ثقافةحداثة و ديمقراطيةمنوعات

ادب السجون (٥)

آرام كرابيت: تدمر العسكري أقسى سجون العالم

الاستبداد موضوعيًا كاره لكل ما هو جميل في الحياة، وهذا يتضمن الثقافة والفكر والإبداع، إذ يرى فيهم أعداء له يريدون النيل منه، يعروه من ثيابه وينشرون ثيابه القذرة على حبال الغسيل تحت الضوء. الاستبداد منتج حصري للدكتاتورية، والجهل والقهر الاجتماعي والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والاستزلام والخضوع. والاستبداد متعدد الأنواع، منه الثقافي والديني والاجتماعي والفكري، يضعهم الدكتاتور في جبته كصرة واحدة وينثرهم في فضائه، فضاء سلطته الفردية، لهذا أرى أنّ التكوين النفسي والعقلي للدكتاتورين متقارب جدًا، إنهم منتج واحد، لهذا لا أرى هناك فارقًا كبيرًا بين حافظ الأسد وبشار وستالين وعبد الناصر وصدام. الدكتاتور يضرب التنظيم، خلايا فكرية وسياسية، مكونة من كتّاب ومفكرين ومثقفين، وبضربه للخلايا المنظمة يرعب المجتمع ويركعه.

علينا أن نعلم أنّ الاستبداد الديني كان موجودًا، قبل الأسد الأب وابنه، منتجه الثقافي كان راسخًا في المجتمع منذ أكثر من ألف سنة. بمعنى عندما جاء الدكتاتور رأى البناء مشيدًا، بل راسخًا، فأخذ المفاتيح ودخل بيته، إلى البناء الجاهز، حفر أكثر وبنى أكثر وكرس وجوده على الدعائم القائمة. بنى دولة أمنية، محوّلًا سورية كلها إلى مؤسسات أمنية خادمة لسلطته. جلب كتّابه وزلمه ومضى يكرّس مفارخ الاستبداد في كلّ مكان.

السجن السياسي ما زال قائمًا، والدولة الأمنية مستمرّة، فكيف يخرج السجين من سجنه. هذا على المستوى الفكري، أما على المستوى الشخصي فما زال السجن يشكّل لي غربةً وانطواءً على الذات. ماتت الحياة الطبيعية في داخلي، لم أعد كائنًا مثل بقية البشر. أشعر بالنفور من الاجتماع العام بالناس، شيء ما في داخلي يوجهني ويبعدني عنهم. لا أعرف سيكولوجيًا السبب الحقيقي. أينما أذهب أرى نفسي حاملًا سجني تحت إبطي أو قلبي أو ظهري.

كتبت روايتي عن السجن بعنوان، «الرحيل إلى المجهول»، ونشرت في العام 2010، بيد أنها لم تلق رواجًا أو أي اهتمام من الكتّاب والصحافة، أعدّ هذا الأمر مقصودًا، لأنّ مجتمعنا مقسوم على نفسه. وجاءت الثورة السورية وكشفت عمق الخراب الذي فيه. أعتقد أنّ الاستبداد تعرى أكثر في السنوات العشر الماضية، حيث صعدت على السطح التراكمات الماضوية الكامنة في المجتمع، كالطائفية والمناطقية، والعنصرية. بصراحة؛ لا يكفي أن نعري الدكتاتور وحده، إنما علينا أن نعري الاستبداد، المنتج الحقيقي للدكتاتور. عرّيت الدكتاتور، بيد أني لم أعرِّ مجساته، وهذا كان خطأً مني. كان الواجب أن أعري المعارضة أيضًا، لأنها العينة المكملة له، إنهما من المفرخة ذاتها. كنت في سجن تدمر العسكري، وهو أقسى السجون في العالم، هذا السجن مزقني نثرني حوّلني إلى أشلاء متناثرة. لا أعرف إلى اليوم كيف خرجنا منه أحياء؟ هل هي إرادة الحياة في داخل كلّ واحد منّا فقط، أم أنّ إرادة الحياة هي من تريد ذلك، هذا لا أعرفه بالضبط، بيد أني كنت أتمنى الموت ولم أحصل عليه. سجن تدمر أعدّه أكثر من ألم أو وجع أو قتل للنفس الحية. الكتابة عن السجن حررت جزءًا من الذاكرة. وبعد أن كتبت روايتي ونشرتها، شعرت أنني لم أعد أستطيع أن أعود للكتابة عنه مرّة ثانية. سجن تدمر مدمّرٌ، أعادني إلى الفراغ والخوف مرّة ثانية وحوّلني إلى إنسان غريب، فتح عيني على قسوة السلطة وقدرتها التدميرية. 

في عدرا، كان السجن حجزًا للحرية، توفرت لنا الكتب والقراءة والتنفس اليومي. هذا السجن حررني من الخوف، من الجهل. استطعت أن أقرأ بعمق وأدخل في حوارات مع الأصدقاء، وتعلمت كثيرًا من التجارب في علاقتي مع السجان والسجين. وعرفت أكثر عن الحياة والمجتمع وسبب خرابه. كنت أراقب سلوك الزملاء وأعكسها على نفسي، وأقارن بيني وبينهم، كنت أقول لنفسي: آه، الخراب بيننا مشترك، بل هو واحد. وأقول إنّ العلاقة بين السجان والسجين ليست ميكانيكية خالصة، إنما بنية كاملة، هي نتاج استبداد طويل، وإنّ التغيير يجب أن يكون ثقافيًا أولًا حتى لا ننتج سلطة بديلة عن سلطة.

السجون أنواع، حسب حركية المجتمع. النظام يتمفصل مع آلية المجتمع، فإذا كان هناك حركة اجتماعية تهدد دولته أو سلطته الدكتاتورية؛ تحوّل إلى وحش، يأكل الدولة والمجتمع بأنيابه وأسنانه، أما في فترة الراحة وخمول المجتمع فإنه يسترخي. في سجن عدرا بدمشق، كان النظام قد بسط سيطرته على السياسة والمجتمع، وكان مرتاحًا، وكنّا في الثمانينيات والتسعينيات مرتاحين إلى حد بعيد، هنا أتكلم عن القوى السياسية التي لم تحمل السلاح، أما الذين حملوا السلاح فكانت معاملتهم قاسية جدًا. وعندما رحّلونا إلى تدمر كان ذلك بسبب رفضنا للعفو الرئاسي، أي إنه كان “تكسيرًا للرأس”، كما كان يقول قادة الأجهزة الأمنية.

حرّاس السجن مجرد أدوات سياسية، وهم ينفذون توجيهات السلطة. إنهم العصا التنفيذية التي يُضرب بها المجتمع. وهؤلاء يمكن إدانتهم لأنهم عملوا في هذه المؤسسة الأمنية، لكنهم عمليًا مجرد كائنات مأمورة. السلطة السياسية الأمنية في سورية هي الحارس الحقيقي للزنزانة، ولا أشعر بأي ضغينة نحوهم أو كره، ولا ألومهم. أقصد حراس السجن. في تدمر لا نرى السجان، لأننا نغمض أعيننا وننكس رؤوسنا عندما نكون بحضرته. إنه شيء محزن أن لا ترى وجه سجانك، ولا تعرفه. إنّ إخفاء الوجه مخيف أكثر من السجان ذاته. وسجن تدمر لا يمكن أن أنساه، إنه في سريري. سورية كلها سجن منذ أكثر من خمسين سنة برعاية دولية وحمايتها. كتبنا عن السجن، أدبيًا وسياسيًا، دخلنا في بعض مفاصل السجن، عريناه وعرينا أنفسنا، لكن يعوزنا أن نفكك مفهوم السجن، تفاصيل تكوين السجن، غايته الباطنية وكيف يمكن تدميره من داخله. هل يمكننا تسمية ما نكتبه عن السجن، بـ “أدب السجون”؟ لا أعرف. هل هو مذكرات، تعرية، (فشة خلق) كما يقال، محاولة أخذ التعاطف من المجتمع بأن نقول لهم انظروا لقد تعذبنا من أجلكم، أي “تبرئة ذمة”؟ لا أعتقد أننا كتبنا عن السجن بموضوعية، كان ذلك توظيفًا. هل يرقى ذلك إلى تسمية “أدب السجون”؟ لا أعرف.

شيار خليل خليل: أدب ينقل آلام وآهات السوريين للعالم أجمع

بقيت “سورية الأسد” محكومة من قبل أجهزة أمنية تتبع مباشرة لرأس النظام السوري، الذي حاول فرض الرقابة الأمنية على المفكرين والأدباء والصحفيين، بجانب السياسيين بكل تأكيد، فقبل الثورة السورية، لم تكن الحال أحسن، حيث كانت هذه الأجهزة الأمنية تمارس الرقابة التامة على الصحف والكتب والمنشورات الثقافية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، مع رقابة كاملة على التلفزيون والمسرح. وقد اعتقل الأسد الأب والابن أغلب الصحفيين والكتّاب الذين تجاوزوا -وفق تسمية النظام- “الخطوط الحمراء” والرقابة التي وضعت لهم وعليهم، حيث كان سجن تدمر وسجن المزة بدمشق من أكبر المعتقلات التي استقبلت العديد من الكتّاب والمفكرين السوريين في زمن الأسد الأب، ليأتي الابن ويمارس السلوكيات الأمنية نفسها، خاصة بعد الثورة السورية، بطريقة منهجية وشبه علنية، فاعتقل زكي كورديلو، والشهيد أكرم رسلان، والعديد من الذين كانوا يحاربون ويناضلون بالكلمة والصوت

بكل تأكيد، لم أخرج من تلك الحالة الأدبية التي عشتها داخل السجن، فكل الحيثيات المرتبطة بالسجن لها ارتباط مباشر لديّ مع الأدب، وكما حاولت داخل السجن، أحاول هنا خارجه، أن أنقل تلك الصور بطريقة أدبية للمتلقي والجوار وفي السوشيال ميديا، لتعميق تلك الحالة لدى السوريين، وتثبيتها تاريخيًا وأدبيًا وفكريًا. السجن والاعتقال حالتان يمكن أن ينتج منهما السجين قصصًا وروايات كثيرة، بنى عليها النظام السوري مملكته المليئة بالرعب والدم، وهنا دورُنا -السوريين الذين لديهم تجربة بدخول تلك المعتقلات- في الحديث عن التفاصيل والقيم الفكرية والمعرفية لتلك الزوايا، ونقلها إلى الناس من أجل التدوين، من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل كشف الحقائق التي بنيت عليها هذه المملكة المقرفة. السجن حررني من كلّ المكنونات التي اكتسبتها في المجتمع، وبدأت من خلال تلك الجدران بناء عالم فوضوي، عانيت أيامًا وأسابيع لتنظيمه، وترتيبه، ومن ثمّ جعله مكانًا فكريًا سياسيًا وفنيًا منتجًا لي وللمحيط المتجوّل معي.

ليس هناك ألمٌ أكثر من كلمة الاعتقال أو السجن، فالحالة بحد ذاتها مبنية على الخوف والألم والموت، تأتي الكتابة هنا بعد المرور بتلك المرحلة، وتوظيف الألم ذاك تعزيز الفكر المستنتج منه، وتعزيز ما تبقى من الألم لتحويله إلى فكرة أدبية وسياسية، وهو ما يجب أن يعمل عليه كلّ سجين، لنصنع مقابل مملكة العرب تلك مملكة لتفسير تلك الآلام والإبحار في تفاصيلها، لمواجهة النظام الدموي بتلك الأعمال الأدبية والفنية وتخليدها بشكل مستمر. كان السجن تجربةً روحية وفكرية مهمة، استطعتُ من خلالها تغيير العديد من الأفكار، لكنها ألغت فكرة الألم المضاد في داخلي، ولم تعد تلك المستحاثات الخاصة بمراكز الألم ذات فاعلية، بقيت الدمعة التي تخرج من العين مستمرّة، ولكن من دون إحساس، تجري ومعها العديد من الآلام، لم يعد الألم آنيًا، بل بقي -كما كان هناك- متجذرًا متعمقًا لا يمكن الابتعاد عنه، بل صار الولوج فيه أمثل حالة للعودة إلى طبيعته مع الروح والفكر.

كانت زنازين (فرع فلسطين) “تحت الأرض بطابقين”، هي أمثل حالة لتسمية القبر الجماعي، في كلّ يوم تقريبًا كان يفارق أحد المعتقلين الحياة، بسبب التعذيب والوضع الصحي وسوء التغذية في الزنازين، وكان الجلادون هم أمثل حالة لمحاسبة المعتقلين في الحياة، وخلق حالة من الرعب والدم والقتل في المكان، كانوا هم القضاة الذين يمارسون حق الموت علينا. أتذكّر جيدًا كيف أن أحد الجلادين “صورته ما زالت لدي، حصلت عليها من أحد الصفحات”، كان يشغل أغنية لفيروز: “أعطني الناي وغني”، ويبدأ يدور على الزنازين ويمارس الضرب والقتل بحقنا، ليشبع الحقد والكراهية الموجودة بقلبه، ولكن برفقة أنغام فيروز. عندما دخلت إلى السجن، قال لي ذلك السجان: “إنّ اسمك رقم (101)، انسَ اسمك، والبس هذا الاسم الجديد في هذا القبر الجماعي، لتتناغم مع الأرقام الأخرى وتشكلوا قبرًا جميلًا يليق بكم”.

تفتقر سورية والوطن العربي بشكل عام إلى الكتابة عن “أدب السجون”، وذلك يعود إلى الحالة الرقابية الشديدة في هذه البلاد، وبعد الثورة السورية ومغادرة أغلب الكتّاب والمعتقلين البلاد، بدأت النتاجات الفكرية والأدبية الخاصة بـ “أدب السجون” تخرج للعلن، بلغات عدة، وذلك برأيي قضية مهمة جدًا لمحاسبة المجرمين المتعددين والمتلونين لدى النظام والأطراف الأخرى في الساحة السورية، العدالة لا يمكن أن تتحقق، إذا لم يكن هناك تدوين وأدب ينقل آلام وآهات السوريين للعالم أجمع وبجميع اللغات، وذلك -بكل تأكيد- له ارتباط وعلاقة وطيدة بـ “أدب السجون” وأهميته.

في مفردة “الاعتقال” و”المعتقل”، يبدو وكأن اللغة تتقصد هنا ارتكاب الخيانات والمعاصي، فهي لا تفي بالغرض، حتى لو بدلنا المفردة، وأتينا على عبارات من السياق نفسه، “كحفرة” أو “مسلخ” أو “جحيم”.. فلا يمكن لجميعها أن تحيلنا إلى ما هو متضمن في فضاء “المعتقل”، فكلها تعجز عن التعبير، وإزاء هذا العجز، تصبح  العبارات أشبه ما تكون بالقطارات التي لا تمتهن إلا العبور، وتجاوز المحطات واحدة تلو الأخرى، بخلاف حال السجين في داخل فضاء المعتقل، حيث يستحيل الزمن والمكان عنده إلى حالة ثبات وجمود، ترفض الحراك، والخروج عن صيرورة الطاحونة التي تطحن روح المعتقل، على نحو مستمر إلى حد الأبدية، وهذا تمامًا ما يجعل اللغة هنا غير موثوقة، ولا يمكن الركون إليها، لكونها تلعب دورًا تضليليًا، وأحيانًا تنفيسيًا، غايته إخراج المعنى عن سياقه الحقيقي والواقعي، واستبداله بسياق آخر، هو أقرب ما يكون إلى الافتراض بقصد التعميم، وإمحاء الذات التي هي موضوعة هذا الفضاء، ومن دونها ما كان ليكون.

في المعتقل، يستحيل التعميم، وكذلك الافتراض، أو التفكير على نحو يهدف إلى فهم المعنى، فالثانية من عمر المعتقل في معتقله، واللحظة والدقيقة، هي صيرورة عيش كاملة، وصيرورة حياة كاملة، مليئة بالرعب والخوف، وتدرك فيها الضحية حال امتهان آدميتها، إدراكًا يصل إلى حد الجنون، لشدة وضوحه، وسطوعه، ومرارة أهواله. ومهما حاولنا الكتابة، فلن نستطيع أن نعبّر عن اللحظات التي يعيشها المعتقل في معتقله، ولا سيما حين يصل الأمر بالجلاد إلى حد اشتهاء إبصار الدماء وهي تسيل عن أجساد المعتقلين التي تمزقها سياطه، من جراء تفشي داء الحقد لدى أجهزة الأمن الأسدية على مدار أعوام الثورة السورية، تجاه كلّ من يحمل في قلوبه وضميره حلم تحقيق أهداف الثورة، والمتمثلة بزوال النظام الدموي عن حياة السوريين. ومن هنا تأتي ضرورة وأهمية الكتابة المغايرة عن الكتابة الإخبارية التي عادة ما تتناول المعتقلات وما يدور فيها. ومن الضروري أن تغدو ظاهرة “أدب السجون” أداة تفكك المفاهيم والمعاني، لتعيد إنتاجها من جديد، عسى يتاح لها ملامسة معنى “المعتقل”، فربما تكون إحدى غايات “أدب السجون” الكشف عن حدث يحدث في الخفاء، في سراديب تحت الأرض، وحينما يمضي الكاتب للغوص في خفايا هذا الجحيم، إنما يحاول أن يستعيد حضور الضحية في اللحظات التي كانت تُعذّب فيها، ليجري تعذيبها على مرأى من الجميع، وربما بسياط الجميع هنا، مع استعادة أنين صراخهم وأوجاعهم وخيبات آمالهم، ووجودهم الفردي والجمعي إلى الوجود مرّة ثانية، كمحاولة لرد الاعتبار إليهم بوصفهم بشرًا،  تستحق آلامهم أن تخلد في نص روائي، ويستحق الجلاد، وما يقدم عليه من جرائم، أن يعرف به، بوصفه أيضًا كائنًا بشريًا، له هوية واسم وعنوان وملامح، وليس كائنًا مجردًا، فنظرًا لأهوال الجرائم التي يرتكبها هذا الإنسان الذي يمتهن التعذيب والجلد، نحيلها إلى كائن هلامي، افتراضي، عمومي، اذ ربما تعجز مخيلتنا عن أن تحيلها إلى إنسان معرف يشبهنا تمامًا إلى حد تطابق الصفات فيما بيننا، ومع خلاف أنّ غايته هنا  قهر الإنسان الآخر المشابه له، والنيل من كرامته،  والعبث بكيانه حد الموت.

إنّ ما يحدث داخل جدران المعتقلات السورية تعجز المخيلة البشرية عن توقع حدوثه على سطح هذه الأرض، وحينما ينفي السفاح  بشار الأسد وجود معتقلين في سجونه يكاد يراهن في سريرتها على احتمالية عدم تصديق العالم للفظائع التي ترتكب في معتقلاته، ومن هنا، أوحي إليه أنّ النكران صدق أيضًا، ولذلك ينفي أن تكون معتقلاته فضاءً لعمليات التصفية والتعذيب، لتأتي رواية “أدب السجون” هنا، كوسيلة لتكذب مزاعمه، لو أمكن لها ذلك، وتعمل على كسر تلك الجدران عبر المتخيل، لتخرج المخبوء فيها إلى العلن، ولكن ليس العلن الحالي، إنما المستقبلي، فالكل لديه في الوقت الراهن، وعلى الأقل، قائمة طويلة تشير إلى من قضوا نحبهم في المعتقلات السورية من فرط التعذيب، ولكن في المستقبل قد تختفي تلك القوائم، ويغيب التمحيص في مثل هذه الفظائع، والتفجع نتيجتها، وهذا يستدعي توثيقها في سياق أدبي ولغوي يراهن به، على أن يغري الأجيال القادمة للالتفات إليه..

قبل أن أعيش تجربة الاعتقال، تناولت المعتقلات السورية، في روايتي «لحظة العشق الأخيرة»، معتمدًا بذلك على ما كنا نسمعه عن تجارب المعتقلين من الأصدقاء والمعارف، لكني بعد أن عشت تجربة الاعتقال، ولامست بعضًا من أهوالها، وجدت اللغة تخونني للكتابة عما شاهدته هناك، وما تعرّض له المعتقلون من ويلات وعذابات، وربما كمحاولة لتعويض عجز الكتابة عن هذه الفظائع التي بصرتها، وقد كانت وظيفتي في المعتقل -إن جاز التعبير- “الإبصار”، حيث وضعوني في زاوية أرادوا منها أن أرى أكبر قدر من حالات التعذيب، ليتم تعذيبي بها، وربما هو ما ترك عطب في ذاكرتي البصرية إلى حد العماء.. وربما لهذا أتلصص على أعمال روائية لكتّاب سبق أن اعتُقلوا واستطاعوا التحرر من حالة العجز والصمت، ليلجوا عالم الكتابة، وهذا الذي ما زلت غير قادرٍ على فعله حتى الآن، لكوني أجد لغتي تخون عذابات المعتقل، وتعبث بجغرافية المعتقلات، لعدم قدرتها على رصد ما حدث، ويحدث فيها.


[1] «أجنحة في زنزانة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت، ودار السويدي للنشر/ أبو ظبي – حاز جائزة ابن بطوطة لليوميات).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate