اصلاح ديني

رجال الدين التقليديون و تسطيح الإصلاح الديني

محمد المحمود

لا يخفى أن الأديان الكبرى في الشرق الأوسط ـ بالإضافة إلى تفريعاتها/ صُورها المذهبية والطائفية ـ قائمة على تراث ضخم وعريق يمتد لعشرات الأجيال. وهذه الضخامة والعراقة أكسبته أوهام القداسة التي توحي بأنه ـ وكما هو عليه الآن ـ ينطق بحقائق أزلية، ومن حيث هي كذلك، فهي ـ بالضرورة ـ حقائق أبدية، لا يجوز المساس بها؛ لا تغييرا ولا تحويرا، بل ولا تطويرا. وأي تغيير أو تطوير، من أي طرف، من داخل منظومة القداسة التراثية أو من خارجها، ينظر إليه حراس هياكلها المقدسة على أنه مؤامرة تستهدف تشويه حقائق الدين الصحيح.

لا مشكلة في هذا؛ لو كان هذا التراث محض تاريخ غابر، أو محض تصور عقلي مجرد، أو محض ممارسة روحانية لازمة/ غير متعدية بآثارها على الآخرين. ولكن الواقع غير ذلك، فهذا التراث يصوغ عقول الملايين، ويهيمن على الرؤى التشريعية/ التنظيمية في معظم المؤسسات المفصلية التي تتحكم في مجريات الواقع العملي، والتي تضع للناس ـ من خلال الإسهام الحيوي في تشكيل مجمل الثقافي العام ـ حدود ما جائز وما هو غير جائز شرعا/ قانونا، حدود ما هو مقبول وما هو غير مقبول اجتماعيا، حدود ما هو جميل وما هو غير جميل ذوقيا، بل وتصنع قوانين الضمير الداخلية الخاصة التي بها تنظر الذات إلى ذاتها؛ احتراما وتقديرا، أو تبخيسا وتحقيرا.

إن تراث الأديان الذي هو اليوم بين يدي ورثته المعاصرين تراث غير معاصر في منطقه الكلي، بل هو ـ في مجمله ـ تراث معاند للمعاصرة في قضاياها/ إشكالياتها الكبرى، كما في مسائلها الصغرى، أو حتى في مسائلها الهامشية التي هي من تفاصيل التفاصيل.

في هذا التراث كوراث إنسانية وكوراث أخلاقية، وما هو أكثر من ذلك مما ليس هذا مجال تفصيله. وعلى أي حال، فإن المهم هنا هو أن البُنْية التراثية الدينية: المذهبية والطائفية، تتضمن ما يستحيل تطبيقه أصلا، وما يستحيل تطبيقه ظرفيا؛ إلا بتأسيس كيانات مؤسساتية تنفيذية على طريقة التنظيم الإرهابي “داعش”، وما يصعب تطبيقه؛ لأنه يُفجّر من المشاكل ما يكفي لتدمير المجتمع المتسالم، ويشترع من الانتهاكات ما يطال أبجديات حقوق الإنسان.

إذن، ثمة حاجة ملحة إلى إصلاح ديني جذري يعيد ترتيب منظومة التراث الديني، ويعيد ترتيب علاقة هذه المنظومة بالمجتمع. وتصل درجة الإلحاح هنا إلى أن تصبح المسألة مسألة حياة أو موت، للدين/ المذهب، كما للمجتمع موضوع تفعيل هذا الدين/ هذا المذهب. والمفترض في مثل هذه الحال أن تقوم أهم المؤسسات الدينية ذات المكانة الاعتبارية بهذا الدور الإصلاحي؛ لتحقيق هدفين متوازيين: كي يكون للإصلاح شرعيته التي تضمن له القبول الجماهيري الذي هو شرط تفعيله؛ وكي يكون مسار التفعيل أسرع، ومن صم نختصر مسارات طويلة ومتشعبة من الجدال الذي قد نتوه في دهاليزه عن الإصلاح المراد.

هذا هو المفترض. ولكن، الواقع هو عكس هذا المفترض تماما. فدعوات الإصلاح الديني اليوم تأتي كلها من المفكرين/ المثقفين، أي من الخارج الديني: من خارج المؤسسات الدينية العريقة أو المؤسسات الحديثة ذات القيمة الاعتبارية جماهيريا. وما هو أدعى لليأس، هو أن يأتي دور هذه المؤسسات ـ كما هو واقع الحال للأسف ـ وكأنه محدود بمناهضة هذه الدعوات الإصلاحية؛ من أجل إبقاء الحال كما هو عليه، فهو دور يتجاوز الصمت السلبي/ الكفّ عن الفعل، إلى فعل سلبي مضاد للإصلاح. وكل ذلك بدعوى حماية الدين/ المذهب من الاختراق أو من الابتداع أو حتى من “التمييع” الذي يصفون به كل محاولات عصرنة التراث الديني.

قبل ست سنوات تقريبا (عام 2014)، تبنّت كثير من القنوات الفضائية المصرية إقامة برامج حوارية تبحث مسائل الإصلاح الديني، وكان ذلك على خلفية الإطاحة بالإخوان (الجماعة السلفية الأصولية التي تتأسس مشروعيتها على تفعيل التراث الديني في الواقع)، ومحاولة تعديل المزاج الديني العام الذي تلتقي من خلاله المؤسسات الدينية الرسمية، والجماعات الإسلاموية، والتيارات الإحيائية، والحركات الدعوية، على صعيد تراثي واحد.

وبصرف النظر عن الدوافع السياسية التي كانت وراء تكثيف مثل هذه البرامج، إلا أن وضع مناهج مؤسسة دينية رسيمة عريقة كالأزهر على طاولة التشريح النقدي، كان عملا إيجابيا بكل المقاييس. لقد حضر منتقدو الأزهر ومعهم الكتب الرسمية الأزهرية المقرر تدريسها رسميا على الطلاب منذ سنوات طويلة ولا تزال، والمطبوعة رسميا بمراجعة وتقرير الأزهر، وفي المقابل، حضر بعض شيوخ الأزهر مدافعين عن أنفسهم/ عن مؤسستهم العريقة التي يستمدون منها العائد المادي والرمزي الذي يكفل لهم الاستمرار فاعلين/ مؤثرين، كما يكفل لهم الارتقاء الطبقي بتغيير ظروف الحياة/ ظروف النشأة الأولى.

لقد أورد الضيوف المنتقدون مقاطع من المناهج المقررة في الأزهر. كانت المقاطع شنيعة، بل ومقززّة إلى أبعد حد، كان منها ـ مثلا ـ أن الفرد (لاحظ الإحالة على التنفيذ الفردي) إذا جاع، جاز له قتل المرتد وأكله، كذلك قتل الزاني المُحصن، ثم يذكرون الخلاف: هل يجوز تناول لحمه بعد شوائه، أم في ذلك (أي في الشواء) انتهاك لحرمة الميت/ المقتول! (طبعا، هذا مؤسس على قواعد وأصول منهجية عندهم، فالمرتد والزاني المحصن، حكمهم القتل، وفي حال الجوع، يباح للفرد تنفيذ هذا الحكم بصفته الفردية لإنقاذ نفسه).

أيضا، كان من المقاطع المأخوذة من تلك المناهج المقررة أن المسلم الممتنع عن صلاة الجمعة يُقتل. وقد اضطر أحد شيوخ الأزهر (وهو عميد سابق لأحد كلياتها) أن يصادق على هذا الحكم زاعما أن الذي يُصِرّ على عدم أداء صلاة الجمعة يصبح من المحاربين لله ورسوله. ثم ينكر مراوغا بعد رأى المذيع مصدوما ومستنكرا ورابطا بين حكمه وأفعال تنظيم “داعش” الإرهابي، فيزعم أنه قصد بحكم القتل فقط: “الممتنع المنكر”؛ مع أن نص المنهج المقرر لا يذكر “المنكر”، بل يكتفي في تقرير حكم القتل بـ”الامتناع” (لاحظ أنه مستمر بالإصرار على قتل المنكر؛ لأن قتل المنكر محل اتفاق تراثي، وهو لا يستطيع الخروج عن مقررات التراث).

وكان من أشد فقرات المناهج المقررّة إحراجا لشيوخ الأزهر المحاورين ما يتعلق بمسألة بناء الكنائس، وطريقة التعامل مع النصارى. فالمنهج يقرر ـ نصا ـ أنه لا يجوز بناء الكنائس في البلاد الإسلامية التي فُتِحت عنوة، كمصر وأصفهان (يذكرهما المقرر بالاسم)، وما انهدم منها لا يجوز ترميمه، ولا يُسْمح للنصارى بركوب الخيل، بل يركبون الحمير فقط (المقصود هنا إظهار الذلّة)، ويُضْطرّون إلى أضيق الطريق (أي لا تفسح لهم الطريق؛ لأن هذا احترام لهم، واحترامهم لا يجوز)، ويُلْزمون بلبس ما يُميّزهم (أي حتى تصبح هويتهم الدينية معلنة، فيعاملون على أساسها بالازدراء والاحتقار).

وطبعا، هذه الشناعات، وغيرها كثير، لم تكن هي استرعت اهتمامي في متابعتي لذلك الحوار، إذ كنت أعرف كثيرا منها في التراث وفي مقررات المؤسسات الدينية التقليدية. ما كان يهمني هو مراقبة الردود التي يتقدم بها شيوخ الأزهر الحاضرين على مثل هذه المقاطع/ الأحكام الفقهية، كيف سينظرون إليها، هل سيرجمونها بحجارة النبذ والاستهجان أم سيبررونها؟ وإذا برّروها؛ كيف سيفعلون ذلك، خاصة وأنهم أصبحوا في مرمى النقد المتمسرح على مساحات الإعلام الفضائي الجماهيري؟

كانت صدمتي آنذاك، في لحظة قراءة هذه التهم، هي أن المفاجأة لم ترتسم على وجه أي واحد من شيوخ الأزهر الحاضرين ولو على سبيل التمثيل، بل كانوا يسمعون ببرود، ثم يناقشون وكأنهم اعتادوا جدا على سماع أحكام القتل وأكل لحوم البشر واضطهاد المخالفين دينيا. ثم كانت الصدمة أكبر عندما رأيتهم يُراوغون ـ باضطراب واضح ـ من أجل عدم الموافقة على طلب حذف مثل هذه الأحكام من مقررات الأزهر، يراوغون أحيانا بالقول إنها مجرد أحكام فقهية نادرة في المقرر الطويل (يقصدون: انظروا إلى عموم المقرر، وتغاضوا عن هذه)، وأحيانا بطرحهم السؤال الاستنكاري: هل رأيتم أحدا قام بتنفيذ هذه الأحكام؟ 

لكن بدا وكأنهم شعروا أن المراوغة على هذا النحو باتت مراوغة مكشوفة، ولهذا قالوا: نعترف بأن هذه أخطاء، ويجب أن تصحح، ولكن يجب أن تبقى في متن المنهج، ويكون التصحيح في الهامش؛ حتى لا تمس قداسة المنهج (لأن المقررات كتب تراثية كتبت قبل مئات السنين)، ثم يوغلون في المراوغة؛ فيشترطون أن يكون هذا التصحيح بواسطة لجان أزهرية يُكوّنها الأزهر نفسه ويشرف على عملها. وفي كل ذلك ـ قبل المراوغة وأثناءها وبعدها ـ تجدهم يدفعون نقد الناقدين بأنهم ليسوا من ذوي الاختصاص، وأن ثمة اشتراطات غير مكتوبة تحكم النص المقرر، وتحد من إطلاقه الموحي بشناعته، وأن هذه الاشتراطات الضمنية لا تظهر إلا عند تدريس المقرر…إلخ مراوغات الأزهريين التي هي الصورة النمطية لمراوغة جميع التقليديين في محاولتهم الالتفاف على كل محاولات الإصلاح الديني.

إلى هنا، يبدو أن التقليديين/ المحافظين يقفون على أرض صلبة، حتى وإن أظهرتهم هذه الانتقادات المحرجة في مظهر ضعف، فظهروا وكأنهم في مأزق خانق لا يجدون منه مفرا. إنهم ـ في مثل هذا السياق السجالي/ الجدلي ـ لا يزالون في مأمن من رياح التغيير الجذري، بدليل أنهم استدرجوا ناقديهم إلى مربعهم الخاص، وإلى معارك ليست نتائجها بالحاسمة قطعا. بمعنى أن هؤلاء التقليديين نجحوا ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ بأن يُسَطّحوا الإصلاح الديني ليكون مجرد استدراكات هامشية على بعض المسائل التراثية، بينما يبدو التراث بمجمله (كمضامين تفصيلية؛ تتعاضد لتكون كلية مترابطة، وكبنية ذهنية عامة) وكأنه صالح للاشتغال في راهن المعاصرة على وَجْهي: الإجمال والتفصيل.

هكذا ظهر الإصلاح الديني مسطحا (من: السطحية)، عند كثير من المطالبين به، فضلا عن مناهضيه من التقليديين. وتسطيحه هنا يعني الاكتفاء بمراجعة بعض الأحكام التفصيلية المحرجة في سياق الاحتكام إلى مقررات الضمير الإنساني الحديث. وتتضاعف مستويات التسطيح عندما تكون المبادرات الفردية الاستثنائية وكأنها البديل للحراك المؤسساتي الجمعاني الذي هو وحده القادر ليس على إحداث التغيير فحسب، وإنما على شرعنته وتفعيله في الواقع أيضا.

ثم تبلغ غاية التسطيح هنا (بل هو الخداع المفضوح الممجوج) في أن يبادر أحد الوعاظ ـ أو مَنْ في حكمهم ـ إلى التبرع برأي/ حكم متسامح، التبرع بنقد هامشي عابر لحكم قديم؛ فيهتف له التّواقون إلى الإصلاح (وخاصة من خارج دائرة منظومة رجال الدين)، وكأنه النموذج/ المثال لما ينبغي أن يكون عليه رجل الدين المتجاوز/ المصلح الديني/ رجل الاعتدال، بينما هو لم يناقش ـ مجرد مناقشة ـ ذلك التراث الطويل الذي ينسب نفسه إليه، والذي يتعارض ـ في الوقت نفسه ـ مع الحكم التجديدي/ الإصلاحي/ المتسامح/ المعتدل الذي تبرع به!

إن التبرع المجاني بإصدار أحكام/ تصريحات إعلامية ذات طابع دبلوماسي، تنادي بالتسامح والاعتدال وتخفيض مستويات التزمت؛ مع السكوت التام عن كل ما يعارضها من تراث ضخم وعريق، بل ومع الإشادة بهذا التراث وتبجيله إلى درجة التقديس، ليس إصلاحا دينيا، بل هو تسطيح للإصلاح الديني، بل هو التفاف ماكر على الإصلاح الديني الحقيقي، بل هو خدعة كبرى لا يقول بها ولا يتبنّاها إلا المخادعون، ولا يصدقها إلا الأغبياء والمغفلون.

رشيد-موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate