سيادة الدولة عند كارل شميت
أمكننا أن نتتبع جذور ظهور اللاهوت السياسي إلى الاقتراح الذي قدمه توماس هوبز، والذي ينص على أنه: لحل مشكلة حالة الطبيعة، يجب خلق “السيادة” -ممثلةً في الدولة- حيث يخشاها كلُ من يسكنها، لأن لديها ما يكفي من القوة. يؤكد هوبز أن التجربة والملاحظة قد بيّنا لنا أن الواقع غير موثوق به لإجبار الناس على الوفاء بوعودهم، لذلك يجب أن يتمتع الملك بسلطة قاهرة لإجبار الناس -بالتساوي- على الوفاء بـ”عقودهم [الاجتماعية]” عن طريق إرهاب بعضهم بعقوبة أكبر من المنفعة التي يتوقعونها من نقض عقودهم. لكن على عكس هوبز، يرى شميت أنّ صاحب السيادة هو الكيان الذي يمكنه تحديد حالات الاستثناء من الوضع الطبيعي أو حالة الطوارئ التي تستوجب سن القوانين الرادعة أو شن الحروب. لذلك، يرى شميت أنه يجب أن تتمتع السيادة بالخصائص اللاهوتية التي تضفي الشرعية على وجود الدولة.
ويترتب على ذلك أنه على الرغم من أن كلا من هوبز وشميت يدعمان السلطة المطلقة التي تتمتع بها الدولة كاستراتيجية مهيمنة، إلا أنهما يختلفان في شرعنة أو تسويغ هذه السيادة. استعار هوبز الحكم المطلق للدولة من الخلفية اللاهوتية، ثم حولها إلى كيان علماني يخدم أمن وسلامة سكانها من خلال “الطاعة الطوعية” (شرعية أفقية). أما شميت، فبناءً على افتراضه أن الإنسان كائن سياسي بطبيعته، فإنه ينظر إلى الدولة على أنها كيان -كما وصفها ماير- موجود “بالمعنى الخرائطي، أي أنها بمثابة إطار تنصهر في داخله السلطة والوحي الديني والطاعة” . إن المستند الذي يشرعن وجود الدولة بالنسبة لشميت هو نفسه الذي يشرعن الوجود الطبيعي للإنسان؛ وهذا المستند يشرعنه فقط المسوِّغ اللاهوتي للطاعة، وقبول الدخول تحت السلطة.
بشكل عام، نستطيع أن ننظر للدولة من وجهتين: إما أن ننظر إليها بوصفها ذات طبيعة تعاقدية، أو على أنها التنين/اللفياثان الذي يتماهى فيه المواطنون. بالنسبة لوجهة النظر الأولى -وهي التي تهمنا في هذه الورقة- مسوّغ وجود الدولة هو أنها موجودة لحل النزاعات بين المواطنين. بينما تؤكد الثانية أن الدولة هي نتيجة غير مقصودة لاستراتيجيات ومناورات الحكّام لحماية سلطتهم . من ناحية أخرى تشير النظرة التعاقدية إلى وجود عقد اجتماعي لإنشاء الدولة وتعزيزها، حيث يحدد هذا العقد حقوق ومسؤوليات كل من الدولة وسكانها فيما يتعلق بعضهم ببعض. هذه الحقوق الممنوحة للسكان (المواطنين) ليست طبيعية، لأنها تُمنح لهم فقط -بحكم كونهم مواطنين- من خلال القوانين (وبالتالي فهي قوانين مدنية)، والدولة (صاحب السيادة) هي التي تحميها. إن تسويغ القوانين لم يتحقق ميتافيزيقيًا، بل إن الحاجة المدنية لطرف ثالث مُنفّذ لهذه القوانين بالإضافة إلى جعل هذه القوانين ملزمة= هو ما يشرعن ويسوغ شرعية وسيادة الدولة.
وبالتالي، فإن ما تؤكده وجهة النظر التعاقدية هو أن السلطة التشريعية متعلقة بالسيادة؛ فالقوانين بحد ذاتها لا تحتوي على مسوغات وجوب سريانها واتباعها؛ بل إرادة الملك لفرضها، وإرادة المواطنين لطاعتها هي ما يشرعنها؛ فلا يعتبر الحكم قانونًا إلا إذا كان له مُطبِّقٌ ذو سيادة، ومُطبَّقٌ عليه مُطِيع. وبالتالي، عند النظر إلى القوانين من الناحية المجتمعية -كما يلاحظ أولمين (Ulmen 1985)- سيتبين أن صلاحيتها راجعة إلى المجتمع، وأنّ شرعيتها لا تخرج عن أنّ المجتمع اصطنعها لخدمة الفرد (ص8). ومن ناحية قابليته للتطبيق الأفقي، يُشرَّع القانون فقط كأداة يمكنها الحفاظ على الاعتراف المجتمعي بالمعايير والمبادئ والتفاعل المتحضر. وعلى الرغم من أنه يُفترض تطبيق القانون بشكل محايد على جميع المواطنين، وأنّ لكل مواطن نصيبه من صناعة القانون= فإنّ المفاهيم المذكورة أعلاه -وكذلك الإجراءات المعمول بها- تُسنّ وتُطبّق ويُحافَظ عليها من خلال السيادة؛ ومن هنا فإن سيادة الدولة تستمد شرعيتها من سلطتها التشريعية أو قدرتها على سن وتطبيق القانون.
بالنسبة لشميت، من الواضح أنّ جعل السلطة التشريعية والقانونية مسوِّغًا لسيادة الدولة يتعارض مع تصوره للوجود المُسوَّغ للدولة. كما أكد افتراضه الشهير بأن “صاحب السيادة هو من يقرر حالة الاستثناء” ، وهو يشير ضمنيًا إلى أن المكوّن التشريعي في تسويغ سيادة الدولة يقوم على تصور سياسي محدد بأن المعايير المجتمعية هي أفضل تعبير ممكن عن الإرادة الجماعية، بحيث تصير شرعية الدولة فوق محل النقاش. أيضًا، يجب أن تظهر هذه المعايير في التشريعات، لذلك يجب أن تتمتع بصلاحيات محددة تخضع لها جميع القضايا العامة. وهكذا خلص شميت إلى أنّ الهيئة التشريعية في الدولة البرلمانية هي مثال للدولة التشريعية، حيث يقدم البرلمان المسوغ القانوني لمرجعيتها التشريعية، بينما النظام القانوني -كما يؤكد- “مثل أي نظام آخر، يعتمد على قرار وليس قاعدة”.
تكرس الدولة صاحبة السيادة التشريعية نفسها للفصل بين القانون وتطبيقه، وبين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية؛ ومع ذلك، فإن السيادة ليست لمن يديرون الدولة -سواءً كانوا من التشريعيين أو التنفيذيين- بل للقانون المطلق الذي يتمتع بجميع السلطات. في الواقع، لا يُعتبر البرلمان أو الهيئة التشريعية الكيانَ الذي تُسن فيه القوانين، بل السلطة التشريعية تعمل على “صياغة” المعايير المشتركة بناءً على ممارسة السلطات الحاكمة لصلاحياتها التنفيذية. وبالتالي، فإن التطبيق الأفقي للقانون يجعل الإجراء القانوني مجرد تنفيذ للمعايير التشريعية المشتركة، ولا يتجاوز نشاط الدولة التنفيذَ المنسجم مع هذه المعايير.
يمكن للمرء أنْ يدرك أنّ تعريف ماكس فيبر الشهير للدولة على أنها “التجمع البشري الذي يدّعي بنجاح احتكار الاستخدام المشروع للقوة المادية” مرتبطٌ بوضوح باختزال الشرعية في الإيمان بالشرعية التي يؤكدها نموذج الدولة الجديد. لكن بالنسبة لشميت (2004)، فإن هذا النموذج متناقض، حيث إنّه يستخدم مفهومي الشرعية والصلاحية كما لو كانا مترادفين، بينما يعتمد في نفس الوقت مفهومًا للشرعية متناقضًا مع هذه المفاهيم. تنشأ المفارقة عندما يؤدي هذا التصور إلى معضلة حقيقية عندما يضفي الشرعية على القرارات المتناقضة، طالما أنّ المعيار قانوني بالدرجة الأولى. لهذا السبب، نبّه شميت إلى التناقض الكامن في السياق التشريعي العقلاني الذي ينتهي إلى دحض نفسه .
يُلاحظ هنا بشكل واضح أنّ شميت ينتقد نهج الوضعية المعيارية، لأنها تربط بين الدولة والنظام القانوني. هذا النهج لا حول له ولا قوة، ناهيك عن إفلاسه القيمي، وعزلته عن الواقع. في الحقيقة، هذا النهج “ينقض” مقدماته؛ بمعنى أنّ هذا النهج لا يمكن أنْ يتجاوز مفهوم القانون باعتباره معياريًا ومثاليًا، بينما لا يزال يرسف في سلبيته وتجريديته. وهذه هي السمة الرئيسية للتفكير الرومانسي التي يعارضها أتباع الوضعية. في الرومانسية “إرادة الماهية أوالحقيقة تنتهي إلى إرادة الظاهر فقط” ، وبالتالي، فإن ظهور الشرعية من خلال شرعنة المصدر الذي اشتقت منه القوانين -حتى لو كانت تتعارض مع الواقع- أمرٌ بغيض لفكرة الواقع الذي يؤكد على العقلانيّة. أيضًا، لا يمكن لهذا النهج أنْ يحدد بشكل مؤكد أيّ منظومة سياسية ملموسة. وبما أنّ القانون -كما يدعي هذا النهج- هو مجرّد وسلبي، فهو يحتاج إلى الدولة كضامن. ونتيجة لذلك، تظهر مشكلة المعنى المركزي للتسويغ القانوني، لأنّ القرار الذي يستند إلى كون السيادة مستقلة عن القاعدة القانونية المعيارية= غير موجود. لا يمكن للنظرية المعيارية تجنب قصورها الأساسي المتمثل في ربط التبعية القانونية بالفعالية الإجرائية.
وبالتالي، فإنّ الدولة ذات السيادة التشريعية، لا يوجد فيها تمييز بين الصواب والتشريع القانوني وإرساء المعايير المشتركة الذي تمارسه الدولة. من خلال هذا الاقتران بين الصواب والتشريع والدولة، تصبح سلطة الخضوع هي القانون الوحيد الذي لا يُسمح لأي شخص بانتهاكه، لأنّ الشرعية مستقلة تمامًا وبشكل كافٍ عن أي قيود خارجية. طالما أنه لا يوجد فرق بين القانون كما هو مشرَّع، والصواب كمفهوم معياري؛ ولا بين العدل والشرعية؛ ولا بين موضوع القانون وتطبيقه الإجرائي= فإنّ السلطة التشريعية معصومةٌ من الخطأ، ولا مجال لمراجعتها . وبالتالي، تقضي الدولة على العلاقة الثنائية بين الدولة والمجتمع أو الشعب، حيث تتماهى إرادة المجتمع مع إرادة الدولة الممثلة في سلطتها التشريعية. في هذه الحالة، لا يوجد القانون في الواقع في تصوره التشريعي إلا في ظل الإيمان بالانسجام الكلي بين حكم الأغلبية وإرادة المجتمع ككل.
قاد هذا الافتراض شميت إلى التأكيد على أنّ الدولة ذات السيادة التشريعية تعتمد على الإيمان الدوغمائي الذي يشرعنه التسويغ اللاهوتي، وذلك لتأكيد الطبيعة الإجرائية التي تقوم عليها الدولة. تقوم الدولة بذلك من خلال رفع مبدأ الحياد المؤقت إلى المستوى القانوني الذي يختزل مفهوم القانون والعدالة عن طريق سلطتها المعيارية . قد يحدث أن تكون قرارات الأغلبية تبرهن على شرعية عقلانية في مجتمع متناغم، يمتلك إرادة جماعية، حيث لا توجد أقلية وأغلبية. ولكن ليس هذا هو الحال في الدول ذات السادة التشريعية في نظامها القابل للمساءلة والتقييم، والذي يفرض قرار الأغلبية لإجبار الأقلية على الطاعة والاستسلام. إنّ الخطر الذي يجلبه هذا التصور الحيادي للدولة هو أنّه يتخلى عن التمييز بين القانون والظلم، حيث تُسْتَبعد فيه إمكانية الظلم والاستبداد بسبب توحيد المعايير الإجرائية للشرعية السياسية . وغني عن القول إذن أنّ الدولة ذات السيادة التشريعية لديها هاجس خفي للحكم المطلق، ويجب أنْ يكون هذا الهاجس كامنًا خلف طبيعتها الإجرائية المعلنة. يمنح هذا الحكم المطلق الدولة أولوية شرعية أعلى، حتى لو كان من المفترض أنْ تكون الدولة مقيدة بسيادة القانون وتطبيقه.
لكن ما يشير إليه شميت هو أنّ هذه الأولوية الشرعية العليا لا تعطي أولوية سياسية (أفضلية سياسية)، خاصة في أوقات الأزمات والاضطرابات. تظهر صورة الامتياز السياسي في الدولة الحديثة ذات السيادة التشريعية في سياقات محددة -مثل الأمن القومي وإرساء النظام العام وتصريف الموارد الحيوية… إلخ- والتي تُظهر حضور المراقب التشريعي للسلطة الجمعية (المصادرة التشريعية) في جميع القرارات المتخذة خلال أوقات الأزمات والاضطرابات التي لا مفر منها . وبالتالي، فإنّ المصادرة أو الفرضية التي تضعها الدولة ذات السيادة التشريعية -والتي ترفع عليها شعار الحياد- لا تجيب عن السؤال السياسي الأساسي: من يمتلك السلطة الفعلية لصنع القرار خلال لحظة استثنائية؟ وبما أنّ نموذج الدولة ذات السيادة التشريعية لا يمكن أنْ يفترض شرعية أعلى من السيادة التشريعية= فلا يمكن تسويغ فائض الشرعية -إذا جاز التعبير- خلال اللحظات الاستثنائية. يتمتع صاحب السلطة التشريعية في نموذج الدولة التشريعية أو البرلمانية بتأثير مطلق على القرارات السياسية من خلال اتخاذ الإجراءات وسن القوانين التي تشكل الحياة العامة والأنشطة الاقتصادية، ويلقي هذا بظلال الشك على مفهوم الشرعية في الأنظمة التشريعية.
إنّ مناقشة شميت لأزمة الشرعية التي تعاني منها الدولة التشريعية هي في الواقع معالجة لمسألة السيادة الأكبر. لا علاقة للأبعاد الإجرائية والتشريعية للدولة بالسياسة، ولا يمكنها تقديم أي نوع من أشكال الدولة. الخدمة الوحيدة التي تسهلها هذه الأبعاد هي تنظيم وتصنيف العقبات التي تواجه الدول. لذلك فالدولة من هذا المنظور ليست شكلاً من أشكال الدولة، بل هي مجموعة إجراءات للسيطرة والإشراف عليها. لذلك، يتألف النظام البرلماني بشكل أساسي من عناصر أرستقراطية وملكية (أعضاء النخبة) للحد من الفعالية السياسية وعرقلة المنافذ السياسية المحتملة. يترتب على ذلك أنّ النظام البرلماني لا يستطيع بلورة هوية سياسية حقيقية، لأنه يقوم على أساس التمثيل الطبقي، بينما الدولة وحدها -بما هي كيانٌ عضوي متماسك- يجب أنْ تضمن هذه الهوية، التي هي أصل أي كيان سياسي.
في اللاهوت السياسي، يحل شميت مشكلة السيادة من خلال الاعتراف بأنّ الشرعية مرتبطة مباشرة بالقرار نفسه، وليس بالإجراء المعياري لكيفية اتخاذه. إنّ الطبيعة الجوهرية للقرار تتحدد بحالة الاستثناء وليس الحالة المعيارية العادية، وبالتالي فإنّ الشخص الذي يمكنه اختيار اللحظة الاستثنائية هو الشخص الذي يمسك بزمام القانون. اللحظة الاستثنائية هنا لا تعني وضعًا عاجلاً أو مشكلة يتوجب حلها؛ بل إنّها مفهوم ينتمي إلى العقلانية القانونية، أي سلطة القيادة باعتبارها المكوّن الرئيسي للنظام القانوني؛ بعبارة أخرى: القاعدة العامة -من الناحية القانونية- لا يمكن أنْ تتضمن استثناءً مطلقًا، وبالتالي لا يمكنها في نفس الوقت أنْ تحصر القرار الذي من شأنه أنْ يضعنا في لحظة استثنائية حقيقية في يد سلطة كاملة .
في هذا الصدد، يؤكد شميت أنّ منظِّري “الحق الطبيعي” في القرن السابع عشر -وخاصة هوبز- أدركوا السيادة من منظور الاستثناء. هوبز -كما يدعي شميت (1996)- هو الشخص الذي يبلور مفهوم السيادة للدولة الحديثة كدولة ديكتاتورية بالنظر إلى تكوينها وشرعيتها. وبما أنّ الدولة تنشأ من عقد اجتماعي يحمي البشر من حرب الجميع ضد الجميع= فإنّ القانون بهذا المعنى ليس أكثر من أمر فاعل ناتج عن قرار تقتضيه مصلحة الدولة؛ ومع ذلك فإنّ مصلحة الدولة لا وجود لها حتى صدور هذا القرار (اللحظة الاستثنائية) .
يتخلى شميت في عمله الأساسي “مفهوم السياسي” عن أسلوب التحليل الاجتماعي والقانوني للظاهرة السياسية، فهو يبني نظرية كبرى عن الدولة، مفترضاً أنّ الدولة والممارسات السياسية ليسا مترادفين. ما يهمه في بحثه هو تحديد الطبيعة السياسية للظاهرة الإنسانية بما يتجاوز المورفولوجيا التاريخية للظاهرة السياسية، والتي ليست الدولة سوى تشكل واحد لتطبيقها. يجادل شميت (2007) بأنّ الدولة -كظاهرة تاريخية على وجه التحديد- هي نمط للوجود، تنتمي بشكل خاص إلى شعب، ويتحدد وجودها في لحظة صنع القوانين خلال اللحظات الاستثنائية . أما السياسة، فعلى عكس التعريفات القانونية النابعة من مقتضيات الممارسات القانونية المشتركة التي تؤطرها الدولة= فهي ظاهرة إنسانية ليس لها جوهر، لأنها تشمل جميع مجالات الوجود الإنساني.
ما يميز السياسة أنها علاقة أو صيغة تترجم -بعد الصراع في التفاعل البشري- وفق مراجع تؤطر الممارسات السياسية. لذلك، إذا كانت الأخلاق موجودة على هيئة التقسيم الثنائي بين الخير والشر، وعلم الجمال قائمًا على الاعتبار الثنائي للجميل والقبيح، والاقتصاد قائمًا حول العلاقة الثنائية بين الربح والخسارة أو المنفعة والضرر= فإنّ السياسة قائمة على ثنائية الصديق والعدو؛ وهذا يعني أنّ هذا التمييز هو أعلى تعبير عن التكامل البشري أو التفكك والترابط أو الانفصال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العدو الذي يلمح إليه شميت ليس فقط الخصم أو الغريم أو حتى الآخر، بل العدو هنا هو بشكل عام “المختلف” عن جميع الكيانات الجماعية. إنّه لا يستخدم كلام العدو في مفهومه الأخلاقي أو الميتافيزيقي، ويرفض النهج الليبرالي الذي يقلل من الثنائية السياسية في الصراع الطبقي. إنّ العداء -بمفهومه السياسي- لا ينطوي على كراهية شخصية، بل يمثل بؤرة الصراع في دلالاته الشديدة على الاختلاف الذي يؤدي إلى الحرب، حتى لو لم تكن الحرب هي الغرض من السياسة. وعليه، فإنّ جميع أشكال النزاعات -سواء أكانت دينية أو أخلاقية أو اقتصادية أو عرقية- يمكن أنْ تتحول إلى صراع سياسي عندما تصل حدتها إلى حد تقسيم المجتمعات إلى أصدقاء وأعداء.
ومن ثم، يصبح التجمع البشري سياسيًا عندما يتشكل أثناء محنة الحرب. هذا التجمع دائمًا ما يكون حاسمًا لأنّه ينتج وحدة سياسية هي السلطة السيادية طالما أنّ التجمع يعتبرها مرجعيته في اللحظة الاستثنائية . فالسيادة إذن هي السلطة الحاسمة في زمن اللحظة الاستثنائية. ليست الدولة هي الشكل الوحيد للسياسة، لأنّ الدولة يمكن أنْ تنهار، دون أنْ تزول السياسة في أبعادها الأساسية للصراع.
في الختام، يمكننا القول إنّ دولة شميت هي أداة لضمان التفاعل المدني السلمي، وتتمتع بإمكانية فعالة للتمييز بين الصديق والعدو؛ ومن ثم فهي تملك حق إعلان الحرب، والذي يعكس السيادة التشريعية في نفوس البشر. ومع ذلك، فإن السياسة مبنية على مقدمات أنثروبولوجية ولاهوتية مرتبطة بالطبيعة البشرية وكيفية النظر إليها؛ ترجع الجذور العميقة للسياسة إلى عقيدة “الخطيئة الأصلية”، التي إذا تخلصنا منها، فإن الفوضى هي البديل؛ وليس من شك أنّ الفوضى شر على السياسي.