اصلاح ديني

ما علاقة الإصلاح الديني بقضايا الحداثة وحقوق الإنسان؟

من يطرح هذا السؤال في فضائنا، فإنه ينتسب غالباً إلى فئة نخبوية تتخذ النموذج الغربي مثالاً يحتذى، ذلك أن مسائل الحداثة، وحقوق الإنسان قد انفصلت في الغرب عن الدين منذ حقب طويلة، ولكن الوضع يختلف اختلافاً جذرياً في مجتمعنا السوري والعربي عموماً.

وعندما نعود إلى التجربة الغربية نفسها، نجد الإصلاح الديني قد مهد للحداثة. وقد برزت ملامحها الأولى في عصر الأنوار، في خضم الصراع ضد سلطة الكهنوت الكنيسي، وقد كان دعامة صلبة من دعائم الاستبداد السياسي يومئذ.

أما مفهوم حقوق الإنسان فقد أضحى يمثل أساساً من أسس الحداثة بعد أن حسمت معركتها مع الكنيسة.

وقد وجدت الكنيسة نفسها في بداية عصر الحداثة مجبرة على التخلي عن محاولات فرض رؤيتها الدينية على السياسة كي تستطيع التعايش ضمن مجتمع متعدد الرؤى.

إن الأوضاع السياسية الجديدة التي بعثها عصر الأنوار أصبح معها احتكار الحقيقة أمراً مستحيلاً، وقد كانت المؤسسة الدينية تزعم  قبل ذلك أنها تملك الحقيقة المطلقة.

أما مجتمعنا العربي، فإنه لم يعرف إصلاحاً دينياً جذرياً. ولقد عاش تجربتين متميزتين في العصر الوسيط:تجربة المعتزلة، وقد مثلوا تياراً كاملاً، وتجربة ابن رشد (1126 – 1198) بعد أربعة قرون. وبقيت تمثل اجتهادات شخصية في الأساس.

إن بداية عصور ركود الفكر العربي الإسلامي لم تسمح بتحول التجربة إلى تيار، ولم تتحول الرشدية إلى تيار إلا في أوربا في مطلع نهضتها.

وعندما يحاول المرء التأريخ لمحاولات الإصلاح الديني في الإسلام، فلا مناص من تنزيل محاولتي المعتزلة وابن رشد في سباقهما التاريخي، والبرهنة انطلاقاً منهما على أن مبدأ تجديد الفكر الديني لم يكن مرفوضاً في الإسلام منذ العصر الراشدي، وقد اشتهرت فيه الاجتهادات العُمَرية.

ولم يسجل تاريخ الفكر الإسلامي محاولات عميقة في مجال الإصلاح الديني منذ القرن الثاني عشر الميلادي حتى القرن التاسع عشر، وهي مرحلة ركود الثقافة العربية الإسلامية.

أدرك رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر ضرورة التجديد الديني، ولكنهم لم يركزوا جهودهم على هذه المسألة، ونجد ضمنهم علماء تخرجوا في مؤسسات إسلامية عريقة مثل الزيتونة والأزهر. وإذا استثنيا محاولات الشيخ محمد عبده (1849- 1905)، فإننا لا نعثر على بروز تيار تعمق أصحابه في قضايا الاجتهاد والإصلاح الديني، بالرغم من وعيهم بخطورة الموضوع، كما تقيم أدبيات فكر التنوير بين العرب الدليل على ذلك.

ويتساءل الدارس عن أسباب هذه الظاهرة؟

الجواب واضح فيما أذهب إليه. ويمكن تلخيصه في سبب واحد جوهري على ما أعتقد يتمثل في تركيزهم على الإصلاح السياسي، والتصدي للحكم المطلق، وأدركوا نتيجة اطلاعهم على التجارب الأوربية أن الإصلاح السياسي هو البوابة الرئيسة للإصلاح في شتى المجالات الأخرى.

أود أن أذكر في هذا الصدد رائداً من رواد الحركات الإصلاحية هو عبد الرحمن الكواكبي (1849 -1902)، لقد كانت ثقافته الإسلامية عميقة، ولكنه لم يول عناية تذكر للإصلاح الديني، بل سخّر جهوده لفضح ويلات النظم الاستبدادية، واشتهر بكتابه (طبائع الاستبداد).

استمرت الظاهرة في الفترة المعاصرة فتكاد لا تقف إلا على محاولات فردية محدودة في مجال الإصلاح الديني، وتلتقي جميع هذه المحاولات في نقطتين أساسيتين:

 التوفيق بين الإسلام وتيار الفكر الليبرالي، وهذا يذكّرنا بما سعى إليه الإصلاحيون في القرن التاسع عشر من التوفيق بين الشريعة والاقتباس من الغرب.

 أنها محاولات فردية لم تتحول إلى تيار، بل ضعفت وانحسر تأثيرها لمّا انتصر الفكر السلفي، وما خرج من عباءته من تيارات أصولية تمثل ردة بالمقارنة مع أفكار الشيخ محمد عبده والكواكبي وغيرهما.

ولا بد أن يتساءل المرء هنا قائلاً: ما المعوقات التي تقف اليوم أمام ظهور محاولات جدية لتجديد الفكر الديني في مجتمعنا؟ إنها متعددة ومتنوعة حسب اعتقادي، وسأكتفي بذكر أبرزها في نظري:

أولاً طغيان موجة الردة والرداءة التي بدأت تسيطر على الفكر والثقافة منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين حتى اليوم، ومثلت موجة الرداءة السياسية والفكرية هذه تجربة خصبة لانتشار تيارات الأصولية الجديدة، أيديولوجية الإسلام السياسي، وقد عجزت هذه التيارات عن تأسيس فكر إسلامي جديد ومستنير، وعن الإفادة من المناهج الحديثة لدراسة الإسلام، فتمسك جلّ قادتها بمقولات ذات طابع شعاراتي، وبتأويل سطحي لما يستشهدون به من نصوص دينية. ولا بد من القول هنا: إن ثقافتهم الإسلامية هزيلة في جل الحالات، ومعرفتهم بالتجربة التاريخية للمجتمع العربي الإسلامي أشد هزالاً. لذا جاءت مواقف الكثير منهم عبارة عن ردود فعل، ولم يناصبوا النظم السياسية العداء، بل نددوا بالنخب الفكرية المتنورة، واتهموها بالتنكر للقيم الإسلامية. وتقليد قيم الغرب المستوردة، وضمن هذه القيم دفاع هذه النخب عن الديمقراطية، وعن حرية المرأة وحقوقها، وتمسكها بمبادئ حداثة عصر الأنوار.

ثانياً الاستغلال السياسي المبتذل للإسلام من طرف حركات متطرفة، لا يعرف قادتها من الإسلام سوى مقولات دوغمائية منزوعة من سياقها المعرفي والتاريخي، وكذلك من بعض النظم الاستبدادية التي تستخدم الإسلام في محاولة لكسب رضا الناس، وتمثل سياستها تناقضاً صارخاً، فهي تزعم أنها تعمل من أجل التقدم والتحديث، وترعى في الوقت نفسه خطاباً دينياً متخلفاً لا علاقة له بالإسلام العقلاني المستنير ولا بالحداثة الحقيقية.

ثالثاً التمسك بالهوية المتعلقة والمتصلبة التي تصنف نفسها نقيضاً للآخر. إننا نجد الهويات الانفصالية في جميع الأديان والثقافات، نجدها لدى فئات من المسيحيين واليهود، ونجدها كذلك لدى فئة من المسلمين. ولا ننسى هنا الإشارة إلى حقيقة تاريخية، وهي أن دعاة المركزية الغربية هم الذين بشروا بهذا الصنف من الهويات، فجاء رد فعل من الآخر المستعمر والمهيمَن عليه ثقافياً. وانتشرت منذ القرن التاسع عشر، أي مع مرحلة الإمبريالية الاستعمارية مقولة تراثنا وتراث الآخر، وهويتنا نحن وهوية الآخر. وقد تحول مبدأ الهوية المتصلبة، وهو مبدأ سكوني، إلى علامة بارزة في أيديولوجية الهيمنة الثقافية بالأمس واليوم.

رابعاً ولا نغفل في هذا الصدد الإشارة إلى معوق أساسي من معوقات الإصلاح الديني والسياسي في العالم العربي، وهو موقعه الاستراتيجي من جهة، وثرواته الطبيعية، ولا سيما النفطية منها من جهة أخرى.

هذا الوضع يجعله اليوم هدفاً استراتيجياً بعيد المدى من أهداف النيوليبرالية العالمية المتطرفة، التي ليس من مصلحتها أن يحدث إصلاح ديني أو سياسي حقيقي في البلدان العربية خلافاً لما تدّعيه كذباً وبهتاناً.

وأود أن أوضح هنا إلى أن جل معوقات الإصلاح الديني المذكورة هي في الوقت ذاته معوقات لمشروعات التحديث والإصلاح الديمقراطي في البلدان العربية.

وقد آن الاوان لطرح السؤال التالي: ما علاقة الإصلاح الديني بقضايا الحداثة وحقوق الإنسان؟

إنها علاقة عضوية ومتينة في مجتمع يعجّ بمواقف ورؤى يرى أصحابها في حداثة عصر الأنوار نموذجاً غربياً مستورداً. ويصنفون المؤمنين بها، والداعين إليها ضمن زمرة منبتّة ارتمت في أحضان الغرب، وتنكرت للقيم الإسلامية. كما أن هناك حركات تتمتع بقاعدة شعبية واسعة، إذ إنها تنطلق من أرضية دينية، ترى أن الإسلام قد ضمِن حقوق الإنسان كاملة، ولا حاجة إلى التمسك بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. والغريب أن هذا الموقف يلتقي مع موقف بعض النظم العربية ذات الطابع الاستبدادي، والمعادية لمبادئ حقوق الإنسان كما نصت عليها المواثيق الدولية، بحجة الخصوصية، أو بحجة أن المجتمع لم ينضج بعد لتطبيق هذه المبادئ، فالموقفان يصبان في مجرى واحد في نهاية المطاف بالرغم مما تدعيه من مناهضة للحركات الأصولية باعتبارها تمثل عائقاً أمام مسيرة التقدم، والالتحاق بركب الحضارة الحديثة.

وأود في الختام التحدث بإيجاز حسب وجهة نظري عن الخطوات العملية التي ستمهد يوماً ما لبروز حركة إصلاح ديني جذرية تكون رافداً ثرياً من روافد التحديث والتقدم في بلادنا، وهي خطوة ضرورية تتطلب نضالاً طويل النفس من جهة، وتراكماً معرفياً من جهة أخرى، وهي ليست منعزلة عن جبهات النضال الأخرى.

ينبغي أن تنطلق الخطوة الأولى كما أرى من إعادة النظر في برامج الدراسات الإسلامية، وتنشئة نخبة من ذوي الاختصاص العميق في مختلف فروع المعرفة الإسلامية، مع الاطلاع الدقيق على ما حققته المناهج الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، والإحاطة بالدراسات التي أنجزها رواد حركة التجديد الديني في البلدان العربية والإسلامية، منذ بداية عصر النهضة والتخلي عن ادعاء احتكار حقيقة واحدة ومحاولة فرضها على الآخرين. فلا مناص من قبول تعدد العقائد الدينية، والرؤى السياسية والاجتماعية والفكرية في المجتمع الواحد. ويمكن الاستفادة في هذا الصدد من الجوانب المضيئة من التراث العربي والإسلامي. لقد أثبتت الدراسات التاريخية أن ظاهرة التعصب قد برزت في المسيحية وفي الإسلام لما بدأت القراءة الخاطئة للنص الديني، وبدأ تأويله لمصلحة النزعات السياسية، سواء كان أصحابها في السلطة، أو في صفوف المعارضة. فلا بد أن تكون قراءة النص الديني قراءة علمية موضوعية تنزل النص في سياقه التاريخي، ولا تعزله عن مكانه وزمانه، ولا بد من المرور من مرحلة (الإيمان الدوغمائي) أو الإيمان (العجائزي) حسب التعبير القديم، إلى مرحلة الإيمان العقلاني. إن كل دين يقوم على لبس إيماني ذي نمط عجائزي، ولا غضاضة في ذلك بشرط أن يبقى في المستوى الشخصي، ولا يمس الحياة العامة، أي لا يؤثر في شؤون السياسة والدولة والمجتمع.

وفي هذا السياق من الضروري أن تتحول المفاهيم الكونية مثل الحريات العامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني إلى مفاهيم أساسية في الفكر الإسلامي الحديث.

وفي الختام، لا بد من القول، إن المعركة الأساسية التي ينبغي أن تخوضها اليوم النخب السياسية والفكرية في المجتمعات العربية هي معركة التحديث السياسي والإصلاح الديمقراطي، وبذلك يمكن الالتقاء مع رواد الحركات الإصلاحية عندما ركزوا نضالهم على مناهضة الحكم المطلق الاستبدادي، فقد أدركوا في مرحلة مبكرة أنه لا أمل في تجديد ديني، أو فكري، دون تحديث سياسي. ونجد أنفسنا اليوم بعد مرور قرن ونصف القرن أمام الإشكالية نفسها، رغم تغير الزمان،فلا أمل في الخروج من التخلف وإنجاز تقدم حقيقي دون إصلاح ديمقراطي جذري.

النور-موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate