ثقافةحداثة و ديمقراطية

أدب السجون (١)

كان للمثقفين والكتّاب السوريين، في العقود الخمسة الأخيرة من التاريخ السوري المعاصر، نصيبٌ كبيرٌ من القمع والقهر والتعذيب، في سجون وأقبية الاستبداد البعثي الأسدي، ليضاف إلى التاريخ الأسود لنظامٍ دكتاتوريٍ، ما زال يواصل فعل الإبادة للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية ولكل صوت حرّ يهدد وجوده العنفي، تاريخٌ من العار يكلّل جباه الطغاة، وقد دفع ذلك الأمرُ كثيرًا من الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء أكان قصة أو رواية أو كتاب يوميات أو سيرة ذاتية، ومهّد ذلك لظاهرة “أدب السجون”، وهو أدبٌ صادر في معظمه عن تجارب شخصية حيّة ومشاعر إنسانية عميقة، قدمت للأدب وللحياة وللبشرية ما يُسهم في دحر الظلم والظلامية. فكان أن قرأنا رواية «القوقعة: يوميات متلصص» للكاتب مصطفى خليفة، الذي مكث في السجن 13 عامًا، في إثر عودته من باريس -مدينة والنور والجمال- إلى دمشق، ليجد نفسه في أقبية المخابرات الحربية، بتهمة الانضمام إلى (جماعة الإخوان المسلمين)، بالرغم من أنه مسيحي الديانة. وذلك بسبب تقرير كتبه فيه أحد زملائه في الغربة. وكذلك كتبت هبة الدباغ رواية «خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية»، وهي التي اعتُقلت لأنّ أخاها متهمٌ بالانتماء إلى (جماعة الإخوان المسلمين)، وخرجت من السجن لتجد أن كل عائلتها قد قُتلت في حماة. وكتب سمير قنوعرواية «أنشودة البرد والحرية»، وقارب فيها عالم السجن، بالرغم من أنّ تجربته فيه لم تتجاوز ثلاثة أيام.

من أهمّ الروايات السورية رواية «أجنحة في الزنزانة»، للكاتب مفيد نجم التي يتحدث الكاتب فيها عن تجربة اعتقاله، وعن الأجنحة التي تنمو للمعتقل، بالرغم من كل القهر والتعذيب، ومن الوصول للموت أكثر من مرّة، وموت الرفاق الحقيقين من التعذيب. ورواية راتب شعبو الموسومة بـ «ماذا وراء هذه الجدران»، وهي تتميز -بحسب النقاد- بلغتها البسيطة، وتفتقر إلى اللغة الشعرية، وهي سيرة ذاتية لحياة الكاتب في السجن، وفصولها مقسمة حسب الأحداث الجارية من قتل وتعذيب، وآلام، وغربة، وانسحاق أمام الشرطة. وكذلك بالمعاملة الإنسانية داخل المهجع لكل السجناء بعيدًا عن الرأي السياسي، خاصة تعامل الشيوعيين، باعتبارهم الأكثرية أمام القوى المسماة بـ “الرجعية” من الإخوان المسلمين، وبعث العراق.

ويرى نقاد أنّ “الروايات السورية عن أدب السجون كانت من أهم الروايات العربية التي تناولت هذه المراحل من اللا حياة في حياة سجناء الرأي السوريين، والذين كانوا بعشرات الألوف منذ استلام الأسد الأب للسلطة، وقبل قيام ثورة 2011”. كما تناول العديد من شعراء سورية حالات القهر والتعذيب والفقد. ولعل أهمهم كان رياض الصالح الحسين، محمد الماغوط، بندر عبد الحميد، فرج بيرقدار صاحب كتاب «خيانات اللغة والصمت»، الذي خصص فيه فصلًا كاملًا عدّد فيه جميع وسائل التعذيب التي نسمع بها مثل “الدولاب” و”الكرسي الألماني”، شارحًا كيف يتم التعذيب في كل واحدة منها. كذلك عمل المفكر ياسين الحاج صالح، الذي قبع بسجون الطاغية الأب والابن السفاح ستة عشر عامًا، على تأليف كتاب بعنوان «بالخلاص يا شباب، 16 عامًا في السجون السوريّة»، وفي مقدمته يؤكّد صالح أنه “لم يفِ ما كُتبَ عن السجن السوري حتى اليوم التجربة حقها. سُجن آلاف، ومرّ بتجربة السجن عشرات الآلاف، ولم تكتب أو تنشر غير بضعة كتب”.

مركز حرمون للدراسات المعاصرة يستضيف في هذا الملف الخاص عن “أدب السجون” في سورية، مجموعة من الكتّاب والروائيين ممن خبروا ظروف الاعتقال فترات محدودة أو السجن في زنازين الأسد الأب ووريثه سنوات طويلة، وقد طرحْنا عليهم الأسئلة الآتية: كيف تعامل كلّ من الأب وابنه الوريث مع المثقفين والمبدعين من الكتّاب في سجون الترهيب والقمع؟  وكيف استُخدمت سلطات الرقابة السياسية في عهدهما لتكميم الأفواه وحرمان الكتّاب من حرية الإبداع وتسليط سيف المحرّم السياسي على رقابهم زمن الطغيان في (سورية الأسد)؟ وهل تعتقدون أنكم لم تخرجوا بعد من هذه السجون؟ وهل تعتقدون أنكم استطعتم تعرية السجان، وأن تكونوا شاهدين أدبيًا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري المعاصر؟ ما الذي يؤلم أكثر: السجن نفسه أم الكتابة عنه؟ وهل فعلًا حين نكتب عن السجن نعيش التجربة التي نفعل ما بوسعنا لنسيانها؟ وممّ حرّركم السجن؟ وما أسوأ ما فعلتْه بكم سجون الاستبداد الأسدي: تدمر الصحراوي، وسجن صيدنايا الذي أظهر تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) مدى بشاعته ومدى إجرام السجان ووحشيته؟ وماذا تتذكرون اليوم عن تلك السجون والمعتقلات؟ وماذا عن حراس الزنازين؟ كيف كان تعاملهم معكم؟ وهل يمكنكم الحديث اليوم عن “أدب السجون” في سورية؟ أسئلة حارقة وإجابات ممهورة بالدم والألم وعذابات الروح كانت زاد هذا الملف، وفيه شهادات كلّ من الكتّاب: بسام يوسف، محمد برو، راتب شعبو، مفيد نجم، محمد ديبو، وائل السوّاح، آرام كرابيت، شيار خليل شيار، وضاهر عيطة.  

بسام يوسف: المعتقلات الجحيم.. مواجهة يومية مع الموت

ليس جديدًا القول إنّ هذه البلاد المحكومة بالطغيان المتعدد الوجوه منذ زمن طويل، لا تتيح لمن يعيشون فيها وفرة كوفرة القمع، إنه رفيق لحظات عمرنا منذ صرختنا الأولى حتى تنهيدتنا الأخيرة، لكنه، على وفرته تلك، أصبح في زمن حكم عائلة الأسد أشدّ حضورًا، وأشد قسوة. فبعد انقلابه العسكري في عام 1970 اشتغل حافظ الأسد ومعه أجهزة إعلامه، ومخابراته، وحزبه، ورجال دين، وقسم كبير ممن أطلقت عليهم اعتباطًا صفة “المثقفين”، على نسف المعنى الحقيقي لمفهوم المعارضة (التي هي ركيزة الدولة الحديثة) ونقلها من معناها الحقيقي، بصفتها صراعًا بين وجهات نظر يؤدي إلى تطور المجتمعات واغتنائها، إلى اعتبارها خيانة وطنية، لا بل إلى اعتبارها كفرًا صريحًا، وبالتالي فعقوبة مرتكبها الاستتابة أو القتل. وبتغيير معنى المعارضة على هذا النحو، كان من البديهي أن تتحوّل المعتقلات السورية إلى صيغة جديدة تتناسب مع هذا المعنى الجديد، فالكافر أو الخائن المعتقل ليس له أي حق، هو مباح، ومهدور الدم، وما من أحد يجرؤ على الدفاع عنه أو المطالبة به، ومن يفعل يصبح خائنًا أيضًا وكافرًا ويجب عقابه.

لا تنحصر المعارضة في زمن حكم عائلة الأسد في من ينضوون في أحزاب سياسية معارضة، ولا حتى في من ينشطون جماعيًا في عمل ما لا يتفق مع سلطتهم، سواء أكانت نقابات أو منظمات مجتمع مدني، بل تتمدد حتى تشمل أي فرد يخالف بالرأي قداسة “الحاكم بأمر الله”، فيصبح هذا المخالف كافرًا، ويجب عقابه. عندما تُزج في المعتقلات السورية، فإنّ مواجهتك الكبرى ليست فقط في الزمن الراكد الثقيل الممتد بلا أي أفق لنهايته، وليست في انعدام شروط الحد الأدنى من الطعام والصحة، إنها أولًا، قبل كلّ شيء، مواجهة يومية مع الموت، هل يمكنك أن تتخيل العيش لزمن مفتوح بلا نهاية، وأنت كلّ صباح تخرج من كوابيسك الليلية لتواجه احتمال موتك في أي لحظة؟ لا يمكن الحديث عن تفاصيل يومك في السجن دون لازمة الرعب، رعب يستوطن تفاصيل يومك كله، فحراس الهباء الذين انتقاهم نظام يقوم على إرهاب خصومه، أو من يختلفون معه بالرأي، هم على استعداد دائم لاستباحتك، أنت المباح، العاجز، مهدور الدم، مسلوب الحقوق، الخائن، الكافر، الجاحد، وهم المختارون لحراسة الإله المقدس المتعالي فائق القوة والجبروت، القائد الخالد الأبدي.

في هذه المعادلة المجنونة، يصبح البقاء على قيد الحياة هاجسك الدائم، وتصبح أقل تفاصيل الحياة في الخارج توقًا لا يهدأ، وتصبح كلّ التفاصيل التي يراها من هم خارج المعتقلات بلا أدنى أهمية، بالغة الأهمية، كأن يعبر طائر فسحة السماء الضيقة التي تتيحها نافذة صغيرة عالية، أو قصاصة من جريدة وصلت بمصادفة ما إلى هذا الجحيم، أو أن يتناهى إلى سمعك صوت نباح كلب من بعيد، أو نهيق حمار أو صوت منبه سيارة.. كلّ هذه التفاصيل المهملة تجعل منك كتلة من حنين جارف لحياة غادرتك. كثيرًا ما أتعرّض لسؤال عن شعوري حيال السجانين الذين عايشتهم خلال فترة اعتقالي، ولا أبالغ أبدًا إن قلت إنني لا أتذكر معظمهم، ليس هذا ما يدهشني، ما يدهشني هو أنني لا أتذكر إلا من لم يستطع منهم كتم إنسانيته في لحظة ما، فتنفلت منه في كلمة، أو في نظرة، وربما في دمعة.

أتذكر حتى اللحظة وجه ذلك السجان الفتي المجند الذي كان قد وصل إلى السجن، كنت يومها في معتقل صيدنايا، وكنت معاقبًا بالحبس الانفرادي في زنازين ذلك المعتقل، كانت العقوبة التي فرضها مدير السجن بحقي تنص على تعرضي لفلقة “دولاب” -كما يسميه السوريون- مع كلّ وجبة طعام، يومها كانت الدورية مؤلفة من ثلاثة سجانين، وعندما طلب رئيس الدورية من ذلك السجان القادم حديثًا أن يجلدني ارتبك، كانت يده ترتجف، وكنت أشعر بخوفه عبر ضربات كرباجه المرتبكة على قدمي، وعندما صرخ به رئيس الدورية أن يضرب بقوة أكبر، بكى، وهو يقول لا أستطيع .. لا أستطيع. ثم سألت عنه، وعرفت أنهم أخرجوه من السجن إلى مكان آخر.

إذا قُيّض لك الخروج حيًا من معتقلات عائلة الأسد، فسوف يصعب عليك -ربما إلى حد الاستحالة- أن تُخرج هذه المعتقلات منك، خصوصًا إن كنت ممن مكثوا في ظلماتها مددًا طويلة، إذ تحفر هذه المعتقلات دون أن تدري ندوبًا في جسدك وروحك وعقلك لتصبح كالوشم، وشم داكن يغور عميقًا في تفاصيلك كلها، ليس في جسدك وروحك وعقلك فحسب، بل في ذاكرتك أيضًا. إن ما تحتاج إليه بعد خروجك من جحيم معتقلات عائلة الأسد هو أن تقول سجنك، أن تكتبه، أو ترويه، فلكي تتعافى روحك من فاجعتها أنت بأمس الحاجة إلى قول ما فيها من القهر، لكن ما يواجهك بعد خروجك من هذه المعتقلات هو أنك ممنوع من الحديث عنها، وليس مسموحًا لك أن تقول وجعك أو فاجعتك، وإن تحدثت عنها فهذا يعني أنك لم تتعظ وتقتنع بـ “حكمة السيد الرئيس”، وأنّ إعادتك مرّة أخرى إلى دار التأهيل لازمة.

ليس السجن حدثًا عابرًا في حياة فئة قليلة من السوريين، فالنسبة الساحقة منهم عاشت هذه التجربة خلال حكم عائلة الأسد، فمن لم يعشها بجسده عاشها عبر أحد أفراد عائلته، أو عبر قريب حميم له، ومنذ أن وصل حافظ الأسد إلى السلطة حتى اليوم، لا يزال السجن حاضرًا في حياة السوريين كالخبز. ليس قول السجن أو الكتابة عنه ممكنًا دائمًا، وعلى الرغم من أنه ما من سوري خاض غمار هذه التجربة المرّة إلا ويختزن في روحه وذاكرته ما يكفي لكتابة ملحمة عن الألم الإنساني الهائل الذي عاشه في أمكنة هي الأبشع في تاريخ المعتقلات، والمسكوت عنها مع الأسف، لكن، ولأنّ للكتابة خصوصيتها، وأدواتها، وطرقها الصعبة، فإنّ “أدب السجون” في سورية لا يزال في بداياته، وهذا لا يعني أبدًا التقليل من أهمية ما كُتب، لكن هذه التجربة المرّة سيقال عنها كثير وسيُكتب عنها كثير، وستعيش البشرية عقودًا طويلة، وهي تتهجى حروف هذه الحالة المرعبة التي عاناها شعب كامل طوال عقود.

ربما أتاحت الظروف التي ولدتها ثورة السوريين على طغاتهم ظرفًا جديدًا لقسم كبير ممن عاشوا تجربة المعتقلات أن يصرخوا بها، وهذا ما نراه عند من أفلتوا من قبضة الطغيان، لكن هناك كثير مما كُتب، وممن عاشوا التجربة أسرى هذا الطغيان، وبالتالي فإنّ علينا الانتظار حتى اقتلاع هذا الطغيان لكي نستعيد -السوريين- هذه التجربة بتفاصيلها وحقائقها ووقائعها الفاجعة، عندها يمكن الحديث عن “أدب السجون”، وعن ثقافة السجون، وعندها سيقرأ السوريون كتابات كثيرة، وسيشاهدون أعمالًا تلفزيونية وسينمائية كثيرة عنها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate