الحداثة المدهشة للمسيحية ..مراجعة كتاب اندريا ريكاردي
مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الايطالي أندريا ريكاردي الأستاذ في جامعة روما الثالثة. والبروفيسور ريكاردي يدرس هناك مادة تاريخ المسيحية، وهو مؤسس جماعة «سانت ايجيديو» المهتمة بالحوار بين الأديان وبخاصة بين المسيحية والإسلام. وقد استقبلت العديد من الشخصيات الإسلامية الكبيرة ونظمت العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية التي رافقتها نقاشات عالية المستوى. كما حاولت إصلاح ذات البين بين النظام الجزائري والمعارضة الإسلامية التي تقبل الحوار.
وفي هذا الكتاب الجديد يقول المؤلف ما معناه: كثيراً ما يتحدثون عن انحطاط الغرب وزوال المسيحية فيه بعد الدخول في عصر الحداثة والعلمانية. ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، فالمسيحية في الغرب لم تمت، ولكنها تحولت وتغيرت وتجددت. فالمسيحية القديمة، مسيحية العصور الوسطى ومحاكم التفتيش انتهت من دون شك في المجتمعات الأوروبية الحديثة المتقدمة.
ولكن ظهرت على أنقاضها مسيحية جديدة تؤمن بحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية ولا تفرض عقائدها بشكل قسري وإرهابي على الناس كما كان يحصل سابقاً. ثم يعترف المؤلف بأن المسيحية وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي كانت أصولية متعصبة لفترة طويلة.
وكانت مضادة للحداثة الفلسفية والسياسية. كما انها كانت مضادة للعقلانية العلمية والليبرالية والاشتراكية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد اشتعلت المعارك على مدار التاريخ بين التيار المسيحي الكاثوليكي والتيار العلماني الحديث. ولكن المحصلة كانت إيجابية في نهاية المطاف.
فقد انعقد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني عام 1962 ـ 1969 واعترف بالقيم الإيجابية للتنوير والحداثة ـ واصدر عدة فتاوى أو قرارات لاهوتية جريئة جداً. وقطع مع الأصولية البابوية التي سادت حوالي الألفي سنة واعتذر عن ملاحقة العلماء والمفكرين في العصور السابقة كغاليليو وديكارت وسواهما.
ومن القرارات اللاهوتية الكبرى التي اتخذها هذا المجمع الضخم القرار التالي: حرية الاعتقاد والضمير. وكان ذلك يعني انه لا يوجد بعد اليوم إكراه في الدين، ولن يمنع أي شخص في اتخاذ الموقف الذي يتناسب مع ضميره. فالإيمان عن طريق القسر والإجبار يفقد قيمته لأن الإنسان لا يكون حراً عندئذ. الإيمان إذا لم ينبثق من الداخل وبشكل عفوي لا أهمية له.
وهكذا تراجعت الكنيسة عن موقفها السابق المتعصب والمتشنج بل وفتحت مكتباً للحوار مع «غير المؤمنين» من سكان أوروبا: تقصد غير المؤمنين بالمعنى التقليدي للكلمة من طقوس وشعائر والتزام بمحظورات وممنوعات .. إلخ، ولكنهم مؤمنون في الواقع على طريقتهم الخاصة.
كما اعترفت الكنيسة لأول مرة بمشروعية النظام العلماني الذي ساد في أوروبا بعد الثورة الفرنسية وقبلت بمبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة بعد أن عارضت ذلك على طول الخط وخاضت الصراعات الدموية من أجله. وعرفت أخيراً أنه من الأفضل لرجال الدين ألا يشتغلوا في السياسة وان يتركوها للأحزاب المتخصصة بها وان يتفرغوا للشؤون الروحية والهداية الأخلاقية للبشر.
وهكذا يربح الشعب الدنيا والآخرة. فللدين مجاله وتنزيهه وتعاليه وللسياسة مجالها ومناوراتها وحيثياتها. ولا ينبغي الخلط بين الأمرين لأننا نخسر عندئذ على كلتا الجبهتين. ثم يردف المؤلف قائلاً: وأما فيما يخص الإسلام فقد اعترفت الكنيسة الكاثوليكية لأول مرة في التاريخ بالدين الإسلامي وبضرورة احترام تراثه. وقالت بالحرف الواحد: اننا نقدر عقائد المسلمين ونحترم إيمانهم بالله الواحد الأحد ونشاركهم هذا الإيمان.
كما ونقدر إيمانهم بالحساب والعقاب واليوم الآخر، والملائكة والرسل وبقية القيم العليا والفضائل المثلى، واعترفت الكنيسة الكاثوليكية بأنه حصلت مشاكل كثيرة في الماضي بين المسلمين والمسيحيين، ولكنها دعت الجميع إلى تجاوز حزازات الماضي وطي صفحته نهائياً إلى غير رجعة وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين. فالأشياء التي تجمع بين المؤمنين أكثر من الأشياء التي تفرق بينهم. وإذا كان الجهل والتعصب هو الذي ساد في العصور الوسطى فإن العلم أو الانفتاح هو الذي ينبغي ان يسود الآن.
ثم يردف المؤلف قائلاً: لقد فهمت الكنيسة منذ زمن طويل انه لا يمكن التبشير في أرض الإسلام بسبب بسيط: هو ان الدين الإسلامي من القوة الاعتقادية والعظمة الأخلاقية والروحية بحيث انه يصعب على أي دين آخر ان يزاحمه في أرضه. ولذلك توجهت الكنيسة إلى مناطق أخرى للتبشير كإفريقيا السوداء، وآسيا، أو حتى الصين والهند.
ولكن حتى في هذين البلدين الكبيرين فإن نجاحها كان محدوداً لسبب بسيط: هو أن الشعب الهندي مرتبط بديانته الهندوسية، وقل الأمر ذاته عند الشعب الصيني وعقيدته الكونفوشيوسية. نقول ذلك على الرغم من ان الكنيسة حققت بعض النجاحات هناك. والواقع ان المنافس الأكبر للمسيحية في ميدان التبشير هو الإسلام. فالنجاحات التي حققها في افريقيا السوداء لا تقل أهمية عن نجاحاتها إن لم تزد.
ولكن ذلك لم يمنع البابا يوحنا بولس الثاني من دعوة علماء المسلمين للصلاة معه في إيطاليا مع رجال الدين الآخرين في مختلف القارات والأديان. وقالوا بأن الصلاة تقرب بين أتباع الأديان المختلفة وتصهرهم في بوتقة واحدة ولو للحظة. كما انها تبعد عن الشعوب شبح النزاعات والحروب والمجازر الطائفية. الصلاة هي أفضل وأنبل وسيلة لتحقيق السلام. بالصلاة يتواصل الإنسان مع خالقه وينسى أحقاده وآلامه ويرتفع فوق جراحاته وحزازاته.
ثم زار البابا السابق يوحنا بولس الثاني المغرب الأقصى واستقبله الملك الحسن الثاني استقبالاً حاراً. وألقى البابا الراحل أمام مئات الآلام من الشبيبة المغربية خطاباً كبيراً. وكان مما جاء فيه: السلام عليكم ورحمة الله. إن الأمانة تقتضي مني الاعتراف بأن هناك أشياء تفصل بيننا.
ولكن ينبغي أن نحترم اختلافاتنا ولا نجعلها مدعاة للفرقة والانقسام. فهناك أشياء كثيرة تجمع بيننا أيضاً كالإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. وبالتالي فما يجمع بيننا أكثر مما يفرق والله هو الذي يحكم علينا جميعاً يوم القيامة. إن التعاون بين المسلمين والمسيحيين أمر ضروري لكي يستتب السلام في العالم. والاختلاف في الدين ليس جريمة لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراده لحكمة تتجاوز أفهامنا.
ثم يردف المؤلف قائلاً: والواقع من كلام البابا يوحنا بولس الثاني يتوافق كل التوافق مع الآية القرآنية الكريمة التالية: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة، الآية رقم 48).
وبالتالي فالاختلاف مسموح به ومعترف به في القرآن الكريم بشرط أن تصلح النيات ويعبد كل امريء ربه من خلال دينه ومعتقده لكي تصلح أعماله في الحياة الدنيا ويمتلئ قلبه بالشفقة والرحمة على الآخرين وبخاصة على الضعفاء والمقهورين والفقراء وابن السبيل. ورحمة الله واسعة، تشمل الجميع.
وبالتالي فالحوار بين الأديان أصبح ضرورة ملحة للتوصل إلى السلام العالمي ولاسلام في العالم بدون سلام بين الأديان. هذا هو الشعار الذي يرفعه كبار العلماء والمثقفين في كلتا الجهتين الإسلامية والمسيحية. ولن يتركوا للمتطرفين المتعصبين الساحة فارغة لكي يملأوها بأحقادهم ويشعلوا النيران والحروب في كل مكان.
وبالتالي فعلماء الدين المسؤولون والمثقفون المستنيرون دخلوا في معركة واسعة مع هؤلاء المتطرفين اللامسؤولين من كلتا الجهتين: الإسلامية والأوروبية الأميركية.
البيان ـ موقع الحداثة