ثقافة

الحداثة و الشعر

مفيد نجم

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها واقع التجربة الشعرية العربية المعاصرة، يتقدّمها سؤال عمّا يعانيه الشعر على مستوى اللحظة الراهنة من تراجع وانحسار في علاقته مع القارئ، وذلك بعد التحوّلات الجديدة والمتواصلة التي صاغها الوعي الحداثي، وأصبح معه هاجس التجاوز والتجريب هو العنوان الدال على حداثة التجربة وتفوّقها، انسجاما مع مفهوم الحداثة الفلسفي، القائل بأن الحداثة هي نفي للحظة، وتجاوز لها.

تماهيا مع هذا الوعي وتعبيرا عنه، استطاع الشعر أن ينفتح على مرجعيات ثقافية واسعة وغنية، وأن يتمثل بعض أدواتها ولغتها ورؤاها، كالأسطورة والصوفية والرمزية والسوريالية والفلسفة، ما أدّى إلى ثراء التجربة وتنوّع مرجعياتها ولغتها، إضافة إلى تفجير طاقات اللغة وإثراء مدلولاتها ودوالها، من خلال مجموعة من الانزياحات، وإطلاق مخيلة الشاعر بعد تحريرها من مرجعياتها الحسية.

مقابل هذه الإنجازات التي حققتها تجربة الحداثة في الشعر العربي، برزت عزلة الشعر بسبب نخبويته، النابعة من ثرائه الثقافي على حساب التجربة الإنسانية، وإيغاله في التجريد والبحث عن الغرابة الناجمة عن علاقات الانزياح البلاغية التي باتت تسم هذه التجربة عند الكثيرين من شعراء الحداثة العرب، الأمر الذي أدّى إلى تراجع حضور الشعر في الحياة الثقافية، ومحدودية تداوله والإقبال على قراءته بعد أن كان ديوان العرب.

إشكالية أخرى نجمت عن تعقد هذا المشهد ونخبويته، تمثلت في غياب الإطار النظري والنقدي المصاحب والذي يمكن أن يسهم في تعميق وعي المتلقي بالقيم الجمالية الجديدة للقصيدة الحديثة من جهة، ومن جهة أخرى يثري وعي الشاعر على المستوى النظري بالمفاهيم والعلاقات الجديدة التي أفرزتها بنية القصيدة على المستوى اللغوي والبلاغي والتشكيل، ولا سيما بعد توظيف هذه القصيدة للعديد من تقنيات الأجناس الأدبية الأخرى والفنون الأخرى كالسرد والتقطيع السينمائي أو المشهدية والحوار وتعددية الأصوات.

أمام هذا الواقع الموغل في نزعته التجريبية وجد الشاعر الحديث نفسه في مأزق، لا يعرف معه كيف يوازن بين معطيات الحداثة الشعرية والتجربة الإنسانية، بحيث لا تتحوّل التجربة إلى مجرّد مغامرة شكلانية خالية من الإحساس أو القيمة الروحية، ما جعل الشعر يصبح مجرّد مونولوغ ذاتي ومغامرة شكلية بامتياز.

تجارب قليلة من تجارب هذا الشعر الراهن هي التي استطاعت أن تردم هذه الفجوة بين القصيدة والقارئ، من خلال المواءمة بين المكوّن الثقافي لشعر الحداثة والتجربة الإنسانية، لكن ذلك لم ينجح كثيرا في حل مشكلة التلقي والوصول إلى الناس كما ينبغي، نظرا إلى التطوّر الكبيرالذي بلغته لغة الشعر من خلال خرق قواعد اللغة وكثرة استخدام الرموز الأسطورية والثقافية، التي نجمت عنها حالة من الإبهام، حالت دون فك مغاليق النص الشعري.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate