حداثة و ديمقراطية

الديمقراطية التوافقية عند المفكر آرنت ليبهارت سويسرا وبلجيكا نموذجا

لقى الضوء على كتاب الديمقراطية التوافقية فى مجتمع متعدد، لـ أرنت ليبهارت والذى يؤكد أن “الديمقراطية التوافقية” مفهوم جديد تطور فى أوروبا وبالذات فى البلدان المفتقرة إلى التجانس القومى. وهذا يعنى أن التجانس القومى فى أوروبا ليس أسطورة، وأن هذا النوع من الديمقراطية ينمو أيضاً فى بيئات غير أوروبية. كتاب الديمقراطية كتاب الديمقراطية ويدرس الكتاب كلا من ماليزيا ولبنان أساسين للمقارنة

بين أوروبا وآسيا، أو العالمين الأول والثالث، كما يقول المؤلف. فكلتا الحالتين تظهران – كما تفعل الأمثلة الأوروبية – أن الديمقراطية التوافقية ممكنة حتى عندما تكون عدة ظروف غير مؤاتية، وسوف تكون خصائصهما المقياس الذى سنقيس عليه البلدان الأخرى: هل ظروف البلدان التعددية فى بلدان العالم الثالث مؤاتية إجمالاً على الأقل بقدر ما هى مؤاتية فى ظروف لبنان وماليزيا، أم غير مؤاتية فى معظمها كما هى فى الحالة القبرصية؟ ولعل أهم ما يميز التجربة التوافقية هو أربعة عناصر أساسية وهى “حكومة ائتلاف أو تحالف واسعة (تشمل حزب الأغلبية وسواه) ومبدأ التمثيل النسبى ( في الوزارة، فى الإدارة، والمؤسسات، والانتخابات أساسا)، حق الفيتو المتبادل

(للأكثريات والأقليات لمنع احتكار القرار)، الإدارة الذاتية للشئون الخاصة لكل جماعة. وقد انطلق النقاش حول هذه النظرية في العالم العربى والمشرقى أواخر عقد الثمانينيات بمبادة من الأستاذ اللبناني

أنطون مسرة، حتى عده المتابعون ممثلها الأكثر حماسا. والديمقراطية التوافقية، في الكتاب، نموذج تجريبى ومعيارى في الوقت نفسه، فهى تستخدم، في المقام الأول، بمثابة تفسير للاستقرار السياسى في عدد من الديمقراطيات الأوروبية.

النموذج التوافقي للديمقراطية

ويرى التأويل القائم على الأغلبية للتعريف الأساسي للديمقراطية أنها تعني “حكم الأغلبية من الشعب”. وحسب هذا التأويل، فإنَّ على الأغلبية أن تحكم وعلى الأقلية أن تعارض. ويتعارض مع هذه الرؤية النموذج التوافقي للديمقراطية. فكما أشار عالم الاقتصاد، الحائز جائزة نوبل، السير أرثر لويس، إن حكم الأغلبية والنمط السياسي الذي يحمله بين طياته والقائم على وجود حكومة في مواجهة معارضة يمكن النظر إليه باعتباره خلوًّا من الديمقراطية؛ نظرًا لأنه مبدأ يقوم على الإقصاء. ويقول لويس إن المعنى الرئيسي للديمقراطية هو أنه “ينبغي على جميع المتأثرين بقرار معين أن تتوفر لهم فرصة المشاركة في اتخاذ هذا القرار، إما بشكل مباشر وإما من خلال ممثلين مُنتخبين”. أما معناه الثانوي، فهو “وجوب أن تسود إرادة الأغلبية”. فإذا كان هذا يعني أن تقوم الأحزاب الفائزة باتخاذ كل القرارات الحكومية وأن على الخاسرين أن ينتقدوا فقط وليس لهم أن يحكموا -والكلام لا يزال لـ”لويس”- فإن المعنيين غير متوافقين: “فاستبعاد الجماعات الخاسرة من المشاركة في صنع القرار أمر ينطوي على انتهاك واضح للمعنى الرئيسي للديمقراطية”.

والأمثلة التي يستيعن بها الكاتب لتوضيح النموذج التوافقي هي نماذج سويسرا وبلجيكا والاتحاد الأوروبي، وجميعها كيانات متعددة الأعراق. وتُعد سويسرا أفضل مثال: فهي باستثناء واحد فقط تقترب بشكل مثالي من النموذج الصرف. كما نجد في بلجيكا كذلك نموذجًا جيدًا، خاصة بعد أن أصبحت رسميًا دولة فيدرالية في عام 1993؛ ولذا أولى الكاتب نمط السياسة البلجيكية اهتمامًا خاصًا في الفترة الأخيرة.

النموذج التوافقي في سويسرا وبلجيكا

ويُمكن وصف النموذج التوافقي للديمقراطية في ضوء عشرة عناصر تتناقض تناقضًا صارخًا مع الخصائص العشر لنموذج وستمنستر. فبدلًا من تركيز السلطة في أيدي الأغلبية، يحاول النموذج التوافقي أن يتقاسم السلطة وينشرها ويوزعها بطرائق عدة.

أ-تقاسم السلطة في مجالس ائتلافية موسعة: على النقيض من ميل نموذج وستمنستر إلى تركيز السلطة التنفيذية في مجالس وزراء تتألف من حزب واحد وأغلبية ضئيلة؛ فالمبدأ التوافقي هو إفساح المجال لكل الأحزاب المهمة، أو لمعظمها، بتقاسم السلطة التنفيذية في تحالفات ائتلافية واسعة. ويقدم المجلس الفيدرالي، وهو السلطة التنفيذية الوطنية السويسرية، المؤلف من سبعة أعضاء، مثالًا ممتازًا على هذا التحالف الموسع: فحتى عام 2003، استحوذ كل من الأحزاب الثلاثة الكبيرة، وهي الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الراديكالي، على ربع عدد المقاعد في المجلس الأدنى للهيئة التشريعية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتقاسمت هذه الأحزاب مع حزب الشعب السويسري -الذي نال ثمن عدد المقاعد- المناصب التنفيذية السبعة، بالتناسب، يطلق عليه المعادلة السحرية 1:2:2:2، التي تم إرساؤها في العام 1959. وبعد انتخابات 2003، أصبح الحزب الديمقراطي الاشتراكي هو حزب الغالبية، حيث حصل على مقعد إضافي على حساب الحزب المسيحي الديمقراطي. وبرغم ذلك، لم يعمر التحالف الموسع طويلًا، ففي عام 2007، انتهى التحالف عندما لم يتم ترشيح كريستوفر بلوتشر -الذي كان عضوًا في المجلس الاتحادي منذ عام 2003- وانتُخب مكانه أحد مرشحي الحزب الآخرين.

ب- النظام المتعدد الأحزاب: تضم كل من سويسرا وبلجيكا أنظمة حكم متعددة الأحزاب دون أن يظفر أي منها بوضعية حزب الأغلبية. وفي انتخابات عام 2007 للمجلس الوطني السويسري، فاز اثنا عشر حزبًا بمقاعد برلمانية، بيد أن أغلب هذه المقاعد -وهي مئة وسبعة وستون مقعدًا من أصل مئتين- حازتها الأحزاب الأربعة الكبرى الممثلة في المجلس الفيدرالي. ومن ثم فقد جاز لنا أن نقول إن نظام الحكم في سويسرا يضم أربعة أحزاب.

ج- التمثيل المتناسب: يتمثل التفسير الثاني لنشوء النظم السياسية المتعددة الأحزاب في سويسرا وبلجيكا في أن نظمها الانتخابية المتناسبة لم تمنع ترجمة الانقسامات المجتمعية إلى انقسامات في النظام الحزبي. فعلى خلاف منهج التعددية، والذي يميل إلى التمثيل المفرط للأحزاب الكبيرة والتمثيل المتدني للأحزاب الصغيرة، يتمثل الهدف الأساسي للتمثيل المتناسب في تقسيم المقاعد البرلمانية بين الأحزاب بشكل يتناسب مع الأصوات التي تتلقاها. وكلا المجلسين الأدنيين لكلتا الهيئتين التشريعيتين يُنتخب بنظام التمثيل المتناسب.

د- مؤسساتية جماعات الضغط: ثمة اختلاف بين خبراء المؤسساتية حول درجة المؤسساتية corporatism في سويسرا وبلجيكا، لسبب رئيسي في ذلك هو أن الاتحادات العمالية في هذين البلدين أقل تنظيمًا وتأثيرًا من المؤسسات الاقتصادية. ويمكن حل هذا الاختلاف بالتمييز بين نوعين من المؤسساتية: المؤسساتية الاجتماعية التي تهيمن فيها الاتحادات العمالية، والمؤسساتية الليبرالية التي تشكل فيها جمعيات أصحاب الأعمال القوة الأكبر. ويستخدم بيتر ج. كاتزنشتاين سويسرا وبلجيكا مثالين على تلك الأخيرة، ويخلص إلى أن سويسرا “هي المثال الأوضح لخصائص المؤسساتية الليبرالية”. فكلا البلدين يوضح العناصر العامة الثلاثة للمؤسساتية: التوافق الثلاثي وجماعات الضغط الكبيرة نسبيًا والقليلة نسبيًا والاتحادات البارزة.

هـ- الحكومة الفيدرالية واللامركزية: تعتبر سويسرا دولة فيدرالية، وتنقسم فيها السلطة بين الحكومة المركزية وحكومات عشرين كانتونًا وما يطلق عليه تسمية ستة كانتونات نصفية نشأت عن انشقاقات في ثلاثة كانتونات موحدة في السابق. وللكانتونات النصفية ممثل واحد فقط بدلًا من اثنين من الممثلين في الهيئة الفيدرالية السويسرية، وهو مجلس الولايات. وهي تحمل فقط نصف ثقل الكانتونات التقليدية في التصويت على التعديلات الدستورية؛ وفي معظم الجوانب الأخرى، نجد أن وضعيتها تساوي وضعية الكانتونات الكاملة. كما تعد سويسرا أيضًا من أكثر البلدان لامركزيةً في العالم.

و- ثنائية المجالس القوية: يتمثل المبرر الرئيس لإرساء هيئة تشريعية ثنائية التمثيل بدلًا من هيئة أحادية التمثيل في ما يمنحه من تمثيل خاص للأقليات، والتي تشمل الولايات الصغرى في النظم الفيدرالية، وذلك في هيئة ثانية أو مجلس أعلى. ويتعيَّن تحقق شرطين إذا أُريد لتمثيل هذه الأقلية أن يكون ذا معنى: الشرط الأول هو ضرورة أن يُنتخب المجلس الأعلى على أساس يختلف عن طريقة انتخاب المجلس الأدنى. والشرط الثاني هو ضرورة أن يكون له قوة حقيقية تقترب في الظروف المُثلى من قوة المجلس الأدنى نفسها. ولقد تحقق هذان الشرطان في النظام السويسري؛ حيث يعتبر المجلس الوطني هو المجلس الأدنى ويمثل الشعب السويسري، ومجلس الولايات هو المجلس الأعلى أو الفيدرالي الذي يمثل الكانتونات، حيث لكل كانتون ممثلَان ولكل نصف كانتون ممثل واحد. ومن ثم فإن الكانتونات الصغيرة تحظى بتمثيل أكثر قوة في مجلس الولايات من المجلس الوطني. وعلاوة على ذلك، فإن نظام المجلسين السويسري متناظر: “المساواة المطلقة بين المجلسين في كل أمور التشريع” قاعدة مقدسة للغاية في سويسرا.

ز- الجمود الدستوري: في كل من بلجيكا وسويسرا دستور مكتوب في هيئة وثيقة أحادية تضم القواعد الأساسية للحكم، يمكن تغييرها فقط من خلال أغلبيات خاصة. ويستلزم إدخال أي تعديل على الدستور السويسري موافقة في استفتاء شعبي، ليس فقط من أغلبية الناخبين في البلاد، بل وكذلك من الأغلبية في أكثر الكانتونات. وتُمنح الكانتونات النصفية نصف الثقل عند الحساب على أساس كل كانتون على حدة؛ وهو ما يعني أنه بالإمكان -مثلًا- تبني أي تعديل دستوري إذا وافق عليه ثلاثة عشر كانتونًا ونصف الكانتون ورفضه اثنا عشر كانتونًا. إن الشرط الخاص بموافقة أغلبية الكانتونات يعني أن بوسع سكان الكانتونات الأصغر وأنصاف الكانتونات، والتي تمثل أقل من 20 في المئة من إجمالي التعداد السكاني السويسري، نقض أي تغييرات دستورية.

ح- المراجعة القضائية: تنحرف سويسرا في أحد الجوانب عن النموذج التوافقي البحت: فمحكمتها الدستورية، وهي المحكمة الفيدرالية، وقد وضع البرلمان في الاعتبار إنشاء محكمة دستورية كجزء من عملية الإصلاح القضائي في العام 2000. ولم تكن هناك مراجعة قضائية في بلجيكا، هي الأخرى، حتى العام 1984، عندما افتُتحت محكمة التحكيم الجديدة. وكانت المسؤولية الرئيسة للمحكمة تتمثل في تفسير الأحكام الدستورية المتعلقة بفصل السلطات بين الحكومات المركزية والمجتمعية والإقليمية. وقد توسعت سلطتها بشكل كبير من خلال التنقيح الدستوري لعام 1988، ويمكن النظر إلى محكمة التحكيم الآن كمحكمة دستورية أصيلة.

ط- استقلالية البنك المركزي: كان يُنظر إلى البنك المركزي السويسري لمدة طويلة باعتباره من أقوى البنوك المركزية وأكثرها استقلالية، جنبًا إلى جنب مع البنك المركزي الألماني وبنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة. وعلى النقيض، اعتُبر البنك الوطني البلجيكي لمدة طويلة من أكثر البنوك المركزية ضعفًا. ومع ذلك، فقد تعززت استقلاليته في مطلع التسعينيات، خلال المدة نفسها التي شهدت التحول إلى النظام الفيدرالي، ولكن بصفة خاصة كنتيجة لمعاهدة ماستريخت، الموقعة في العام 1992 والمصدق عليها في العام 1993، والتي ألزمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعزيز استقلالية بنوكها المركزية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate