عن ضرورة الاصلاح الديني
عبد العزيز عبدالله القناعي
كثرة الحديث عن موضوع الإصلاح الديني في الإسلام أو تجديد الخطاب الديني الإسلامي دليل ومؤشر على أن هناك خللاً ما في المنظومة الإسلامية وخصوصاً في كتب التراث وتفسير القرآن وما يندرج تحتها من آلاف الكتب والمراجع التي خلقت لنا قائمة طويلة من مذاهب ونحل وملل إسلامية تحتفظ كل منها برؤيتها للإسلام وتقدّمه بالصورة التي تلائم تطلعاتها أو تحقق أهدافها السياسية والطائفية وحتى الاقتصادية. تعيش المجتمعات والشعوب العربية حاضرها بشكل متطرف وفي ظل أحادية المعرفة والتعليم والتوجيه، وتشهد ظاهرة انتشار الخرافات والفتاوي الدينية التي تقيّد تفكير الإنسان العربي، في واقع يصفه كثيرون بمصطلح “التخلف”. ومردّ ذلك إلى عوامل متعددة منها غياب حركة النهوض السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري منذ انتهاء عصر النهضة العربية، ومنها بقاء أنماط الثقافة الجامدة، ومنها استمرار مفاهيم الوصاية والنقل والخوف من التغيير، ومنها ما تحدث عنه الدكتور مصطفى حجازي، في كتابه “التخلف الاجتماعي وسيكولوجية الإنسان المقهور: مشكلة المجتمعات العربية”، من أن سياسة التعليم وعلاقات التسلط هما لب تخلف العقلية في العالم العربي. فلماذا بقيت مجتمعاتنا العربية والإسلامية عصية على التغيير والتجديد وعاجزة عن منافسة الدول المتقدمة؟ هذا السؤال ليس وليد اللحظة. سبق أن طرحه الأمير شكيب أرسلان في كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، ذاكراً الجهل والجبن والعلم الناقص وفساد الأخلاق وابتعاد المسلمين عن دينهم، كأسباب. وتتعدد الإجابات على السؤال عن أسباب تخلف مجتمعاتنا، إلا أن قضية الإصلاح الديني أو تجديد الخطاب الديني تحضر دائماً في هذا النقاش، خاصةً في الفترة الأخيرة التي شهدت انتشار تيارات الإسلام السياسي، ومنها الراديكالية.
مفهوم الإصلاح الديني
لا يُعَدّ مفهوم الإصلاح الديني حديثاً بل هو قديم. ونقرأ في “الموسوعة العربية” الصادرة عن “هيئة الموسوعة العربية” أنه بدأ كحركة دينية ظهرت في أوروبا في القرن السادس عشر ودعت إلى إصلاح الكنيسة وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة وتمخضت عن ظهور ما يُعرف بالكنائس الإنجيلية، وكانت استمراراً لمحاولات إصلاح كثيرة سابقة هدفت إلى تقويم بعض ممارسات الكنيسة الكاثوليكية والعودة بها إلى نقاء الإنجيل وبساطته.
حركة الإصلاح تميّزت عن سابقاتها بانشقاق زعماء الإصلاح عن الكنيسة وإصرارهم على أن يكون الإنجيل وحده، لا البابا ولا التقليد المسيحي المتوارث، هو المرجع الأعلى في الشؤون الدينية. وأدى اختلاف زعماء الإصلاح في الرأي، إضافة إلى الفروق الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية بينهم إلى ظهور أكثر من حركة إصلاح. وغدا أكثر من نصف سكان أوروبا منشقين عن الكنيسة الكاثوليكية في مدة لا تزيد على 40 عاماً، وانضوت شعوب بكاملها تحت لواء الكنائس البروتستانتية أو الإنجيلية، التي تعددت فرقها. وساهمت عوامل عدّة في عملية الإصلاح الديني في الغرب، منها وأهمها تلازم مسار الإصلاح الديني مع تغيّر كبير في العقلية الغربية بتأثير من فكر التنوير وفلاسفة النهضة الغربية، وكذلك بالانفتاحات العلمية والفكرية وظهور أفكار ومفاهيم العقد الاجتماعي والديمقراطية والعلمانية وظهور النزعة الإنسانية والعصر الصناعي… هكذا، تزعزعت مكانة الكنيسة وتراجع تحكمها في الأفراد، وتقلص نفوذها، وتجاوزت الشعوب الغربية مرحلة طويلة كانت الكنيسة خلالها عبئاً وعائقاً أمام تطلعاتها. ولكن هذا التغيّر لم يلغِ مكانة الدين، فقد احتفظ بمكانته الفردية كعلاقة شخصية لا تخرج عن حدود الاعتقاد الفردي مثله مثل أية فكرة أخرى، وأرسيت المجتمعات الغربية على أسس الديمقراطية والليبرالية والعلمانية باعتبارها منظومات تعتبر الإنسان القيمة الأخلاقية العليا.
الإصلاح الديني في الوطن العربي
وصل مفهوم الإصلاح الديني أو تجديد الخطاب الإسلامي إلى أدبيات المفكرين العرب والإسلاميين بعد حملة نابليون بونابرت على مصر التي نبّهت العرب إلى واقعهم المتخلف وابتعادهم عن التطور والتقدم الذي صنعته الحداثة الغربية، بينما هم في سبات عميق.هذه اللحظة التاريخية والمفصلية، ترددت في الأصداء دعوات إلى التفكر والتدبر في ما آل اليه حال العرب والمسلمين بعد برنامج الابتعاث الذي بدأه محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، إلى بريطانيا وفرنسا.
يُعرف بعصر النهضة العربية، وهي محاولات لم تثمر نهضةً عربية، كان على رأس المنادين بالتجديد وتقديم صورة حضارية عن الإسلام الشيخ محمد عبدة وجمال الدين الأفغاني، ولاحقاً ظهرت طروحات الشيخ علي عبد الرازق وصولاً إلى عصرنا الحديث الذي تزايدت فيه المطالبات بالإصلاح الديني، بعد ظهور التيارات الراديكالية الإسلامية وتقديمها صورة مرعبة عن الدولة الإسلامية المتخيلة التي تستند إلى القرآن وسيرة النبي محمد، حسبما تدّعي. في هذا السياق، قدّم الأكاديمي الراحل محمد أركون والمفكر المغربي محمد عابد الجابري مشاريع لنقد العقل العربي والمسلم، للوصول إلى حلول جذرية لأزمة التراث الإسلامي وموقعه في الشخصية العربية وسلوكها. كما قدم الدكتور محمد شحرور وحسن فرحان المالكي والشيخ عدنان إبراهيم وهاشم صالح العديد من الكتب والدراسات التي تصب في هذا المجال. ودعا كثيرون إلى تنقية التراث الإسلامي وإبعاد ما لصق فيه من تفسيرات وأحاديث اعتبروها مسيئة للنبي محمد ولا يمكن أن تشكل رافعة حضارية كونها تدعو إلى القتل البشع وغزو الأوطان وانتهاك حقوق المرأة وأمور أخرى تعجّ بها أدبيات ما زالت التيارات الإسلامية تتمسك بها باعتبارها الهدى النبوي.
لماذا فشل الإصلاح؟
لكن لماذا فشلت دعوات الإصلاح الديني وتجديد الخطاب الإسلامي في تقديم صورة مختلفة وحضارية عن الإسلام وتراثه ورموزه؟ ولماذا تحظى هذه الدعوات بدعم الحكومات العربية بدلاً من أن تدعم تلك الحكومات التيارات الديمقراطية والعلمانية التي تسعى إلى علمنة الدول وتقدم الشعوب ووضع الأديان في أماكنها الخاصة؟ هنا تماماً نجد الإجابة عن أسباب فشل دعوات الإصلاح الديني وإخفاقها في تحقيق مرادها. فتلك الدعوات والخطابات التي يبذل منظروها الجهد الكبير في مواءمة الإسلام مع الحداثة وإبعاد شبهات العنف عن النص الديني المقدس، ابتعدت تماماً عن عدة نقاط لم يجرِ تناولها بشكل صريح وهي: ـ الإصلاح الديني لن ينفع أبداً طالما أن العقل العربي المسلم لا يزال متمسكاً بالحقيقة المطلقة (الإسلام) بشكلها الموروث بل ويقدسها ويقاتل من أجلها ولا يقبل أي نقد يطالها. لذا فتجديد الخطاب الإسلامي يجب أن يتلازم مع تثوير العقول وتنويرها. ـ تطور وعي الشعوب العربية هو المدخل لتطور شكل الدين ومكانته. فكلما كانت الشعوب ديمقراطية وتؤمن بحرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف كلما كان النقد الفكري للإسلام أكثر سلاسة ومنفتحاً تأويلياً على الدوام وقابلاً لاستيعاب جميع القراءات. ـ الإصلاح الديني هو بمثابة تغيير إلى فكر ونهج ورأي جديد. وبينما استطاعت المسيحية تجاوز التفسيرات الحرفية للنصوص الدينية بشكلها القديم واعتناق تفسيرات تتطابق مع رؤية الإنسان الحديث، بقى الإسلام عصياً على هذا التحديث لوجود قوانين الردة والتجديف وسجن أو قتل كل مَن ينتقد الإسلام والذات الإلهية في غالبية الدول العربية والإسلامية. ـ لم يتم نقد الأسس الأولى للإسلام والمتمثلة بالوحي والذات الإلهية والقرآن وأحاديث النبي وصحابته. ونقد الأسس الدينية يمثّل المدخل إلى تفكيك الرواية الإسلامية من جذورها التاريخية إلى عصرنا الحالي لوضع الخطوات الصحيحة للإصلاح الديني. ولا يكفي أن ترتكز الخطوات الإصلاحية فقط على التراث والفتاوي والأحاديث النبوية، فهذا هروب وعجز عن مواجهة المنظومة الإسلامية برمتها.
الإصلاح الديني عملية يجب ألا تُناط فقط برجال الدين والفقهاء بل يجب أن يشارك فيها علماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد، نظراً لعدم حيادية رجال الدين في تناولهم لموضوع نقد الذات الإلهية والنبي محمد والقرآن. ـ يجب أن ينطلق مفهوم الإصلاح الديني من عقلانية راشدة، أي من مشروع إصلاحي يتناول مسار الإسلام منذ نشأته وصولاً إلى تطوره ومآلاته، لا أن يكون مجرد ردة فعل على أزمات تحدث بين فترة وأخرى، كظهور داعش وحزب الله والقاعدة وطالبان، لأن مثل تلك النماذج الإصلاحية ما هي إلا تنفيس عن غضب العنف داخل الإسلام وليست علاجاً يمنع تكرار عمليات الإرهاب الإسلامي. وفي الجانب السياسي والاجتماعي لعملية الإصلاح الديني، حظيت الدعوات إلى إصلاح وتجديد الخطاب الإسلامي بالدعم الكامل من قبل الأنظمة العربية بل، في بعض الدول، أصبح الإصلاح الديني شعاراً للحاكم. هذا التمسك المثير للريبة مرده إلى أن الأنظمة العربية تريد البقاء ضمن المنظومة الإسلامية بل وتدعيمها بقوة، باعتبارها الشرعية التي تعوّض غياب الديمقراطية والعلمانية في دولها، ولذلك تبقى عملية الإصلاح أسيرة المؤسسات الحكومية الروتينية ودعاة الدين المستفيدين من عطاءات الدولة وأموالها. في المقابل، تغيب النخب المثقفة عن دراسة موضوع الإصلاح الديني، إما خوفاً من خوض غمار التجربة وتداعياتها القانونية والاجتماعية عليها وتفضيلاً للسلامة أو ترفعاً عن واجباتها الوطنية. فقد ظل كثيرون من المثقفين بعيدين تماماً عن اقتحام المسكوت عنه للابتعاد عن المشاكل القانونية والتنمر الاجتماعي الذي يواجهونه في حال الدخول إلى عمق التفاصيل الدينية.
هل يمكن للإصلاح الديني أن ينطلق من داخل الإسلام؟
هذا السؤال هو المدخل الرئيسي لفهم مصطلح الإصلاح أو تجديد الخطاب الإسلامي. فالإصلاح هو تغيير في الفكرة والمفهوم والثقافة السائدة، والانتقال إلى مفاهيم أكثر عصرنة تتلاءم مع الواقع وتبعد العقل العربي عن الاستناد إلى النص الديني أو التراث لتبرير العنف والكراهية. و طالما
أن الإسلام يرفض بشكل قاطع التعرض لمفاهيمه ومبادئه الإساسية، فسوف يبقى بالتالي حاضنة لجميع القراءات المتطرفة المستندة إلى تاريخ كبير ومهول من الفظائع والجرائم التي ارتُكبت بحق الشعوب والدول خلال التاريخ الإسلامي. إذا ما أردنا الانطلاق بجدية في عملية تجديد الخطاب الإسلامي، فيتوجب علينا في البداية إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة علمية تبتعد عن الأسطوريات الغيبية والأحاديث المختلف عليها لصالح نظرة موضوعية تنطلق من العقل ومستجدات التحليل والبحث. وهذا لا يكون إلا إذا نظرنا إلى الإسلام وما يتعلق بمنظومته على أساس كونه نصوصاً تاريخية، فكما قال الدكتور نصر حامد أبو زيد: “ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر”. ما زال حضور العنف المرتكز على الإسلام طاغياً اليوم، وتكاد تكون له اليد العليا في تشكيل العقل العربي المسلم، وبالتالي كيف يمكن للإصلاح أن يأتي بثماره المرجوة طالما يستمر الإسلام ومؤسساته ومناهجه وسياساته في توريث نفس القيم المتطرفة الموجوده في النص المقدس وفي بطون الكتب الإسلامية منذ آلاف السنين؟ لم يقدّم التراث الإسلامي حتى اليوم صورة للإنسان المسلم المتحضّر. ونحن هنا لا نتكلم عن الاستئناءات الموجودة في بعض العرب والمسلمين الذين يمثلون رؤية حديثة للإسلام. ولكن كما يُقال، فإن الظاهرة الأعم هي الغالبة وهي ما نركز عليه في نقدنا وبحثنا حول عجز عمليات الإصلاح الديني عن تكوين الإنسان المسلم المثالي. شغلت كتب الاصلاح الديني ومؤتمراته الرسمية والخاصة مساحات شاسعة من الثقافة والتنظير وتقديم الحلول. ولكنها بالمقابل لم تحظَ بالتأييد أو القبول الشعبي الجماهيري لأن غالبية الشعوب لا تملك قرارات الإصلاح بل هي تنتظر المخلص أو المستبد العادل الذي ينقذها من أزماتها. ولأن فقه وتراث الإسلام منقسم على ذاته أصلاً، بقيت عمليات الإصلاح الديني مجزأة، طبقاً للمذاهب الإسلامية ورؤيتها حول مفهوم الإصلاح ومداه القانوني والتشريعي. الأزمة في الإسلام، وخصوصاً في ما يتعلق بنصوص القتال وعداء الآخر المختلف، هي أزمة جوهرية باعتبار أن تلك النصوص ليست أحاديث يمكن إبطالها وإنما هي نصوص مقدسة في القرآن. وهنا علينا أن نسأل دعاة الإصلاح: كيف يمكن مواءمة هذه النصوص مع القوانين الحديثة لحقوق الإنسان وما يتعلق بالمرأة والحريات. ولعل الدكتور محمد شحرور استطاع وبطريقة “ملتوية” تغيير قراءة بعض النصوص المقدسة لصالح فهم معاصر، وإخراجها من سياقها التاريخي إلى سياق الحاضر. وتلعب ضد مطالبات إصلاح الإسلام أفكار متناقلة تقول إن المسلمين سوف ينتصرون في آخر الزمان على كل الأمم والشعوب وسترتفع راية الإسلام على كل الكرة الأرضية بل في المجرات البعيدة، على حسب اعتقاد سائد وإيمان قاطع. كذلك، لا يمكن أن تنجح خطوات وعمليات الإصلاح الديني طالما أن علاقة العرب والمسلمين مع الله علاقة يسودها الخوف بدلاً من المحبة. فالإصلاح عملية تتأسس على مفاهيم التغيّر والأخلاق والاستمرار والتطور، بينما تبقى عقلية العرب والمسلمين محاطة بأسيجة دوغمائية منبعها الخوف من الله وعقاباته المختلفة في حال التفكير المغاير.
عاجلاً أو آجلاً
لنبدأ مع مقطع من مقال كتبه هاشم صالح حول هذا الموضوع، قال فيه: “أصبح واضحاً لكل ذي عينين أن العرب والمسلمين جميعاً لا يمكن أن يظلوا متعلقين بتراثهم بشكل عاطفي محض. عاجلاً أو آجلاً سوف تفرض العقلانية نفسها عليهم كما فرضت ذاتها على الشعوب المتقدمة. عاجلاً أو آجلاً سوف يجدون أنفسهم مدعوين للتخلي عن الفهم المتزمت لتراثهم وتبني الفهم المستنير المتصالح مع العصر. والسبب هو أن الفهم القديم المنغلق أصبح عالة علينا ويسبب لنا مشكلة مع العالم أجمع. وبالتالي فنحن على أبواب حيرة كبرى أو طفرة كبرى لا نعرف كيف ستحصل بالضبط. كل ما نعرفه هو أنه سيحصل شيء ما قريباً وأن الأمور لن تبقى على حالها”. ولكن دعوات الإصلاح الديني لن تنجح إلا إذا تغير الوعي العربي وآمن بأفكار الحداثة والعلمانية التي تضع الدين والمعتقدات في مجالها الخاص لتكون عمليات الإصلاح أكثر جرأة ومصداقية في الطرح والتحليل دونما أي خوف من أية سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية. والإصلاح ذاته عملية ديناميكية ليست مرتبطة بزمان ومكان ولا بدين محدد، ولكنه عملية مستمرة وفقاً لتطورات الزمن وتحديات واحتياجات العصر ومطالب الشعوب الحرة.
رصيف / موقع الحداثة