اصلاح دينيحداثة و ديمقراطية

هاشم صالح كنموذج للتنويري السوري

الاستبداد الديني، أو اللاهوتي، أخطر أنواع الاستبداد على الإطلاق. فلا معنى لكل الديمقراطيات والثرثرات الجارية حولها ولا جدوى منها مادامت العقلية اللاهوتية مسيطرة على العرب، ومادام لا أحد يستطيع التجرؤ على نقدها وتفكيكها، وإزاحة هالة القداسة عنها فلن نصبح ديمقراطيين أبداً.

عل هذا النحو يمكن تلخيص الفكر الأساسي للمفكر والمترجم هاشم صالح.

الولادة والنشأة

وُلِد المفكر السوري هاشم صالح في مدينة اللاذقية عام 1950. وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم بعد ذلك درس مرحلته الثانوية في مدارس جبلة قبل أن ينتقل إلى جامعة دمشق لدراسة الطب أول الأمر، لكن لم يطل به حال دراسة الطب بعد حادثة يقول عنها المفكر: أنها كانت بمثابة صدمة بالنسبة له، حيث في أول مرحلة دراسية له كان أن تم أخذهم إلى قاعة التشريح حيث يجب دراسة جثة شخص، مما سبب له نوع من الانبهار والألم.

وبعد تلك الحادثة الابتدائية ترك دراسة الطب قبل أن يتوجه لدراسة الأدب على يدي أكبر أساتذة جامعة دمشق من أمثال شكري الفيصل وحسام الخطيب وحسين عباس، فأنهى مرحلة دبلوم الدراسات العليا من جامعة دمشق كلية الآداب، ليعمل بعدها معيداً في جامعة حلب.

نشأ هاشم صالح في منزل والده الذي كان شيخاً متشدداً نوعاً ما على المستوى الأخلاقي والمعرفي، ويقول المفكر عن تلك المرحلة العمرية، إنه تربي على الثقافة القرآنية منذ نعومة أظفاره، في بيئة شعرية أدبية قرآنية رغم ما تحتويه من التزامات أخلاقية عالية، فبرغم التشدد البيئي لدى والده فقد تفتح وعيه على بعض الكتب التي كانت موجودة في منزله ومنزل عمه الأكبر “الشيخ محمد”. حيث كان يقرأ في بداياته أعمال المتنبي والشريف الرضي وأبو تمام وابن الفارض والمعري، وتلك المرحلة الأولى التي خلقت منه شخصاً حساساً اتجاه الحياة وتعلقه الشديد بالشعر والأدب، وهذا ما كان أحد الأسباب التي دفعته لترك دراسة الطب بعد تجربة التشريح التي خاضها.

إن تجربة صالح تلك في فرنسا، ونشأته الأدبية الأخلاقية والقرآنية هي من جعلت منه فيما بعد أحد أهم مفكري التنوير العرب المعاصرين، بتلقيه العفوي التراث مع سطوة الفلسفة الحرّة فيما بعد، ذلك المزيج الذي تخمّر في عقله وقلبه قبل أن يخرج كفكر للعالم.

الدراسة الجامعية وتجربة فرنسا

أثناء تواجده في جامعة دمشق بدأ وعي هاشم صالح يتخذ منحى له علاقة بالأدب الأوروبي والفلسفة الحديثة، فكان من أشد المعجبين بجان بول سارتر، حيث قرأ جميع أعماله قبل سفره إلى فرنسا في عام 1976. يقول هاشم عن تلك الفترة: لم أكن أصدق بأني أعيش في المدينة ذاتها التي يعيش فيها سارتر.

عاش صالح في بداياته في فرنسا تجربة أقرب ما تكون إلى الحريّة الحرة التي كانت شعاره المأخوذ من آرثر رامبو، فكان يحاول أن يتخلص من السطوة الأخلاقية المتشددة التي نشأ عليها في بيئته، خاض تجارب أقرب ما تكون إلى الانفلاش منها إلى مفهوم الحرية الملتزم.

كانت تلك الحياة هي بمثابة رد فعل انتقامي اتجاه القمع الأخلاقي المحرّم الذي أنتهجه والده معه، والانفصال ما بين الكلام والفعل. ويقول صالح: ما جعلني أتمرّد على تلك البيئة وذلك الشيخ – التي استغرقتني قرابة أربعين عاماً – هو التناقض الذي أثّر فيّ جداً بعد حادثة وفاة أمي بطريقة تراجيدية، حيث توفيت حرقاً في المنزل وأنا كنت بعمر الثالثة عشر.

وبرغم ما كان والدي يعلمني إياه من أخلاقية الحياة والوفاء والالتزام والإخلاص والصوفيّة، فقد تزوج بعد وفاة أمي بأيام. تلك التجربة تركت في روحي أثراً طويل الأمد، لسلوك ذلك الشيخ الوالد، حيث شعرت بأن كل ما تلقيته من عبارات أخلاقية تلاشى في تلك اللحظة. وإن انفلاشي الأخلاقي بالمعنى الحرفي في فرنسا كان كردّ فعل وخلاص من ذلك الأثر العميق الذي تركه بي أبي.
إن تجربة صالح تلك في فرنسا، ونشأته الأدبية الأخلاقية والقرآنية هي من جعلت منه فيما بعد أحد أهم مفكري التنوير العرب المعاصرين، بتلقيه العفوي التراث مع سطوة الفلسفة الحرّة فيما بعد، ذلك المزيج الذي تخمّر في عقله وقلبه قبل أن يخرج كفكر للعالم.

الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون

حصل صالح على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون حيث ناقش رسالته عن الأدب والنقد العربي الأدبي عام 1982 بإشراف البروفيسور محمد أركون، ليتخصص فيما بعد بالعمل على ما أسماه جبهة الفكر العربي الإسلامي وجبهة الفكر الأوروبي. فعمل خلال عشرين عاماً تالية على ترجمة أعمال المفكر الجزائري محمد أركون، وكانت من أهم ترجماته (الفكر الإسلامي نقداً واجتهاداً. نزعة الأنسنة في الفكر العربي. الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. قضايا في نقد العقل الديني.. الخ).

عمل صالح بكتابة المقالات عن فلاسفة التنوير الأوروبي في مواجهة الأصولية، كانت تُنشر بحلقات متتالية بجريدة الشرق الأوسط الصادرة في لندن، إضافة لترجماته، كما ألّف العديد من الأعمال المهمة والتي تندرج كمؤلفات تنويرية، ومنها.. مدخل إلى التنوير الأوروبي. معضلة الأصولية الإسلامية. معارك التنويرين والأصولين في أوروبا. الإسلام والانغلاق اللاهوتي. مخاضات الحداثة التنويرية، وآخر أعماله كان الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، حيث ناقش فيها الأحداث السياسية التي شهدها العالم العربي مؤخراً.
عاش صالح فترات طويلة من حياته في فرنسا ما يقارب ثلاثة وثلاثين عاماً قبل أن ينتقل نهائياً ويستقر في المغرب.

تجليات فكر هاشم صالح

يتجلى فكر هاشم صالح بعدة نقاط أساسية، وأهمها هي سيطرة اللاهوت على الفكر الإنساني، ومعالجته تاريخياً للخلاص منه لإنشاء ثورة معرفية تتجلى في العالم الإسلامي كتلك التي حصلت في العالم المسيحي.

ينطلق هاشم بداية من تفنيد الخطأ المعرفي المتداول في الثقافة العالمية حول القطيعة التي جرت ما بين العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا. فبرأيه أن تلك القطيعة لم تحصل كما هو متعارف عليه، بل اتخذت بُعداً أسطورياً من جرّاء الانبهار بالثورة العلمية والفكرية التي جرت في أوروبا. بالنسبة له معظم مفكري عصر النهضة ظلوا مسيحيين في أعماقهم بالرغم من إعجابهم بالثقافة الوثنية لليونان والرومان. والنزعة الإنسانية كانت محصورة ببعض الدوائر المستنيرة للمثقفين، أما عموم الشعب فكانوا من جهة الأصوليين. وهذا ما ينطبق على الواقع الإسلامي من وجهة نظر صالح حالياً. فنحن فعلياً نعيش في العصور الوسطى، حتى أننا لسنا على مشارف نهضة ما.

يفسّر صالح تلك المرحلة (كمثال لإسقاط النموذج العربي الإسلامي)، أنه عندما حصل الإصلاح الديني البروتستانتي، انقلب الشعب إلى فئتين، فئة مع لوثر وفئة مع الفاتيكان، أما النخبة فقد بقيت مع الفلاسفة. فبالتالي فإن النهضة هي دائماً من صنع الأقليات المثقفة المستنيرة، بعدئذ ينتشر التنوير تدريجياً في أوساط الشعب.

تلك التجربة خلقت ما يسمى الاندفاع باتجاه البحث عن الحرية والوعي، فمشكلة الأديان الرئيسية هي بنظرتها للحياة على أنها باب عبور للآخرة، ومن هنا يصبح الإنسان عبارة عن شيء تهميشي من أجل فكرة الخلود، وانطلق المبدأ الأول بما يمكن التفكير به بعيداً عن المحرمات المقدسة.

ما الذي يمكن التفكير به (في المجتمعات الإسلامية) دون أن يقول أحد هذا مقدس ولا يجب النقاش به؟.

زرع بذور النهضة

إن الهدف الأولي لزرع بذور النهضة، هو معرفة ما يجب أن نفكر به، وهذا ما هو مستحيل بوجود الفئة الدينية الحاكمة التي تُشرّع باسم الله، لإبقاء الناس في حيز الجهل والحرب والفقر، لكن لنعيد التراث العقلاني إلى الواجهة وطرق التفكير المميز، لا بد لنا من السعي إلى انتصار التفسير التنويري للإسلام على التفسير الظلامي.

إن الأفكار التي بناها صالح من خلال ترجماته لأركون وبعض مؤلفاته، تنطلق لتكون بذور أولى في زمن انحطاط فكري حقيقي، إلى جانب عمالقة آخرين من أصحاب النظريات التنويرية كالجابري وأركون وطرابيشي.. الخ.

يمكن القول إن أعمال هاشم اتخذت هذا الطريق في تفسير الظلامية الإسلامية. في عام 2013 أصدر صالح كتاب بعنوان “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” وفيها تحدث صالح مطولاً عن الربيع العربي والانتفاضات التي جرت، ورغم جانبه السياسي، بقي صالح محافظاً على طرح رؤيته الشخصية في بحثه التنويري من خلال تلك الحركات، فيتحدث عن تجارب الربيع العربي، بأنه لولا استلام الإخوان والسلفيين لزمام الأمور، لما استطاع الناس إدراك أن أولئك المسيسون دينياً هم لا يحملون القداسة، إنهم بشر طبيعيون ولا يستطيعون تجاوز المنطق والحداثة. إن استلامهم للسلطة قد أزال عنهم الهالة والهيبة، وهو ما يقول صالح بصدده، أنه وضع الحقيقة أمام الجميع. استطاع الناس أن يروا بأولئك أنهم لا يستطيعون حل المشاكل بضربة عصا سحرية مختبئين خلف اسم الله. ثم اكتشف الناس شيئاً آخر، وهو أن تصوراتهم القديمة عن الدين تصطدم بالعالم الحديث وتسبب مشاكل تُعيد البشر إلى الوراء.

التقدم التنويري الضروري للإسلام

تلك التجارب يفسرها صالح بضرورة حدوثها للتقدم التنويري الضروري للإسلام، وإسقاط ما بقي من عصور الانحطاط التي تعانيها المجتمعات العربية والإسلامية.

إن الأفكار التي بناها صالح من خلال ترجماته لأركون وبعض مؤلفاته، تنطلق لتكون بذور أولى في زمن انحطاط فكري حقيقي، إلى جانب عمالقة آخرين من أصحاب النظريات التنويرية كالجابري وأركون وطرابيشي.. الخ.

يقول صالح: كل التراثات الدينية الكبرى ينبغي أن تتعرض للغربلة النقدية وإلا فلا يمكن أن نخرج من جحيم التعصب والأصولية واحتكار الحقيقة المطلقة وتكفير الآخرين، كل الآخرين. هذا شيء أصبح واضحا للكثيرين. العالم يطالبنا بأن نتحرك قليلاً، بأن نتحلحل، بأن ننقد التيار المتطرف والانغلاقي فينا. وهذا من حقه بعد كل تلك التفجيرات العنفية التي حصلت باسم الإسلام أو باسم فهم خاطئ للإسلام. نحن في قفص الاتهام الآن بسبب ليس فقط 11 سبتمبر، وإنما أيضا بسبب كل ما تلاها وسبقها. ولكي ندافع عن أنفسنا ينبغي أن نقدم تفسيرا آخر لديننا الحنيف غير التفسير الإخواني – السلفي الشائع والراسخ منذ مئات السنين. هذه هي المهمة الكبرى المطروحة على المثقفين العرب منذ الآن وحتى خمسين سنة قادمة. ولا أرى مهمة أخرى أكثر إلحاحا واستعجالا. إصلاح الإسلام أو تنوير الإسلام يعني فهمه على ضوء علم تاريخ الأديان المقارنة، وعلم الاجتماع الديني، والأنثربولوجيا الدينية، وفلسفة الدين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate