الانتخابات الديمقراطية :دراسة اكاديمية مختصرة
مفهوم الانتخابات الديمقراطية
تمهيد:
مفهوم “الانتخابات الديمقراطية”:
أولاً- متطلبات الانتخابات الديمقراطية
ثانياً – مقاصد الانتخابات الديمقراطية
1. التعبير عن مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة
2. اختيار الحكام
3. تسوية الصراعات السياسية بطرق سلمية
4. توفير الشرعية السياسية أو تجديدها
5. محاسبة الحكام
6. التجنيد السياسي
7. التثقيف السياسي
ثالثاً: معيار “حرية” الانتخابات
1. احترام مبدأ حكم القانون:
2. احترام مبدأ التنافسية:
3. ضمان حريات المعرفة والتعبير والاجتماع والإعلام:
4. حرية تشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن السلطة التنفيذية:
رابعاً: معيار “نزاهة” الانتخابات
1. حق الاقتراع العام
2. تسجيل الناخبين بشفافية وحياد
3. الحياد السياسي للقائمين على الانتخابات
4. قانون انتخابي عادل وفعّال
5. دورية الانتخابات
6. ضمانات أخرى:
قائمة مراجعة لمعايير نزاهة انتخابات الديمقراطية
ملاحظات ختامية:
قائمة بأهم المراجع
مفهوم “الانتخابات الديمقراطية”·
د/ عبدالفتاح ماضي
قسم العلوم السياسية – جامعة الإسكندرية
تمهيد:
تشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من بليون شخص في العالم يُدلون بأصواتهم في انتخابات ديمقراطية تنافسية لاختيار حكامهم وممثليهم في مؤسسات صنع السياسات واتخاذ القرارات.[1] فبعد موجات التحول الديمقراطي التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين تُجرى معظم دول العالم انتخابات من نوع ما، بيد أن نحو نصف دول العالم فقط تشهد انتخابات توصف بأنها ديمقراطية وتنافسية. أما بقية الانتخابات فلا توصف بذلك،[2] إذ طوّر الحكام أدوات وأساليب للتلاعب في عملية الانتخابات – أو ما يسمى في أدبيات السياسة “technology of manipulation” – بغرض تحقيق مقاصد غير تلك التي تُرجى من الانتخابات الديمقراطية، وعلى رأسها الحصول على الشرعية أمام الجماهير والتخفيف من حدة الضغوط المطالبة بالإصلاح واحترام حقوق الإنسان في الداخل والخارج. وفي المنطقة العربية لم تؤد الانتخابات التي تجريها بعض أنظمة الحكم إلى انتقال ديمقراطي واحد، ناهيك عن تحول ديمقراطي حقيقي.[3]
وقد أفضى استخدام الانتخابات والتعددية الحزبية الشكلية إلى تجاوز التقسيم التقليدي لنظم الحكم (نظم ديمقراطية بنماذجها المختلفة مقابل كل من النظم التسلطية والنظم الشمولية بأشكالهما المختلفة)، وظهور أشكال عدة لتصنيفات جديدة، حال “الديمقراطية الزائفة” “pseudo democracy ” ، أو “النظم المختلطة” “hybrid regimes”، أو “النظم شبه الديمقراطية” “semi-democracy”، أو “التسلطية الانتخابية” “electoral authoritarianism” أو”التسلطية التنافسية” “competitive authoritarianism”.[4]
ونظراً لأن آلية الانتخابات تستخدم في النظم الديمقراطية والتسلطية والشمولية لتحقيق مقاصد ووظائف متباينة، فإن هذه الورقة تستهدف الوقوف على المعايير التي يمكن من خلالها التفرقة بين الانتخابات الديمقراطية التنافسية وبين غيرها من الانتخابات التي لا يمكن وصفها لا بالديمقراطية ولا بالتنافسية. إن تحقيق هذا الهدف يمثل معياراً أساسياً من معايير التمييز بين النظم الديمقراطية وغيرها من النظم غير الديمقراطية وذلك بالنظر إلى أن آلية الانتخابات أضحت من أبرز الآليات التي يلجأ لها الحكام المستبدون في عالمنا المعاصر. إن التفرقة بين الانتخابات الديمقراطية والانتخابات غير الديمقراطية تحدد الحد الأدنى الذي على نظم الحكم الوصول إليه حتى يمكن وصفها بالديمقراطية، أو – على أقل تقدير – النظر إليها على أنها في طريقها إلى الديمقراطية.
مفهوم “الانتخابات الديمقراطية”:
يحتل مفهوم “الانتخابات الديمقراطية”، عند كثير من الباحثين، موقع الصدارة في النظم الديمقراطية وذلك منذ أن عرّف جوزيف شومبيتر الديمقراطية على أنها مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس في انتخابات حرة.[5] وعلى الرغم من اهتمام الكثيرين بهذا المفهوم عند حديثهم عن الديمقراطية، إلا أنه لا يوجد، حتى اليوم، تعريف متفق عليه بين المهتمين بالانتخابات، أو مجموعة من المعايير القاطعة التي تُحدد معالم الانتخابات الحرة والنزيهة، كما لا يوجد منهجية واحدة يمكن من خلالها وضع مؤشرات محددة وشاملة للانتخابات الديمقراطية.[6]
لقد وضع روبرت دال الانتخابات الحرة والنزيهة ضمن الشروط السبعة للشكل الديمقراطي من وجهة نظره، غير أنه لم يُقدم تعريفاً تفصيلياً للانتخابات الحرة والنزيهة، مؤكداُ على ضرورة أن يسبق إجراء تلك الانتخابات مجموعة من الحريات والحقوق الديمقراطية، معتبراً أن الترتيب المنطقي للأمور يأتي على النحو التالي: حرية الحصول على المعلومات من مصادر متعددة – حرية التعبير – حرية التنظيم وتشكيل مؤسسات مستقلة – إجراء انتخابات حرة ونزيهة. أي أن الانتخابات الحرة والنزيهة هي “ذروة الديمقراطية وليس بدايتها” عند دال، فالانتخابات لا تسبق الديمقراطية، وهي لا تنتج لا الديمقراطية ولا الحريات والحقوق.[7]
وفي الأدبيات العلمية التي تعنى بالديمقراطية والانتخابات في الغرب، حاول بعض الباحثين وضع تعريفات محددة للانتخابات الديمقراطية للحالات التي يدرسونها. ولعل من أبرز تلك الأدبيات وأكثرها شمولاً ما قام به ديفيد باتلر وآخرون، فالانتخابات العامة الديمقراطية تستند إلى شروط ستة، هي: حق التصويت العام لكل المواطنين البالغين، دورية الانتخابات وانتظامها، عدم حرمان أي جماعة من تشكيل حزب سياسي ومن الترشح للمناصب السياسية، حق التنافس على كل مقاعد المجالس التشريعية، حرية إدارة الحملات الانتخابية على وضع لا يحرم فيه القانون ولا وسائل العنف المرشحين من عرض آرائهم وقدراتهم ولا الناخبين من مناقشة تلك الآراء، وتمكين الناخبين من الإدلاء بأصواتهم وسط جو من الحرية والسرية وفرز الأصوات وإعلانها بشفافية وكذا تمكين المنتصرين من مناصبهم السياسية حتى وقت الانتخابات التالية.[8]
أما عبارة “انتخابات حرة ونزيهة”، الشائعة في جُل الدراسات التي تتناول الانتخابات، فقد ظهرت لأول مرة لوصف الاستفتاء الذي تم على استقلال ما كان يُعرف بأرض توغو (دولة توغو في غرب أفريقيا وجزء من دولة غانا اليوم) في عام 1956، ثم راحت منظمة الأمم المتحدة تستخدمها في حالات مشابهه بعد ذلك. وعلى الرغم من الاستخدام الواسع للعبارة، بل وعلى الرغم من الاهتمام الشديد بعمليات المساعدة في إدارة الانتخابات والإشراف عليها ومراقبتها منذ عام 1989، لم تضع الأمم المتحدة تعريفاً متفقاً عليه للعبارة.
وبشكل عام تدور مضامين الانتخابات الديمقراطية حول معيارين رئيسيين، الأول هو “حرية الانتخابات”، أي ضرورة احترام حريات الأفراد وحقوقهم الرئيسية، والثاني هو “نزاهة” عملية إدارة الانتخابات.[9] غير أن التجارب المعاصرة للدول الديمقراطية تشير إلى أن الانتخابات الديمقراطية التنافسية لا تُجرى إلا في نظم حكم ديمقراطية، إذ هي آلية من آليات تطبيق المبادئ الرئيسية للديمقراطية، وليس هدفاً في حد ذاتها. كما تعد الانتخابات الديمقراطية شرطاً ضرورياً وليس كافياً لنظم الحكم الديمقراطية، فمجرد إجراء الانتخابات الديمقراطية لا يعني أن نظام الحكم أصبح نظاماً ديمقراطياً. ومن هنا فإن هذه الورقة تتناول هذا الموضوع من خلال الوقوف على متطلبات إجراء الانتخابات الديمقراطية من جهة ومعايير الانتخابات الديمقراطية من جهة أخرى، وذلك على النحو التالي:
أولاً: متطلبات الانتخابات الديمقراطية، وتتمثل في الإطار الدستوري للنظام الديمقراطي.
ثانياً: معيار فعّالية الانتخابات الديمقراطية، ويعني أن للانتخابات مقاصد ووظائف ويترتب عليها مجموعة من النتائج الفعلية في نظام الحكم، وليست هدفاً في حد ذاتها.
ثالثاًً: معيار حرية الانتخابات الديمقراطية، ويتمثل في كون الانتخابات تُجرى في ظل قاعدة حكم القانون، وتتسم بالتنافسية، وتحترم الحقوق والحريات الرئيسية للمواطنين.
رابعاً: معيار نزاهة الانتخابات الديمقراطية، ويعني أن الانتخابات تتم بشكل دوري ومنتظم، وتتسم عملية إدارتها والإشراف عليها وإعلان نتائجها بالحياد السياسي والعدالة والشفافية.[10]
إن متطلبات الانتخابات الديمقراطية هي بمثابة الأساس لبنيان تلك الانتخابات، أما معاييرها الثلاثة فهي تمثل أعمدة ذلك البنيان، وذلك على النحو الذي يوضحه الشكل التالي:
متطلبات الانتخابات الديمقراطية ومعاييرها
الانتخابات الديمقراطية
فعالية الانتخابات
حرية الانتخابات
نزاهة الانتخابات
متطلبات الانتخابات الديمقراطية
أولاً- متطلبات الانتخابات الديمقراطية
يكاد باحثو السياسة يُجمعون على أن جوهر نظام الحكم الديمقراطي هو تنظيم عملية اتخاذ القرارات وعمل مؤسسات الحكم من جهة، وتمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية من جهة ثانية، وتنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالمواطنين من جهة ثالثة. وهذه الأمور الثلاثة هي ما يضمنه الإطار الدستوري لذلك النظام، أو ما يمكن تسميته “الدستور الديمقراطي”، الذي إن طُبقت نصوصه القانونية في الواقع، صار من اليسير وصف نظام الحكم بـ “النظام الديمقراطي”، بل وتسمية المواطن الذي يتمتع بالحقوق والحريات التي أقرها ذلك الإطار ويلتزم بالمسؤوليات والواجبات الملقاة على عاتقه بموجبه “المواطن الديمقراطي”.
ويمكن تلخيص مضامين ذلك الإطار الدستوري الذي يحدد المتطلبات الرئيسية للانتخابات الديمقراطية في الأسس العامة الرئيسية للديمقراطية، والتي تدور في مجملها حول:
1. تنظيم عملية اتخاذ القرارات وعمل مؤسسات الحكم من خلال الإستناد إلى مبدأ حكم القانون، أي تقييد سلطة الحكومة بدستور يخضع له الحكام والمحكومون على قدم المساواة ويوفر آليات محددة لصنع القرارات، وأخرى للمساءلة السياسية، وقيام نظام قضائي مستقل لحماية مبدأ حكم القانون وصيانة حريات الأفراد وحقوقهم والنظر في مدى دستورية القوانين. هذا فضلاً عن ضمان عدم خضوع السياسيين المنتخبين الذين يمارسون وظيفة السلطة السياسية لسيطرة أو مراقبة هيئات غير منتخبة كالمؤسسات العسكرية أو الأمنية أو الدينية، وكذا مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووجود آليات للتوازن بين تلك السلطات.
3. تنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالجماهير على أساس رابطة المواطنة، أي تمتع كافة فئات المجتمع بكافة الحقوق والواجبات على قدم المساواة، وتساوي فرص المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية أمام كافة المواطنين البالغين بلا أي شكل من أشكال التمييز على أساس الأصل أو اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. هذا فضلاً عن وجود ضمانات لحريات الأفراد وحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وضمانات دستورية وقانونية لحماية حريات وحقوق الأقليات والفئات الضعيفة في المجتمع. وهذا يعني أن الإطار الدستوري الديمقراطي يجعل من قاطني دولة ما مواطنين يتمتعون بحقوق وواجبات متساوية وفرصاً متكافئة للمشاركة في صنع القرارات السياسة وتولي المناصب العامة، وليسوا مجرد رعايا يتلقون قرارات الحكام وينفذونها.
ثانياً – مقاصد الانتخابات الديمقراطية
استناداً إلى الإطار الدستوري الديمقراطي السابق الإشارة إليه، وإلى تجارب الديمقراطيات المعاصرة، فإنه يمكن القول أن الانتخابات التي تشهدها الديمقراطيات المعاصرة ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق مقاصد أعلى.[13] ويرتبط بهذا ما يمكن تسميته “فعّالية” الانتخابات الديمقراطية، أي ما يترتب على الانتخابات من نتائج حقيقية ملموسة، أو ما تؤديه الانتخابات من وظائف فعلية في ضوء المقاصد التي من أجلها أجريت الانتخابات. ولعل أبرز مقاصد الانتخابات الديمقراطية ما يلي: (انظر الجدول رقم “1”، والذي يوضح قائمة مراجعة لمقاصد ووظائف الانتخابات الديمقراطية).
1. التعبير عن مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة: الانتخابات الديمقراطية تقوم بوظيفة التعبير عن مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، وتنفيذ آلية التمثيل النيابي، وذلك من خلال إتاحة الفرصة أمام الناخبين لممارسة أظهر صور المشاركة السياسية في عملية صنع القرارات، وهو الاقتراع العام. وهذا يعني أن الحكومة تستند في ممارسة مظاهر السلطة إلى عنصر التفويض الشعبي، أي أن الحكم ليس حقاً إلهياً كما في النظم الثيوقراطية، وليس حقاً موروثاً كما في النظم الوراثية، كما أنه لا يتم من خلال القهر والغلبة كما في النظم العسكرية والدكتاتورية. وبهذا يتحقق الفصل بين شخص الحاكم وبين السلطة التي هي وظيفة يؤديها الحكام لحساب الجماهير وبتفويض منهم وليس مِلْكاً يتولونها بغير قبول من المحكومين. وبهذا أيضاً يمكن التمييز بين النظم الديمقراطية وغيرها من نظم الحكم المستبدة. إن الربط بين مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة والانتخابات يحدد الطريقة التي يستمد من خلالها الحكام السلطة من الجماهير، وكذا الطريقة التي يمكن للجماهير من خلالها ممارسة حقها في مقاومة وتغيير من لا يُعبر عن آمالها ومطالبها. كما أن هذا الربط يُمكّن الإنسان من الإحساس بقيمته كمواطن مشارك في العمل العام وفي صنع القرارات وليس مجرد متلق ومنفذ لما يقرره صناع القرار.
في المقابل يستخدم بعض الحكام في الدول غير الديمقراطية آلية الانتخابات لتحقيق مقاصد تتناقض تماماً مع هذا المقصد، أي مع جوهر الانتخابات الديمقراطية الذي هو التعبير عن إرادة الشعب، فهدف هؤلاء يكون منصباً على إضفاء ما يظنونه شرعية شعبية على حكمهم المطلق. ولعل من أبرز النظم التي تبتعد عن هذا المقصد وتستخدم في الوقت نفسه آلية الانتخابات نظم الحكم التي تأخذ العلاقة بين الحكام والمحكومين شكل العلاقة بين “السيد وتابعه”، أو ما يسمى “patron & client”. إذ أفرزت هذه النظم أنواع عدة من الانتخابات غير الديمقراطية، أبرزها ذلك النوع من التصويت الفردي الذي يقوم على إجبار الأفراد على التصويت لصالح الحكام نظير عائد اقتصادي مادي غير سياسي، مثل النبيذ كما كانت الحال في كولومبيا، أو الأطعمة والملابس كما في النيبال في الخمسينيات، أو تقديم مبلغ نقدي معين، أو توفير وظيفة أو مجرد الوعد بالوظيفة حال الانتخابات المصرية عام 2005. وثمة تصويت آخر يتسم بأنه جماعي في أغلب الأحيان، وفيه تُنظم السلطة الحاكمة رحلات جماعية لفئات من المجتمع بغرض توجيهها نحو التصويت لصالح الحكام، وغالباً ما يصحب هذا النوع من الرحلات تقديم هدايا صغيرة، وذلك كما كانت الحال في البرازيل قبل عام 1964.[14] وفي الحالتين لا تعبر الانتخابات عن إرادة الشعب أو اختيارات الناخبين ولا عن آراء فردية، وإنما تعكس حقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم القائمة على التبعية المطلقة المستندة إما إلى خوف المشاركين (أو المدفوعين إلى المشاركة) من تنكيل السلطة وبطشها، أو تطلعهم إلى الحصول على مكسب مادي أو معنوي من جرّاء مشاركتهم. إنّ العنصر الحاكم لتلك المجتمعات هو عنصر الخوف والإكراه أو الطمع في مكاسب مادية أو معنوية، وليس الرضا والإقناع والعمل من أجل الصالح العام.
ويرتبط مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات بحق الشعوب في تقرير مصائرها وتحديد من يحكمها عبر صناديق الانتخاب دون تأثير مباشر أو غير مباشر من أي فرد أو مجموعة من الأفراد من داخل المجتمع أو من أية قوة أو هيئة خارجية. ولهذا فإن محاولات بعض القوى الدولية التأثير في نتائج الانتخابات في دول أخرى أمر يتنافى مع مبدأ الانتخابات الديمقراطية، من ذلك، مثلاً، محاولة الولايات المتحدة الأمريكية التحديد المسبق لنتائج صناديق الاقتراع في بعض الدول العربية بحيث تستبعد بعض التيارات، بل ومقاطعتها لحكومة السلطة الفلسطينية التي شكلتها حركة حماس في أعقاب فوزها بالأغلبية في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في يناير 2006.
2. اختيار الحكام: توفر الانتخابات الديمقراطية الطريقة التي يتم من خلالها اختيار الحكام بتفويض شعبي، وذلك من خلال انتقال السلطة إلى المرشحين الفائزين في الانتخابات، وذلك فيما يتصل برئاسة السلطة التنفيذية أو أعضاء المجالس التشريعية النيابية، أو الاثنين معاً، وذلك وفقاً للقواعد ذات الصلة في النظامين السياسي والانتخابي. فعلى سبيل المثال، تفرز الانتخابات في الديمقراطيات الغربية المعاصرة سلطة تشريعية تكون مسؤولة أمام هيئة الناخبين وسلطة تنفيذية تكون مسؤولة إمّا أمام الناخبين مباشرة – كما منصب رئيس الجمهورية في النظم الرئاسية وشبه الرئاسية – أو أمام هيئات نيابية منتخبة كما الحال بالنسبة للوزارات في النظم البرلمانية أو شبه الرئاسية. هذا فضلاً عن اختيار المسؤولين بالانتخاب في بعض المجالس الإقليمية والمحلية في جُل الديمقراطيات المعاصرة. وفي النظم البرلمانية ذات نظام الحزبين الكبيرين، يُعد اختيار المجلس النيابي بالانتخاب اختياراً غير مباشر للسلطة التنفيذية، فزعيم الحزب أو الكتلة التي تحظى بالأغلبية في المجلس النيابي يكون المرشح لمنصب رئيس الوزراء، وذلك كما الحال في النظام البريطاني.[15] وفي الديمقراطيات المعاصرة لا يُفترض بالضرورة أن يقوم نواب المجالس النيابية بالعمل وفقاً لرغبات محددة للناخبين، إذ أن جوهر عملية الانتخابات هو ما يسمى نظرية التفويض العام “popular mandate”، أي تفويض هؤلاء النواب قدراً كافياً من السلطة لاقتراح سياسات واتخاذ قرارات، وذلك تبعاً للأوضاع والمتغيرات التي يواجهونها أثناء فترة عملهم كنواب عن الشعب، وبغرض تحقيق ما يرونه متوافقاً مع المصالح العامة للناخبين.[16]
وتضمن المجالس التشريعية النيابية – التي تأتي بها الانتخابات الديمقراطية – التعددية السياسية، وذلك من خلال تمثيل كافة التيارات السياسية الرئيسية في المجتمع وتمثيل أفضل للنساء والأقليات في الدول ذات التعددية العرقية أو اللغوية أو الدينية، وذلك وفقاً لقواعد النظامين السياسي والانتخابي المعمول بهما في الدولة. وذلك على عكس الحال في الانتخابات التي يجريها الحكام المستبدين في النظم غير الديمقراطية التي غالباً ما تنتج هيمنة شبه مطلقة في البرلمانات من قبل الحزب الحاكم (أو بالأصح “حزب الحاكم”[17]) أو الجبهة الحاكمة وذلك حال انتخابات سنغافورة وكوريا الشمالية ومصر وتونس وسوريا.
3. تسوية الصراعات السياسية بطرق سلمية: توفر الانتخابات آلية للتداول على السلطة وتغيير مركز القوة وإمكانية تقلد قوى المعارضة – حال فوزها في الانتخابات – الحكم بدلاً من الحكومة القائمة.[18] أي أن الانتخابات هي آلية لتسوية الصراعات السياسية في الدولة الحديثة بطرق سلمية، وهي تؤدي إلى قبول كافة المتنافسين على المناصب السياسية المختلفة نتائج الانتخابات والتسليم بشرعية الفائزين، ولاسيما المتنافسين الخاسرين في الانتخابات. ولذا فالنظام الديمقراطي لا يسمح بتغيير الحكومات بطرق غير الاحتكام إلى أغلبية أصوات الناخبين، كالانتقال العنيف للسلطة بانقلاب عسكري أو ثورة مسلحة بشكل مباشر، كما لا يمكن إقصاء حكومة جاءت باختيار الناخبين في انتخابات حرة ونزيهة بشكل غير مباشر كما دأبت المؤسسة العسكرية التركية على القيام به أكثر من مرة، وحال ما قام به الجيش في الجزائر مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
أما في النظم غير الديمقراطية، فتتسم الانتخابات بأن نتائجها تكون معروفة مسبقاً، وليس ثمة إمكانية لتغيير مركز القوة السياسية، وذلك ليس لثبات آراء الناخبين وإدراكهم للبدائل المطروحة، وإنما نتيجةً للآليات التي يُطورها الحكام للتأثير على أصوات الناخبين إن بالترهيب والعنف ومنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم، أو بالترغيب وشراء الأصوات، أو بالتلاعب في نتائج الانتخابات، أو بالتشبث بالسلطة وتجاهل مقصد التداول على السلطة بحجة عدم وجود بديل صالح للحكم أو إدعاء معاداة قوى المعارضة لمبادئ الديمقراطية وذلك كما الحال في أكثر من بلد عربي. وهذا كله يتناقض تماماً الديمقراطية التي عرّفها شومبيتر على أنها إعطاء الناس فرصة قبول أو رفض الحكومة القائمة.[19]
4. توفير الشرعية السياسية أو تجديدها: فالانتخابات تقوم بوظيفة توفير شرعية شعبية للحكومة المنتخبة أو تجديد شرعية الحكومة القائمة. فعن طريق الانتخابات الديمقراطية يصل إلى مواقع صنع القرار أولئك الذين يحظون بقبول الناخبين.[20] فالشرعية تستند في النظم الديمقراطية إلى أن الحكومة المنتخبة تعمل في إطار المبادئ الديمقراطية وتخضع لإرادة الشعب من خلال آلية الانتخابات التنافسية والدورية. وهذا بالطبع بجانب وسائل أخرى حال وجود إطار دستوري يحترمه الجميع، وآليات لمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم، وآليات للمشاركة السياسية، وصحافة حرة ومستقلة، واستقلال قضائي، والتمتع باستقرار سياسي واقتصادي. كما توفر الانتخابات الديمقراطية آلية لتجديد شرعية الحكومات القائمة، فحكومات الدول الديمقراطية قد يعتريها الضعف مع مرور الوقت، ومن ثم تحتاج إلى تجديد شرعيتها وسط ناخبيها. وهنا يستطيع النظام الديمقراطي – عن طريق آلية الانتخابات التنافسية الدورية – أن يُجدد شرعية الحكومات القائمة ويعزز من الدعم الذي يوفره الناخبون لمَنْ هم في مواقع صنع القرار. إنه التجديد الذاتي لشرعية النظام الديمقراطي عن طريق الانتخابات الديمقراطية.[21]
وهذا عكس الحال في النظم غير الديمقراطية التي طوّر حكامها أساليب عدة لإضفاء شرعية غير حقيقية على حكمهم المطلق، ومن هذه الأساليب نظام الحزب الواحد الذي تطبقه الصين وكوريا الشمالية اليوم، وطبقته المكسيك إبان حكم الحزب الثوري حتى عام 2000 وغيرها من دول المنظومة الاشتراكية وبعض الدول العربية، وحال التستر وراء إصلاحات اقتصادية لتأجيل الإصلاح السياسي، أو التستر وراء أفكار إيديولوجية أو قومية أو صراعات خارجية، [22] أو حتى اللجوء إلى وسيلة الانتخابات ذاتها. ولا شك أن حاجة كل نظم الحكم إلى قدر معين من الشرعية هي التي تدفع الحكام غير الديمقراطيين إلى ابتداع تلك الأساليب للحصول على ذلك القدر من الشرعية وسط شعوبهم.
5. محاسبة الحكام: للانتخابات مقصد هام هو محاسبة الحكام ومساءلتهم وقت الانتخابات إنْ من خلال تقويم برامج المتنافسين قبل الانتخابات، أو عن طريق مكافأة، أو معاقبة، السياسيين إذا ما أرادوا الترشح للمرة الثانية. وهذا المقصد يُعد واحداً من أبرز مقاصد الانتخابات الديمقراطية في النظم النيابية المعاصرة، وأحد الآليات الرئيسية التي يمكن من خلالها التأكد من أن الحكومة المنتخبة تستجيب بانتظام لمطالب الناخبين وترعى مصالحهم المختلفة. وقد اهتم الكثير من خبراء السياسة بمناقشة مجمل الجوانب المتصلة بالمساءلة الانتخابية، أي مساءلة الحكام عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة بصفة دورية، وجعْل بقائهم في مواقعهم مرهون بأصوات الناخبين في تلك الانتخابات.[23]
ولأن هذا النوع من المساءلة يعد محاسبة للمسؤولين عما فعلوه في السابق أو “hoc measure–post”، فإن آلية المحاسبة هي انتخابات التجديد أو الحصول على فترة جديدة وليس الانتخابات نفسها. ولهذا فالمساءلة هي أحد الأسباب الأساسية وراء السماح بحق الترشح لأكثر من فترة واحدة في جُل المناصب السياسية التي تتم بالانتخاب، إذ أن مقصد المساءلة لن يكون ممكناً بغير هذا الحق.[24] وبجانب هذا النوع من المساءلة ثمة وسائل تستهدف مساءلة الحكام قبل اختيارهم، كأن يخضع المتنافسون على منصب ما لتقدير وحكم الناخبين قبل إجراء الانتخابات من خلال وعودهم الانتخابية وحملاتهم الدعائية والانتخابية. كما أن ثمة حالات يُلزم فيها القانون الحكام باستشارة الناخبين عن طريق الاستفتاءات قبل اتخاذ القرار، وذلك حال القرارات المتصلة بتعديل الدستور أو حال بعض القرارات المصيرية كالانضمام إلى (أو الانسحاب من) تكتل إقليمي أو منظمة دولية، وغير ذلك.[25]
6. التجنيد السياسي: تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تعبوي عام، فهي مصدر رئيسي من مصادر التجنيد السياسي ووسيلة هامة من وسائل المشاركة السياسية. ففي النظم الديمقراطية المعاصرة عادة ما يقوم السياسيون وقادة الأحزاب والكتل الانتخابية بمهمة اختيار المرشحين للمناصب السياسية وإعداد البرامج السياسية لمواجهة المشكلات والتحديات العامة التي تواجهها مجتمعاتهم. ولذا فالانتخابات تلعب دوراً محورياً في إعداد وتدريب السياسيين والقادة وتأهيلهم لمناصب أعلى الأمر الذي يُسهم في تجديد حيوية المجتمع ويضمن مشاركة عناصر جديدة في وضع السياسات وصنع القرارات.
وعلى العكس من ذلك نجد المجتمعات التي لا تجرى فيها انتخابات ديمقراطية غير قادرة على تجديد حيوية المجتمع ولا الدفع بعناصر جديدة إلى مواقع صنع القرارات، إذ يظل المجتمع لفترات طويلة تحت سيطرة حزب أو جماعة ما أو حتى دكتاتور فرد، فتفقد أجيال بالكامل الفرصة في المشاركة في العمل السياسي وصنع القرار. وما الانتخابات التي يجريها الحكام في بعض تلك المجتمعات تحت مسمى “الانتخابات البرلمانية” أو حتى “الانتخابات الرئاسية” إلا وسيلة للسيطرة من خلال ترشيح الموالين والأتباع وضمان فوزهم بعد التلاعب بقوانين وإجراءات الانتخابات في جميع مراحلها بدءاً من الترشيح ومروراً بالتصويت وانتهاءً بفرز النتائج وإعلانها. وليس من المستغرب والحال هكذا أن ينحصر دور هؤلاء على تبرير تصرفات الحكام وسن القوانين التي تضمن لهم البقاء في الحكم واستمرار سيطرتهم على مقاليد الأمور. إن هذا النوع من الانتخابات ليس وسيلة للتجنيد السياسي والمشاركة السياسية وإنما هو أداة للسيطرة على المجتمع وحرمانه من تجديد ذاته، وللحيلولة دون بروز سياسيين وقادة جدد يتنافسون على مواقع السلطة.
7. التثقيف السياسي: تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تثقيفي عام، فهي تشارك – مع وسائل وقنوات أخرى – في تثقيف المواطنين بالمسائل المتصلة بالعمل العام والشؤون السياسية قبل وأثناء عملية الانتخابات، وذلك من خلال إذاعة وإعلان البرامج المختلفة للمرشحين والأحزاب، ومواد الدعاية الانتخابية خلال فترة الانتخابات، الأمر الذي يتيح الفرصة أمام الجماهير للإطلاع على ومناقشة المشكلات والتحديات التي يواجهونها. ولذا ففي الدول الديمقراطية المعاصرة هناك علاقة طردية بين مستوى الوعي والثقافة والتعليم من جهة ومستوى المشاركة في الانتخابات من جهة أخرى.
وعلى العكس من ذلك تجد تلك العلاقة سلبية في الكثير من الدول غير الديمقراطية، فالانتخابات لا تُجرى على أساس الأفكار والبرامج السياسية التي تعالج الشأن العام، وإنما على أساس الأشخاص وأداء الخدمات والمصالح الشخصية. ولهذا يعزف المتعلمون والمثقفون عن المشاركة فيها، وتؤدي الانتخابات أشكالاُ أخرى من الوظائف. ففي مصر، على سبيل المثال، هناك عبارة “نائب الخدمات” تعبيراً عن الخدمات والتسهيلات التي يقوم بها النواب بمجرد تقلدهم لمهامهم في البرلمان لأبناء دائرتهم ومعارفهم.
ثالثاً: معيار “حرية” الانتخابات
يعنى معيار “الحرية” احترام الحقوق والحريات السياسية الرئيسية كحرية الحركة، وحرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية المشاركة في التصويت، وغيرها، والواردة في مجموعة من الوثائق والاتفاقات الدولية،[26] وعدد من الوثائق الإقليمية.[27] وهذه الحريات تتفق مع الأمور التي اعتبرها دال شروطاً مسبقة لما أسماه البولارشية. أي أن معيار “حرية” الانتخابات يُشكل، في نفس الوقت، أحد متطلبات الانتخابات الديمقراطية.[28] وفي تصورنا فإنه يمكن أن نضيف إلى تلك الحريات والحقوق بعديْن جديدين: الأول أن تُجرى الانتخابات في ظل حكم القانون، والثاني أن تتسم الانتخابات بالتنافسية. (انظر الجدول رقم “2” الذي يتضمن قائمة مراجعة لمعايير حرية انتخابات الديمقراطية).
1. احترام مبدأ حكم القانون: لعل أول وأبرز معايير حرية الانتخابات الديمقراطية في النظم الديمقراطية أن تلك الانتخابات لابد أن تحترم مبدأ حكم القانون”rule of law”، الذي يعني أن ممارسة السلطة بشكل شرعي لا يتم إلا من خلال خضوع القائمين عليها والمحكومين على قدم المساواة إلى قانون مسبق. إنه مبدأ سيادة القانون بدلاً من سيادة الملوك والأمراء، وطاعة القانون بدلاً من الامتثال لقرارات الأفراد. ويعد هذا المبدأ من أبرز السمات التي أظهرت صورة الدولة المعاصرة على غيرها من صور المجتمعات الإنسانية، وهو أداة لتفادي استبداد الحكام بالسلطة، ووسيلة لردع أي تدخل في حريات الأفراد من قبل السلطة.[29]
ومما لا شك فيه إن خضوع الحكام والمحكومين على قدم المساواة لقانون مسبق هو اللبنة الأولى في عملية الانتخابات الديمقراطية التنافسية. فمن مقتضيات مبدأ حكم القانون أن تُجرى الانتخابات التنافسية في ظل قانون مسبق يحدد بوضوح واجبات وحقوق المواطنين، حكاماً ومحكومين، ويُرسي القواعد التي على أساسها يتم إجراء الانتخابات بدءاً من تحديد مَنْ يحق له الترشح، وكيف يمكن التقدم للترشح، مروراً بالقواعد التي تُنظم الحملات الانتخابية من النواحي الإدارية والقانونية والمالية والإعلامية، وتلك التي تُنظم حق الاقتراع وأماكنه وكيفيته، وانتهاءً بالمسائل المتصلة بتنظيم يوم الانتخابات، والإدلاء بالأصوات، وفرز الأصوات وإعلانها، وتمكين الفائزين من تقلد مناصبهم في الهيئات النيابية. ومبدأ حكم القانون يصون حريات وحقوق الأقليات، ويقف بالمرصاد لأية ممارسات تتسم بالتمييز على أساس اللغة أو العرق أو الأصل أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية، الأمر الذي يحقق الاستقرار ويجنب النظام مظاهر العنف الذي غالباً ما تجتاح المجتمعات التي لا تقوم على مبدأ سيادة القانون أو يُطبق فيها القانون بازدواجية تضر بحريات وحقوق الأقليات أو فئات معينة.
وقد أفرزت بعض تجارب التحول الديمقراطي في العقدين المنصرمين حالات لدول أجرت انتخابات ديمقراطية تنافسية قبل إنشاء المؤسسات الرئيسية للدولة الحديثة مثل حكم القانون، مؤسسات المجتمع المدني، استقلال القضاء، حكم مقيد بدستور عصري، وذلك حال ما حدث في روسيا الفيدرالية في التسعينيات من القرن العشرين، فمع ضعف مؤسسات الدولة استطاع الرئيس – المنتخب ديمقراطياً – أن يجمع سلطات واسعة في يده. وفي أفريقيا أدى ضعف مؤسسات الدولة المدنية وغياب حكم القانون إلى وجود تهديدات عدة للتجارب الديمقراطية الناشئة يأتي على رأسها تدخل الجيش وتدني معدلات الدخول وتفشي المشكلات العرقية والحدودية والحروب الأهلية.[30] وثمة انتخابات قد يصفها البعض بالديمقراطية، بيد أن هناك فئات أو جماعات معينة تخضع لتمييز عنصري دون غيرها من الفئات والجماعات استناداً إلى القانون ذاته أو إلى الممارسات الفعلية للقائمين على القانون. فانتخابات جنوب أفريقيا إبان الحكم العنصري كانت توصف بأنها ديمقراطية في مؤشري قياس الديمقراطية “Polity IV” و”Freedom House”، وغيرهما من مؤشرات قياس الديمقراطية.[31] كما أن إسرائيل، التي توصف بأنها ديمقراطية في تقارير ذينك المؤشرين أيضاً،يعتبرها بعض الباحثين الإسرائيليين والغربيين والعرب بعيدة تماماً عن المعايير الحقة للديمقراطية، وذلك بالنظر إلى حالة الأقلية العربية في إسرائيل.[32]
2. احترام مبدأ التنافسية: أي وجود تنافس حقيقي بين مرشحين متعددين أو برامج مختلفة. ويتضمن هذا المعيار أمرين رئيسيين، هما: المعيار الكمي الصرف وهو ضرورة ألا تقتصر الانتخابات على مرشح واحد فقط، كما كانت الحال مع النظم الماركسية ذات نظم الحزب الواحد في الإتحاد السوفيتي السابق ودول شرق أوروبا والعديد من دول أفريقيا وآسيا قبل موجات التحول في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.[33] وقد أفرزت بعض التجارب انتخابات ذات مرشحين متعددين، لكن دون أن تُترك للناخبين حرية الاختيار من بين بدائل حقيقية، إذ تمارس السلطة أنواعاً متعددة من الترغيب، أو الترهيب، أو التزوير، بُغية ضمان فوز مرشحي تيار الحكومة فقط، وذلك كما كانت الحال في بعض نظم الحزب المسيطر والنظم ذات التعددية الزائفة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وغيرها.[34] كما قد يكون هذا النوع من الانتخابات ذات المرشحين المتعددين غير تنافسي نظراً لهيمنة الحزب الحاكم على مرشحي التيارات الأخرى، كما كانت الحال في مصر وإسبانيا في السبعينيات من القرن الماضي.[35]
أما المعيار الثاني فهو كيفي، أي ضرورة توفر بدائل متعددة في التنافس الانتخابي،[36] أي أن الانتخابات التنافسية الحرة لا بد أن توفر أمام الناخب اختيارات وبرامج متعددة ومختلفة. فتشابه البرامج الحزبية أو تقاربها يُقلل من درجة التنافسية التي يجب أن تتمتع بها الانتخابات الديمقراطية، ولقد دفع تقارب برامج الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة في كثير من الانتخابات الرئاسية التي تجرى هناك الكثير من الباحثين إلى النظر إلى الانتخابات الأمريكية على أنها شبة تنافسية.[37] كما أن هناك انتخابات تسود فيها جبهات قومية مع سيطرة الحزب الحاكم، وذلك كما كانت الحال في بولندا وألمانيا الشرقية إبان الحكم الشيوعي.[38]
وبشكل عام فقد تهدد الممارسات الفعلية لبعض الحكومات مبدأ التنافسية، وذلك من خلال تدخل الحزب الحاكم ضد الأحزاب المتنافسة ووضع قيود وعراقيل قد تتسم بالشرعية القانونية حال ما حدث في البرازيل بعد عام 1964 وإيران قبل عام 1975، ومصر منذ 1976. كما أن بعض النظم تقوم بوضع عراقيل إجرائية لمنع نشوء أحزاب أو جمعيات أهلية تنافس الحكومات القائمة، وذلك حال الحظر الذي تفرضه السلطات الحاكمة في مصر وتونس على أنشطة جماعة الأخوان المسلمين والتيار الإسلامي بشكل عام، ومثله الحظر الذي تفرضه إيران على الأحزاب الوطنية. هذا بجانب قيام بعض النظم بترشيح مرشحين متعددين من حزب واحد، كما كانت الحال في نظام فرانكو في أسبانيا ونظم الحزب الواحد في أفريقيا وشرق أوروبا.[39]
وقد تُجرى انتخابات في إطار قانون يُحدد ملامحها العامة بشكل ديمقراطي، بيد أن واقع المجتمع نفسه قد يجعل منها غير تنافسية. ففي كولومبيا لم يستند الصراع بين الليبراليين والمحافظين إلى أساس سياسي وبرامج سياسية مختلفة بقدر ارتباطه بعوامل تقليدية تضرب بجذورها في المجتمع الكولومبي. كما أن التعددية الحزبية في نيجيريا ليست في جوهرها تعددية سياسية على أساس البرامج والأفكار، وذلك في ضوء محاولة كل حزب حصر نشاطه في منطقة معينة وتجاه أقلية عرقية محددة.[40] وفي العراق اليوم – في أعقاب الغزو الأمريكي لها – فرْز عرقي ومذهبي تشتد حدته يوماً بعد يوم، والانتخابات التي أجريت هناك لم تُفرز “قوى سياسية” تعبر عن المصالح العامة المشتركة للشعب العراقي بقدر ما أفضت إلى تقسيم البلاد على أساس طائفي وعرقي، الأمر الذي قد يتطور إلى حرب أهلية وليس إلى ديمقراطية نيابية.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن عنصر التنافس هذا ليس مطلقاً، فثمة قيود ترد عليه حتى في أعرق النظم النيابية ذات التعددية الحزبية من ذلك، على سبيل المثال، تمتع بعض الأحزاب بالإمكانات الضخمة، المادية والتنظيمية، الأمر الذي يُمكنها من حشْد أعداد كبيرة من المؤيدين، وذلك عكس الحال مع الأحزاب الصغيرة ذات الإمكانات المحدودة. كما أن هناك الكثير من القيود القانونية المفروضة على أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الشيوعية في دول ديمقراطية مثل فرنسا. هذا إلى جانب أن بعض الدول تفرض حظراً قانونياً على الجماعات التي تستند إلى نزعات انفصالية.[41]
3. ضمان حريات المعرفة والتعبير والاجتماع والإعلام: تعد حماية حريات الأفراد وحقوقهم الرئيسية، ولاسيما حريات المعرفة والتعبير والاجتماع والإعلام، من معايير حرية الانتخابات الديمقراطية. وتنصرف حرية المعرفة إلى حق الناخبين في معرفة ومناقشة آراء وأفكار وبرامج كل المرشحين في الانتخابات دون قيد أو شرط أو خوف من التعرض للأذى من السلطات. ويتطلب هذا ضمان حق المرشحين للمناصب السياسية في الإعلان عن أفكارهم وبرامجهم والترويج لها بين الناخبين دون قيود أو معوقات، وكذا حق عقد الاجتماعات والمؤتمرات الانتخابية والتجمعات الجماهيرية وذلك دون تمييز أو قيود من قبل السلطة. ويرتبط هذا بحق كل المرشحين في الحصول على فرصاً متساوية في استخدام موارد الدولة ووسائل الإعلام المختلفة لعرض برامجهم وآرائهم بحرية ودون خوف من بطش السلطة التنفيذية. وقد أثارت هذه الحريات الكثير من النقاش حول ضرورة ضمان حد أدنى من هذه الحقوق، ولاسيما حق استخدام وسائل الإعلام وعقد المؤتمرات الانتخابية لكل المرشحين، الأغنياء منهم والفقراء، عن طريق تخصيص الإعتمادات المالية اللازمة لهذا الغرض.[42] إن الانتخابات الديمقراطية في النظم الديمقراطية المعاصرة لا تسمح بالممارسات التي اعتادت عليها شعوب الكثير من دول العالم الثالث مثل منع المعارضين من عقد مؤتمرات انتخابية، أو من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية، أو وضع قيود على حرية التعبير والمناقشة، أو التمييز ضد مرشحي المعارضة.
4. حرية تشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن السلطة التنفيذية: ويرتبط بعنصر التنافسية ضرورة ضمان حرية تشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن سلطة التنفيذ من أحزاب وتكتلات سياسية وغيرها، وكذا ضمان حرية الترشح في الانتخابات. وهذا يعني عدم وجود قيود رسمية “de jure” أو فعلية “de facto” على إنشاء تلك المنظمات والتنافس على المناصب السياسية والمقاعد النيابية.[43] ومن هنا فإن الانتخابات الديمقراطية لا يجب أن تشهد ممارسات مثل إقصاء فئة أو جماعة ما من حق الانتظام في حزب أو تكتل سياسي أو الترشح لمناصب سياسية وذلك مثلما فعل الحزب الحاكم في المكسيك قبل عام 2000 حينما أقصى الأحزاب الدينية والجهوية والمستقلين من التنافس الانتخابي أو مثلما فعل حكام كينيا وزامبيا وكوت ديفوار عندما منعوا المنافسين الحقيقيين من فرصة الترشح أو مثلما الحال الآن في بعض الدول العربية التي تحظر على التيارات السياسية الإسلامية أو الوطنية تشكيل أحزاب سياسية. كما لا تشهد الانتخابات الديمقراطية ممارسات مثل التنكيل بالمعارضين ووضع العراقيل أمامهم قبل وأثناء عملية الانتخاب، حال ما حدث في الانتخابات الأخيرة في بيلاروسيا (2006) ومثلما حدث من قبل في توغو عام 1991 وأرمينيا عام 1994، أو خضوع حق الترشح للمناصب النيابية إلى رقابة حكومية أو سيطرة جهة أو هيئة غير منتخبة حال ما يحدث في إيران منذ 1979. كما لا تشهد الانتخابات الديمقراطية ممارسات غير رسمية مثل رشوة قادة المعارضة وزرع الانقسامات بينهم كما دأب دانيال آراب موي على فعله في كينيا.
رابعاً: معيار “نزاهة” الانتخابات
يرتبط معيار “نزاهة” الانتخابات بعنصر الحياد “impartiality” الذي يجب أن تتسم به الجهة المشرفة على الانتخابات في تعاملها مع كل أطراف العملية الانتخابية من مرشحين وناخبين ومشرفين ومراقبين، وفي جميع مراحلها بدءاً من حق الاقتراع، ومروراً بكيفية تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية، وكيفية ممارسة هذا الحق، وانتهاءً بكل ما يتصل بالإشراف على الانتخابات وفرز الأصوات وإعلان النتائج. وترتبط نزاهة العملية الانتخابية أيضاً بمبدأ الدورية “periodical” والانتظام “regularity”. ويعني الحياد المقصود هنا حياد القوانين والقواعد والأنظمة المنظمة لعملية الانتخابات، وكذا حياد الهيئة أو الإدارة المشرفة في تنفيذها لتلك القوانين والقواعد.[44] وفيما يلي أبرز معايير نزاهة الانتخابات الديمقراطية: (انظر الجدول رقم “3” الذي يتضمن قائمة مراجعة لمعايير نزاهة انتخابات الديمقراطية).
1. حق الاقتراع العام: ترتبط الانتخابات الديمقراطية التنافسية بحق الاقتراع العام “universal vote”، أي حق كل المواطنين البالغين المسجلين في الاقتراع في الانتخابات دونما تمييز على أساس اللون أو الأصل أو العرق أو المكانة الاجتماعية أو النوع أو اللغة أو الدين أو المذهب. ويرتبط بحق الاقتراع العام قاعدة “شخص واحد، صوت واحد أو one man, one vote”” بمعنى أن لكل ناخب صوت واحد، أو ما يسمى الوزن المتساوي للأصوات “equal weighting of votes”. وحق الاقتراع العام وقاعدة أن لكل شخص صوت واحد يرتبطان بمبدأ رئيسي من مبادئ الديمقراطية ألا وهو المساواة السياسية الذي يعني تكافؤ الفرص أمام كل المواطنين في المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية.[45]ولذا فإن الحرمان القانوني لطبقة معينة أو جماعة ما من حق الاقتراع ينتقص من نزاهة الانتخابات، وذلك حال حرمان المرأة من حق الترشح والاقتراع في الكويت قبل عام 2006،[46] أو الحرمان غير المباشر لفئات معينة كأن يتم إعادة توطين أو طرد فئة معينة من السكان كما حدث مع السود غير العرب في موريتانيا مطلع التسعينيات، أو من خلال طرق ملتوية كالتشديد في إجراءات التسجيل أو التلاعب في سجلات الناخبين أو منع الناخبين من الوصول إلى صناديق الانتخاب كما يحدث في الانتخابات المصرية. ويتناقض مع حق الاقتراع العام استهداف الأمن للمرشحين المعارضين أو لوسائل الإعلام والصحافة كما فعل رئيس زيمبابوي روبرت موجابي عام 2000، وكذا شراء الأصوات أو التأثير على تفضيلات الناخبين بالمال أو النفوذ كما يحدث في الكثير من الدول.[47]
2. تسجيل الناخبين بشفافية وحياد: على الرغم من أن تسجيل الناخبين في سجلات انتخابية ليس شرطاً ضرورياً للانتخابات الديمقراطية، إلا أنه يعمل على تحقيق هدفين رئيسيين. فالتسجيل يُوفر آلية للنظر في المنازعات التي قد تُثار في شأن حق الفرد في التصويت، وذلك بشكل منتظم وقبل يوم الانتخابات ذاته. وهذا بالطبع يكتسب أهمية كبرى في الحالات التي يحاول شخص ما- لا يمتلك الحق في التصويت – أن يُدلي بصوته في الانتخابات، أو عندما يحاول شخص أن يمارس حقه مرتين. ومن ناحية أخرى فإن تسجيل أسماء الناخبين في سجلات انتخابية يُمكّن الهيئة المشرفة على إدارة الانتخابات من تنظيم أعمالها المتصلة بتحديد الدوائر الانتخابية وتوزيع القوة البشرية المشرفة على الدوائر المختلفة.[48]
3. الحياد السياسي للقائمين على الانتخابات: ولعل من أبرز معايير نزاهة الانتخابات الديمقراطية حياد القائمين على إدارتها في جميع مراحلها بدءاً من الإشراف على عملية تسجيل الناخبين والمرشحين، ومروراً بإدارة يوم الانتخابات، وانتهاءً بعملية فرز الأصوات وإعلان نتائجها النهائية، والإشراف على حق الناخبين والمرشحين في الشكوى والتظلم أو الطعن.
ومن الناحية الوظيفية، تعمل الإدارة المشرفة على الانتخابات في إطار النظام القانوني السائد، واحترام مبدأ سيادة القانون. ولذا فإن التأكد من معاملة كل الناخبين وكل المرشحين وفقاً للقانون ودون أدنى تمييز على أساس اللغة أو العرق أو الأصل أو المكانة الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي أو الدين أو النوع يُعد من أبرز مهام تلك الإدارة.[49]وتكتسب الإدارة المشرفة على الانتخابات ثقة المواطنين من خلال الالتزام بالحياد السياسي والحزبي. ويتطلب هذا الحياد البعد عن أية تصرفات قد يُفهم منها تغليب مصالح الحكومة القائمة، أو مصالح فئة ما أو حزب سياسي معين، حال قبول الهدايا أو الإعلان عن مواقف سياسية محددة أو الخوض في نشاطات ذات صلة بأحد الجهات المتنافسة، وغير ذلك.[50]
ومن الناحية الهيكلية يرتبط الحياد السياسي بأمور ثلاثة، هي: الشكل التنظيمي للإدارة المنوط بها إدارة الانتخابات، وحجم السلطة الممنوحة لها، وعلاقتها بالسلطتين التنفيذية والقضائية. وتقدم التجارب الديمقراطية المعاصرة العديد من الأشكال في هذا الصدد، فبينما تَتبع إدارة الانتخابات في كل من إنجلترا وفرنسا الإدارات المحلية، وتدار محلياً في الولايات المتحدة مع وجود بعض القيود الذي يحددها الدستور الفيدرالي، فإن بعض الدول الديمقراطية تقيم لجاناً أو إدارات دائمة للانتخابات، ومستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية. ففي كندا هناك لجنة دائمة للانتخابات منذ عام 1920، تخصص لها الدولة جزءاً من ميزانيتها، وهي تتمتع بصلاحيات واسعة في إدارة الانتخابات، برغم أن الحكومة تقوم بتعيين موظفي هذه اللجنة وقت الانتخابات فقط. أما في الهند فثمة لجنة مستقلة بموجب الدستور منذ عام 1950، وفي استراليا هناك لجنة عليا مستقلة لإدارة الانتخابات منذ عام 1984، تحصل على ميزانيتها من الميزانية العامة للدولة.[51]
وفي بعض الحالات ولاسيما وقت التحول إلى الديمقراطية لا تقتصر وظيفة اللجان المشرفة على الانتخابات على إدارة الانتخابات والإشراف عليها وإعلان نتائجها، وإنما تمتد لتشمل النظر في صلاحية إجراءاتها ودقة نتائجها. وذلك كما حدث في أول انتخابات ديمقراطية تنافسية في جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري، إذ كان من صلاحيات اللجنة المشرفة على الانتخابات هناك النظر في كل المسائل المتصلة بصلاحية الانتخابات.[52]
ومن ناحية أخرى تختلف الأشكال القائمة في الديمقراطيات المعاصرة من حيث خضوع قرارات اللجان والإدارات المشرفة على الانتخابات للقضاء. ففي دول مثل الهند واستراليا يخضع عمل تلك اللجان لنطاق عمل المراجعة القضائية، حيث تستطيع المحاكم نقْض نتيجة أية دائرة انتخابية. وكبديل لهذا فإن لجنة الانتخابات في دول كثيرة تضم قضاة، ففي استراليا لابد أن يكون رئيس لجنة الانتخابات أحد قضاة المحكمة الفيدرالية سواء كان من العاملين أو المتقاعدين.[53]
4. قانون انتخابي عادل وفعّال: تستند نزاهة عملية إدارة الانتخابات، بشكل رئيسي، على القانون الانتخابي الذي ينظم عملية الانتخابات في مراحلها المختلفة، ويتيح لكل أطراف العملية الانتخابية من ناخبين ومرشحين ومشرفين، الوقوف على الكيفية التي يتم من خلالها إدارة الانتخابات والإعلان عن نتائجها. والنظام الانتخابي يحدد القواعد التي تضعها النظم الديمقراطية بغية تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية، [54] ولابد أن ينسجم مع التركيب الاجتماعي للمجتمع، وعلى وضع يُمكن معه تمثيل كل الفئات والجماعات المُشكلة للمجتمع. ولأن تفاصيل ومضامين أي نظام انتخابي لا بد أن توضع في ضوء الأهداف المرجوة منه والمحددة مسبقاً، فإنه يمكن تصور الأهداف الثلاثة التالية لأي نظام انتخابي:
– تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد في الهيئات التمثيلية النيابية بالبرلمانات.
– توفير الآلية التي يمكن من خلالها للناخبين محاسبة ممثليهم.
– توفير حوافز للمتنافسين من أجل عرض برامجهم وآرائهم بحرية وتمثيل كافة فئات المجتمع. ففي المجتمعات التي يعيش فيها أقليات عرقية أو دينية أو لغوية تُوضَع بنود وقواعد مختلفة في النظم الانتخابية لتحقيق هدف دمج هذه الأقليات في المجتمع.[55] كما أن هناك قوانين انتخابية تتضمن آليات لضمان تمثيل المرأة.[56]
وقد اختلفت وتنوعت النظم الانتخابية التي عرفتها التجارب الديمقراطية المعاصرة مع اختلاف أوضاع وظروف كل دولة، على وضع لا يمكن معه أن نجد نظامين متطابقين تماماً في دولتين مختلفتين. غير أنه يمكن القول أن التجارب الديمقراطية الحديثة عرفت نظامين رئيسيين، يُعدان – مع فروعهما وصورهما المختلفة – من أبرز الأنظمة الانتخابية المعمول بها في عالمنا المعاصر، وهي نظم الأغلبية “majority systems” ونظم التمثيل النسبي “proportional systems”. ولهذين النوعين الرئيسيين أشكال وأنواع عدة على النحو الذي تفصله الدراسات ذات الصلة بالنظم الانتخابية.[57]
5. دورية الانتخابات: وتعني سمة الدورية تطبيق القواعد والإجراءات الانتخابية ذاتها – والمحددة مسبقاً – على جميع الناخبين والمرشحين بشكل دوري “periodic” ومنتظم “regular” وغير متحيز لفئة أو جماعة معينة. ويستند هذا المبدأ إلى سمة رئيسية من سمات الديمقراطية وهي أن تقلد المناصب السياسية تُحدد زمنياً بفترات محددة، فالمسؤولون المنتخبون لا يُنتخبون مدى الحياة في الديمقراطيات المعاصرة، وكذا إلى قاعدة أن محاسبة الحكام ومساءلتهم تقتضي أن يتم الاحتكام إلى الناخبين بشكل دوري ومنتظم بغرض الوقوف على آرائهم في شأن السياسيين المنتخبين للمناصب السياسية والبرامج والسياسات المختلفة. ويعني ما تقدم أن الحكام في الديمقراطيات المعاصرة لا يمتلكون الحق في تأجيل أو إلغاء انتخابات محددة سلفاً، كما أنه لا يمكن لهم مد فترة تقلدهم المناصب السياسية.[58] إن بعض الحكام في دول العالم الثالث يحاولون التلاعب بالقيود الدستورية التي تقيد عدد مرات الترشح لمنصب رئيس الدولة، الأمر الذي يتناقض كلية مع مبدأ دورية الانتخابات، وذلك كما حدث في مصر وتونس ولبنان، وكما فعل حكام بوركينا فاسو وساحل العاج والغابون أوزباكستان وتركمنستان.[59]
6. ضمانات أخرى: ولكي توصف الانتخابات الديمقراطية بالنزاهة لابد أن تتسم بمجموعة أخرى من المعايير، لعل أبرزها ضمان سرية الاقتراع، وضمان حرية الاقتراع يوم الانتخابات لجميع الناخبين بلا أدنى تمييز، وضمان حق المتنافسين في الإشراف على سير الانتخابات في دوائرهم من خلال مندوبيهم، وضمان حماية الدوائر الانتخابية من أي تدخل من أي جهة أو هيئة ما بغرض التأثير على الناخبين لصالح مرشح معين، وضمان أمن الدوائر الانتخابية ضد أية عمليات عنف قد تستهدف تخريب العملية الانتخابية أو تعطيلها أو التأثير عليها. كما تتسم الانتخابات الديمقراطية بشفافية ونزاهة عملية فرز الأصوات وإظهار النتائج وإعلانها، وإعطاء مهلة مناسبة لتلقي الشكاوى والطعون – الذي غالباً ما تقوم به اللجنة المشرفة على الانتخابات أو المحاكم وذلك حسب النظام الانتخابي المعمول به في كل دولة.
ملاحظات ختامية:
استناداً إلى ما تقدم، فإنه يمكن الانتهاء إلى الملاحظتين الرئيسيتين التاليتين:
أولاً – إن مجرد إجراء انتخابات في بلد ما لا يعني أن نظام الحكم في ذلك البلد قد خرج من مصاف الدول التسلطية أو الشمولية، وأصبح ديمقراطياً. فالانتخابات التي يوصف نظام الحكم المقترن بها بالديمقراطية لابد أولاً أن تستند إلى دستور ديمقراطي يضع المبادئ الرئيسية للديمقراطية موضع التطبيق الحقيقي، ولابد ثانياً أن تتسم بسمات ثلاث هي”الفعّالية” و”الحرية” و”النزاهة”. وهذا ما يُجمله التعريف التالي الذي نقدمه لمفهوم “الانتخابات الديمقراطية”.
الانتخابات الديمقراطية هي عملية اختيارٍ من بين بدائل متعددة، تتسم بأنها:
1. فعّالة: لأنها تستهدف التعبير عن مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة، وانتخاب الحكام وتسوية الصراع على السلطة بطرق سلمية، وتوفير الشرعية الشعبية للحكام وآلية التداول على المناصب السياسية العليا ومحاسبة الحكام، ولأنها تمثل مصدراً لتوعية وتثقيف المواطنين وتجنيد السياسيين والقادة،
2. حرة: لأنها تستند إلى مبدأي حكم القانون والتنافسية وتحترم حريات وحقوق المواطنين الرئيسية،
3. ونزيهة: لأنها تُجرى بشكل دوري وتقوم على نظام انتخابي عادل وفعّال وتستند إلى حق الاقتراع العام ويلتزم القائمون عليها بالحياد السياسي والحزبي في إدارتها وبالشفافية في تسجيل الناخبين وفي فرز الأصوات وإعلان النتائج.
أما ما عدا ذلك من انتخابات، فلها وظائف أخرى كإضفاء شرعية شعبية زائفة، أو تعبئة الجماهير وراء الحكام وصرف أنظارهم عن الإصلاحات السياسية الحقيقية، أو التخفيف من حدة ضغوط المعارضين المنادين بالإصلاح في الداخل، وضغوط المطالبين باحترام حقوق الإنسان في الداخل والخارج. كما أنها لا تتم بشكل دوري ومنتظم، ولا تتسم عملية إدارتها وإعلان نتائجها بالحياد والشفافية. هذا فضلاً عن أن الانتخابات غير الديمقراطية لا تحترم القانون ولا تُمكن أغلبية الناخبين من منافسة الذين هم في الحكم ناهيك عن إمكانية تقلدهم الحكم، وذلك بغض النظر عن وجود قوانين تنص على حرية التصويت من ناحية، وعن وجود برامج وبدائل متعددة أو مرشحين متعددين وقت الانتخابات من ناحية أخرى. فالعبرة ليست بالنصوص أو النوايا وإنما بالتطبيق الفعلي لتلك النصوص وللنتائج الفعلية للانتخابات.
ثانياً– إن مقارنة الديمقراطيات النيابية الغربية بالديمقراطيات الناشئة أو بالنظم التي تسعى نحو الديمقراطية استناداً إلى معيار إجراء الانتخابات فقط يتناقض تماماً مع الاعتبارات المتصلة باختلاف واقع تلك المجتمعات عن بعضها البعض من جهة، ويتعارض مع مقتضيات المقارنة التي هي أحد أساليب البحث العلمي من جهة أخرى. وذلك في ضوء الاعتبارات التالية:
1. للانتخابات متطلبات هي في جوهرها المبادئ الرئيسية للدساتير الديمقراطية ومجموعة الإجراءات والقواعد والمؤسسات التي توضع بغرض تطبيق تلك المبادئ. وهذا يعني أن ثمة اختلافات عدة بين المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات غير الديمقراطية، وذلك فيما يتصل بحكم القانون ودولة المؤسسات والحكم المقيد، بل وفي مستوى الوعي والثقافة ومستويات الدخول، وغير ذلك. وهذا ما جعل الكثير من الباحثين يركزون على أهمية إنجاز تلك المتطلبات قبل إجراء الانتخابات.[61]
2. وارتباطاً بما سبق، يمكن القول أن الانتخابات الحرة والنزيهة والفعّالة ليست غايةً في حد ذاتها. وإنما هي وسيلة إلى غاية أعلى منها، تتمثل في المقاصد العليا للانتخابات. فعلى الرغم من إجراء انتخابات كل ست سنوات لاختيار الرئيس في المكسيك من العشرينيات حتى التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن سيطرة الحزب الواحد على مقدرات الأمور وغياب دولة المؤسسات الديمقراطية جَعَلَ من تلك الانتخابات مجرد آليات للتصديق على رغبات ورؤى الحزب الحاكم. كما أن إجراء انتخابات شبه دورية في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة لم تستهدف مقصداً واحداً من المقاصد السابق تناولها في هذه الورقة.
3. إنه من غير الممكن إجراء مقارنات بين دول لا تشترك في حد أدنى من السمات العامة المشتركة. إن الاستناد إلى التحليل الشكلي القانوني فقط لا يمكن أن يكشف عن أوجه الاختلاف بين تلك الدول، فالكثير من دول العالم الثالث تتبني – من الناحية الشكلية – دساتير منقولة عن الدول الديمقراطية، لكن دون أن تعمل على تطبيقها في الواقع الفعلي. ولذا، تظل القوة السياسية حكراً على حزب ما أو طبقة معينة أو أسرة مالكة، وتبقى الجماهير بعيدة تماماً عن أن تُقرر مَنْ يحكمها، وتغيب دولة المؤسسات في كافة مجالات الحياة، وتضع السلطة قيوداً قانونية وفعلية أمام جُل حريات الأفراد وحقوقهم. وفي المقابل يُعد التحليل القائم على النظر إلى الممارسات الفعلية للحكومات، وحقيقة العلاقة بين الحكام والجماهير، وكذا البناء الاجتماعي والتجربة التاريخية والعوامل الاقتصادية والثقافية، يُعد مدخلاً ضرورياً لدراسة وتحليل الأوضاع السياسية في تلك البلدان، ولفهم لجوء الكثير من الحكام إلى آلية الانتخابات بغرض تحقيق غايات وأهداف هي أبعد ما تكون عن مقاصد الانتخابات الديمقراطية الحقة.
قائمة بأهم المراجع
الأنصاري، محمد جابر. “الديمقراطية ومعوقات التكوين السياسي العربي”، مجلة المستقبل العربي، العدد مائتان وثلاثة، كانون الأول/ يناير، 1996.
البشري، طارق. في المسألة الإسلامية المعاصرة: الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر(القاهرة: دار الشروق، 1996).
…………… الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي (القاهرة: دار الشروق 1996).
…………… ماهية المعاصرة (القاهرة: دار الشروق 1996).
العوا، محمد سليم. في النظام السياسي للدولة الإسلامية (القاهرة: دار الشروق، 1989).
الكواري، علي خليفة. الخليج العربي والديمقراطية: نحو رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية/ 2002).
……………….. “ما العمل… من أجل المستقبل؟”، المستقبل العربي، العدد مائة وخمسة وتسعون، أيار/مايو 1995.
بدوي ، محمد طه. النظرية السياسية: النظرية العامة للمعرفة السياسية (الإسكندرية: المكتب المصري الحديث، 1986).
حللي، عبد الرحمن. “تصورات المسألة السياسية في الفكر الإسلامي المعاصر”، جريدة الحياة، لندن، 12 مارس 2005.
رينولدز، أندرو وريلي. دليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات حول أشكال النظم الانتخابية (استكهولم: المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2002).
عبد الله، ثناء فؤاد. “خصوصية طرح الديمقراطية في الواقع العربي”، “، مجلة المستقبل العربي، العدد مائة وسبعة وثمانون، أيلول/ سبتمبر 1994.
غباش، محمد عبيد. “الدولة الخليجية: سلطة أكثر من مطلقة- مجتمع أقل من عاجز”، مجلة المستقبل العربي، العدد ثلاثمائة وخمسة عشر، أيار/ مايو 2005.
غليون، برهان. “منهج دراسة مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية: مقدمة نظرية”، مجلة المستقبل العربي، العدد مائتان وثلاثة عشر، تشرين الثاني/ نوفمبر 1996.
ليلة، محمد كامل. النظم السياسية: الدولة والحكومة (القاهرة: دار الفكر العربي، 1971).
مالكي، أمحمد. الدستور الديمقراطي والدساتير في الدول العربية: نحو إصلاح دستوري (مشروع دراسات الديمقراطية، اللقاء السنوي الخامس عشر، أكسفورد،27/8/2005)، متاحة على شبكة الإنترنت<http://www.arabrenewal.com/index.php?rd=AI&AI0=9926> 14 يوليو 2006.
متولي، عبد الحميد. نظرات في أنظمة الحكم في الدول النامية وبوجه خاص في مصر مع المقارنة بأنظمة الديمقراطيات الغربية (الإسكندرية: منشأة المعارف، 1985).
متولي، عبد الحميد (وآخرون)، القانون الدستوري والنظم السياسية (الإسكندرية: منشأة المعارف، بدون تاريخ).
مركز حقوق الإنسان والانتخابات، حقوق الإنسان والانتخابات، عدد رقم (2) من سلسلة التدريب المهني (نيويورك وجنيف: الأمم المتحدة، 1994).