ثقافةحداثة و ديمقراطية

ادب السجون (٢)

يقول محمد برو

هناك من يرى أنّ الكاتب مسالم، يصح هذا الكلام، إذا افترضنا أنّ المسالم هو من لم يحمل السلاح الناري، لكن التاريخ والوقائع التي تتابع تؤكد لنا أنّ الكاتب الذي يلامس هموم المعاش اليومي للناس البسطاء، إنما يعرّي عجز السلطة وفسادها، وهو بذلك يطرح قضية إصلاحها أو استبدالها، بشكل من الأشكال، سواء بالطرح والدعوة المباشرة، أو بإثارة هذه الأفكار في ذهن القارئ. وعلى طول المسارات، نجد أنّ الطغاة يخشون من فرسان الكلمة ومن رماح الأقلام، أكثر مما يخشون من صوت المدافع ورائحة البارود، ووجدنا في بواكير الثورة السورية

السورية أنّ النظام استبسل في سبيل تحويلها من مجرد تظاهرات سلمية ومطالبات بالإصلاح، إلى ثورةٍ مسلحةٍ بات يلعب معها في ملعبه المفضل.

منذ الأسابيع الأولى لحكم البعث في سورية، كان الرقيب الأمني يجثم على صدور المثقفين وأقلامهم، ولم يَألُ جهدًا في كم أفواههم وتكسير أصابعهم، ومحاصرتهم ومنعهم -ما استطاع ذلك- من نشر ما أرادوا، لدرجة أنه أودع في عقل معظم المثقفين والكتّاب، ضابط أمن يمارس الرقابة الصارمة، فتجد الكاتب ينقِّح كتابه وكلماته مرّاتٍ ومرّات، قبل أن يقذف بها إلى الأجهزة المختصة، فتمعن في فحصها وتدقيقها، كي لا تندّ عنها زفرةٌ تعكِّر مزاج “الأخ الأكبر”، وكان خطأ تحريري واحد كفيلًا بقذف فريق التحرير كاملًا في أقبية فروع الأمن أشهرًا طويلة، كي يبقى الرقيب الذاتي عالي التأهب، دقيق المراقبة، فلا تنزلق من بين يديه جملةٌ شاردةٌ عن السياق.

من خلال سؤالي المتكرر عشرات المرّات لرفاق السجن الطويل، ومقارنة إجاباتهم بأصدائها في نفسي، بات الاعتقاد جازمًا أنّ ذاكرة السجين السجنية تستولي على كامل مساحة الذاكرة التي يحياها السجين بعد خروجه، وكل ما عداها تنويعاتٌ على مقامها أو تفريعات لجذرها العميق، أو صدى لتلك الحكايات التي تستغرق الحياة برمتها. وبالمقارنة المستمرّة التي لا تتوقف أبدًا، تتصاغر معظم التفاصيل التالية لها، حتى لتخاله كالعاشق المدنف الذي لا يرى في أي امرأة تعبر أمامه إلّا صورةً عابرةً، يقيس بها ذلك الفارق الشاسع بينها وبين محبوبته الساحرة، لعلها لديه التجربة الإنسانية الأكثر تجذرًا.

يستحيل على سجين المسافات الطويلة أن يخرج بتمامه من السجن، أو أن يخرج السجن بتأثيراته منه، وربما يحسن بنا في هذا الموضع التمييز بين موقفين متباينين بشكلٍ حاد: الأول (وهو الأقرب للطبيعي) أن يكون السجين الخارج من السجن مشروخ النفس والروح في مواضع شتى، وسيزيد خروجه ولقاءه بالأهل والمحيط الاجتماعي تلك الشروخ تشققًا، وستكون دائمًا كسكين تنكأ جروحه، كلما همَّ بتناسيها؛ والثاني هو من خرج من تجربة السجن الطويل متينًا صلبًا وقد اغتنى منها، وتكوّن في مطاوي أيامها الطويلة تكوينًا يدين بفضله لتلك السنوات، فلا يفتأ يشد عليها بكلتا يديه، ويعيد تكرار حكايات تلك الأيام أنّى تسنى له ذلك مباهيًا بها، فهي لم تسطع له ثقبًا، وهي أشبه بالعصارة التي يصطفيها الجسد من فاكهةٍ بعد أن يطرح أليافها، وهو يخاف عليها من صحراء النسيان، خوفه على ذلك العمر العزيز الذي لم يمض هباءً، وإن ساءل نفسه ذات مساء فسيجيب أنني صنيعة تلك الأيام الصعبة وحسب في مقالات عديدة، تناولتُ شخصية السجان التي لا تنفصل عن طبيعة السجن القائم به، والذي سحق فيه ذاته الإنسانية، وجعله محض جلاد متعطش لرائحة الدم، محض أداة للفتك والتعذيب، يحركها سيده الأعلى أنّى شاء وكيفما شاء، وفي كتابي «ناجٍ من المقصلة»، وهو يومياتٌ عشتها بأدق تفاصيلها المصلوبة على خارطة الثواني المتعاقبة، لثماني سنوات في سجن تدمر، وثَّقت عبره وقائع وقصص وأسماء وحكايات جرت على النحو الذي أوردتها، دون أي مبالغةٍ أو حرص على التشويق أو الإثارة، مع هذا ما زلت في شك من أمري: هل استطعت فعلًا أن أنقل ذلك الهول الرهيب، وتلك المذابح المستمرّة التي حفلت بها ساحات تدمر، التي لم تكن لتستريح أو ترتوي من صراخنا ودمائنا، طوال تلك السنوات التي ما يزال رجع صداها مترددًا في روحي كلّ مساء، لكنني أرجِّح أني فعلت.

إنّ السجن هو الوجه الحقيقي للسجان والجلاد الأكبر في تاريخ سورية، وأعني النظام الأسدي المتوحش، وقد شهدت سورية في السنوات الأخيرة ما هو أشد بأسًا من السجن، كقتل طفلٍ أمام أبويه، أو انتهاك فتاة حرة واغتصابها أمام زوجها أو إخوتها، أو إذلال رجل أمام عائلته. لا يمكن مقارنة عذابات السجن بألم الكتابة عنه، فالفارق نوعي لا كمّي، ساعات السجن متزاحمةٌ، بقلق انتظار التعذيب والخوف من آلامه التي يعجز الخيال عن الإحاطة بها، إضافةً إلى ساعات القهر التي يعانيها السجين وهو يسمع صرخات التعذيب التي تنفجر من حناجر من يسبقونه في نيل حصة التعذيب اليومي، كما كان يجري يوميًا في سجن تدمر الصحراوي.

في الكتابة عن السجن، سيكون الأسى مخيمًا، وسحابات الحزن على من قضى في تلك الساحات، وعلى عمر ضاع في تلك الغيابات، وعلى فرص نادرة ضاعت وليس لها أن تتأتّى ثانيةً في حياة كانت غائبة عن حياة السجين. حين نكتب نستدعي تلك التجربة مرّةً أخرى، لكن هذا الاستدعاء نفعله عن طواعية ورغبة عنيدة في تذكر كلّ تفصيل، مهما كان دقيقًا، وهذا فعلٌ نواجه به رغبة الجلاد في طمس الحقائق، وإخفاء الجريمة. آلاف الضحايا دفنهم الجلاد في صحراء تدمر وغيرها، وتأتي الكتابة لتفضح تلك الجريمة وتقدّم الجلاد إلى المساءلة.

الذين يخرجون وقد تصدعت نفوسهم من هول السجن الطويل، “وهذا هو الطبيعي”، يجنحون ويجهدون في بلوغ حد النسيان، أو التجاهل لذكريات أليمةٍ لا تني عن تصديعهم بضجيجها كلّ حين، لكن هيهات، فمحاولة النسيان هي شكل من أشكال طغيان الذاكرة. أما الذين خرجوا أشدّ تماسكًا، “وهم كثيرون ومدهشون”، فيؤكّدون أنّ الإنسان المتمرد فيهم أقوى من أن ينكسر، وأعند من أن تمحى ذاكرته، هؤلاء يتمتعون بشفيف الحزن الذي تحمله آلاف الحكايات، عن مجازات الموت وحلبات قيصر التي عبروا بها، ويكررون ألف مرّة، وهم يسردون الحكايات تلو الحكايات، أنّ السجين دائمًا كان أقوى من السجن والسجان، ويمكنني أن أختم بالقول إنني أحزن أشدّ الحزن، إن نسيت واقعة من وقائع السجن الطويل، فهي أحجاري النفيسة التي جمعتها من تلك الصحراء، ولن يبقى للعمر من معنى إن هي ضاعت عني.

لقد سرق مني السجن بقايا طفولتي ومطلع شبابي، وليس من تعويض لتلك السنوات التي سرقها، ففي الوقت الذي كان فيه أقراني ينعمون بحياة جامعية صاخبة، ومغامرات شبابية متنوعة، قد تكون هي الأجمل في الحياة، كنت أتلقّى وأصحابي الجلد اليومي، صباح مساء، محرومًا من أبسط أسباب الحياة، مرغمًا أن أشرب، ثماني سنوات، من ماءٍ كبريتي آسن، وأن أحلم بنثرات من الملح الممنوع أنكّه بها طعامي البائس. أتذكر الآن الكثير عن سجون الموت والتعذيب، والذل والقهر، الذي كان زادنا اليومي سنوات، والذي فقدنا فيه شبابًا أحبةً عُلِّقوا على أعواد المشانق أو قُتلوا في ساحات التعذيب، أو تُركوا ليموتوا جوعًا ومرضًا. أودعت كتابي «ناج من المقصلة» توثيقًا يوميًا لتلك الفظائع التي تتجاوز حدود الممكنات، والتي تجعل من الشكِّ بجرمية هذا النظام ضربًا من ضروب المراوغة، والعبث العاري عن البراءة.  لم يكن في سجن تدمر حراس زنازين، كانوا محض جلادين، عملهم اليومي الممتد على مدار الساعات، التعذيب والقتل وتنفيذ حفلات الإعدام، حتى في مناقشتنا لمفهوم السجان، أجد الجلادين في سجن تدمر بعيدين عن هذا المعنى، والإصرار على حشرهم فيه يجلب اللبس ويصبغ المعنى بالتشويش. إذا أجملنا كلّ ما كتب عن مسألة السجون والمعتقلات، سواء عبر يوميات من نجا، أو من سمع من الناجين، أو من سمع عنهم، مع تباين الأنواع بشكلٍ واضح، فإننا بكل تأكيد نستطيع الحديث عن “أدب السجون” في سورية، مع ملاحظة أنّ معظم ما كتب في هذا الباب نشره كاتبه، بعد أن أصبح بمأمن من قبضة النظام. مع كلّ هذا فإنّ ما كتب ما هو إلا نزرٌ يسيرٌ، بالكاد يفضح جزءًا صغيرًا مما جرى، وإذا أخذنا بالاعتبار أنّ حالة كلّ سجين سياسي في سورية هي رواية كاملة مستقلّة متفردة بتفاصيلها، وإن هي تشابكت مع غيرها في المنحى العام للاعتقال والتحقيق والتعذيب، إلّا أنها مختلفة تمامًا بتفاصيلها الشخصية وزاوية الرؤية وحجم المعاناة، وتداعياتها المستقبلية، وهذا فصل كبير لم يتم التطرق اليه بعد: “ماذا حصل مع الناجين من السجون بعيد خروجهم”؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate