إصراره على أن اللاوعي الفرويدي هو وظيفة، أو مجموعة من الوظائف التي تنتمي إلى لغة، وتحديدا إلى التبادل اللفظي بين المُحلِّل والشخص موضوع التحليل أثناء الجلسة التحليلية. بالنسبة إلى لاكان؛ فإن الذات دائما موضوع الخطاب، وهذا يعني خطابا موجَّها تجاه آخر ذا علاقة بمن تستطيع الذات من خلاله أن تميِّز وتحدِّد نفسها. من هذا المنطلق؛ فإن اللغة هي سِمة من سمات “النظام الرمزي” للمجتمع الذي يتشكَّل كاقتصاد للدلالات، والتي من خلالها تتحول الحاجة الحيوانية رغبة إنسانية يتمثَّل هدفها الأساسي في اعتراف الآخر بها. بيد أن الرغبة في النهاية تهدف إلى أمر مستحيل؛ أن تستحوذ، أن تصبح “موجودة”، أو أن تحتلَّ موقع الدلالة الأهم، أي الـ phallus القضيب. وطالما أن “الفالوس” ليس سوى وظيفة دلالية؛ فلا وجود له، وليس شيئا يجب امتلاكه، بل هو الذي من خلاله يتمُّ ابتداءً الجمع بين الذات والآخر، ومِن ثَمَّ فهو يفرض نفسه على الذات باعتباره فقدانا أو غيابا جوهريا مزمنا وضروريا في الوقت ذاته. لذلك فإن الذات منفصلة عن نفسها على الدوام وغير قادرة على تحقيق هوية أو اتحاد نهائي. وكما هو الحال مع موضوع الرغبة؛ تظل الذات غير مكتملة دوما، وتماما كما يبقى “الدازاين” لدى هايدغر “متجاوزا ذاته” في حالة نشوة مؤقتة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate