السلطوية و الديمقراطية
بعد انهيار حائط برلين، تراجع أو تلاشى الدعم الذي كانت تتلقاه الأنظمة المرتبطة بالمعسكر الاشتراكي، وأصبحت الديمقراطية الليبرالية نموذجا مفضلا لعدد من الدول، التي ترغب في الحصول على الدعم السياسي والمالي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
تعاملت الأنظمة السلطوية عبر العالم مع هذه التحولات من خلال ثلاثة أنواع من الاستجابات؛ الأول، هو التحول الكامل نحو الديمقراطية، كما حصل في التسعينات من القرن الماضي، عندما دخلت العشرات من الدول إلى نادي الديمقراطية، في إطار ما سُمي بالموجة الثالثة للديمقراطية، لاسيما في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. النوع الثاني هو استدامة السلطوية، كما حصل في عدد من الدول العربية، مثل سوريا وليبيا (قبل الربيع العربي)، والتي لم تتأثر كثيرا بموجة التحولات الديمقراطية. وأخيرا نموذج السلطوية الناعمة، أو الأنظمة الهجينة، وهو النموذج الذي يهمنا هنا.
فلضمان مكان لها في ظل هذه التحولات العالمية، تكيفت بعض الأنظمة السلطوية مع المتطلبات الجديدة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة. ومن هنا عملت على تنظيم الانتخابات بشكل دوري، وفتحت المجال أمام الصحافة المستقلة، وأفرجت عن المعتقلين السياسيين، وغيرها من الإجراءات التنافسية التي عملت على امتصاص الضغوط الداخلية والخارجية.
هذه المرونة النسبية والقدرة على التكيف هي التي تميز الأنظمة السلطوية الناعمة عن الأنظمة الديمقراطية، وعن السلطويات القاسية. فهي نوع قائم بذاته من الأنظمة السياسية تتميز بكونها تمزج بين الديمقراطية والاستبداد، وتظهر بالنسبة إلى المتتبعين من الخارج على أنها ديمقراطية أكثر من كونها ديكتاتورية، وهذا لأنها تمتلك مؤسسات ديمقراطية من حيث الشكل، وتقوم بإجراء انتخابات دورية بالحد الأدنى من التنافسية والنزاهة، وهو ما يجعل من مهمة وصفها سلطوية أمرا صعبا.
لماذا؟ لأن الأنظمة السلطوية الشاملة تغلق جميع قنوات التواصل والتعبير أمام المعارضة السياسية، وتقمعها بشكل شرس، كما أنها لا تسمح بالتنافس الانتخابي، وإن نظمت الانتخابات، فإن نتائجها تكون معروفة سلفا، ولا تعدو أن تكون «مسرحية» للاستهلاك الخارجي، مثلما كان يحصل أيام بنعلي ومبارك.
بالنسبة إلى الأنظمة السلطوية الناعمة، المسألة أكثر تعقيدا، فهي تسهر على تنظيم الانتخابات بشكل دوري، والتي تكون غالبا تنافسية، ويمكن أن تقدم المعارضة مرشحيها فيها، كما أن التزوير المباشر (أي تغيير نتائج الصناديق بشكل فج) يكون محدودا. ولكن، مع ذلك، فالانتخابات ليست حرة ونزيهة.
كيف ذلك؟ أولا، لأن السلطوية الناعمة تقوم بالتحكم القبلي في نتائج الانتخابات بشكل أنيق، عبر هندسة متطورة للوائح والتقطيع الانتخابي بشكل يخدم أصحاب النفوذ، الذين ترغب السلطة في وصولهم إلى البرلمان والمجالس المنتخبة. ثانيا: يتم اللجوء إلى ترهيب مرشحي المعارضة ومراقبي الانتخابات. ثالثا: تقوم الإدارة الترابية بتقديم الدعم اللوجستيكي والمعنوي للمرشحين المفضلين للسلطة، عبر تعبئة الأعيان المحليين والنخب الاقتصادية لدعم مرشحين بعينهم.
بهذه الطرق تضمن السلطوية الناعمة نجاح الفئات التي تدعمها، دون أن تقوض العملية الانتخابية برمتها وتجعلها فاقدة للمعنى، كما هو الحال في الأنظمة السلطوية القاسية، لكنها، في الوقت نفسه، ليست حرة ونزيهة لأن أدوات التحكم السابقة واللاحقة تفرغ نتائج الانتخابات من مضمونها.
هل هذا المسار هو مرحلي وضروري للوصول إلى الديمقراطية؟
ليس ضروريا، لأن مسار التاريخ ليس بالضرورة خطيا. فتجارب الدول تظهر أنه يمكن أن تتحول الأنظمة السلطوية نحو الديمقراطية بشكل كامل، كما يمكنها أن تؤبد ممارساتها السلطوية دون أن يحصل التحول نحو الديمقراطية، كما يمكنها، في أسوأ الأحوال، أن تتحول إلى ديكتاتورية شاملة. إذن، كل الاحتمالات واردة. العامل الخارجي قد يساعد أو يعرقل التحول الديمقراطي، لكنه ليس العامل الحاسم. العامل الأساسي هو الضغط من الأسفل، وإلحاح المواطن على تحقيق مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.