ما بعد الحداثة والأنوثة
سو ثورنهام :Sue Thornham أستاذة الوسائط والسينما والموسيقى في جامعة ساسيكس في المملكة المتحدة. من أهم مؤلفاتها «نظرية أفلام الأنوثة» و«الانفصال العاطفي».
على (الأنوثة) أن ترى نفسها باستمرار مكونا من مكونات المشهد الاجتماعي لما بعد الحداثة، أو فرعا ينمو من التنوير حتى الحداثة، وليس طريقة للتعبير عن موضوعات «مثيرة» (أو عن كتلة من هذه الموضوعات). وعلى الرغم من الجاذبية التي يتحلى بها عالم التنوير المنطقي والمنظم ظاهريا، تنضوي نظرية الأنوثة ضمن تضاريس فلسفة ما بعد الحداثة (1990). وإن أي تعريف للأنوثة يجب أن ينظر لمعناها في النهاية، على أنها قوة اجتماعية وسياسية، تهدف لتبديل علاقات التسلط الكائنة فعليا بين النساء والرجال.
في كتاب «السيوف» لماغي هام يعتمد بروز الأفكار الأنوثية وسياسة الأنوثة، على قبول الفكرة التالية: إنه في كل المجتمعات التي تفصل بين الجنسين وتضعهما في ثقافات مختلفة، وفضاءات اقتصادية وسياسية متباينة، تكون النساء أقل قيمة من الرجال «الأنوثة: وجهة نظر» (1992). وعليه بالضرورة تكون التطورات الاجتماعية التي تلحق بالأنوثة، في أي حركة في سبيل التغيير، تحت تأثير متطلبات سياسية تضغط من أجل هذا التغيير. وبدايات الموجة الثانية من الأنوثية، ويستعمل المصطلح اليوم بالعادة لوصف الحركة النسوية، التي نشطت في ما بعد 1968، كانت متأثرة بنشاط وحملات التجمعات السياسية الجديدة، مثل تلك التي ركزت عملها حول موضوع قوانين الإجهاض، والمطالبة بالمساواة المالية والقانونية، والفرص المتساوية بالعمل. من جهة ثانية كانت متأثرة أيضا بالكتابات النظرية الطموحة، التي صدرت في حينه مثل كتابات كايت ميليت عن «السياسة الجنسية»، وكتابات شولاميت فايرستون عن «دياليكتيك الجنس» (صدر كلاهما عام 1970). وقدم العملان نفسيهما وكأنهما نصوص عن الثورة، وفي هذا السياق ألحت فايرستون على أن ما تسميه «طليعة الحركة الأنوثية الغربية» في القرن التاسع عشر والقرن العشرين هي عبارة عن أول انطلاقة لـ«أهم ثورة في التاريخ».
ولكن ميليت تكلمت عن بروز «الموجة الثانية للثورة الجنسية». وقد حاولت كلتاهما متابعة تاريخ الأنوثة، وقدمتا تعريفا لمفهوم الأنوثة، وأكدتا على أنه كان موقفا نظريا بحتا مع الحركة النسوية، التي تبلورت بشكل نشاط سياسي. لكن بالنسبة للأنوثية، إن السياسة والتنظير أمران متداخلان. غير أن سياسة الأنوثة تنشط وتعمل في فضاء المعرفة والثقافة، وفي الوقت نفسه من خلال حملات تضغط لتحقيق تبدل اجتماعي واقتصادي.
ويعتبر منظرو الأنوثة منذ أيام ماري وولستونكرافت (1759 ـ 1779) وما بعد أن المصادر الأولى لقهر المرأة كانت موجودة في بناء فكرة الأنوثة ذاتها، التي تطرقت لـ«ثانوية الرغبة» عند النساء، وعارضت مصطلح «امرأة» بمصطلح أعم و أشمل وهو «إنساني». وألحت أنيت كوهن في كتابها سلطة الخيال (1985) على أنه «من البداية، نظرت الأنوثة للأفكار واللغة والخيال على أنها حاسمة في تحديد نمط حياة النساء والرجال». لقد نظرت الأنوثة لبناء المعرفة، المعنى والتصورات، وكأنه هو موضوع للتحليل والتفسير. واهتمت أيضا بصراع المرأة حتى تجد صوتا تعبر به عن مثل هذه المعرفة. وبالنسبة لتطور سيادة الأنثى، وأن تكون قادرة على الكلام بصوتها الخاص، ضمن ثقافة تختزلها باستمرار لمرتبة شيء، يمكن أن نقول إنها أيضا جزء من مشروع الأنوثة. وبلغة روزاليند ديلمار، تعمل الأنوثة على تحويل موضوع النساء من مرتبة موضوع للمعرفة لمرتبة ذات عارفة، أو من موقع حول موضوع، إلى موقع موضوع بحد ذاته. ويبدو أن كل ذلك يضمن أن ننظر للأنوثة على أنها بمكان فرع من تفريعات «ميتا سرد» حداثة التنوير. هذا هو المكان الذي يضع فيه منظرو الأنوثة أنفسهم. وكما ذكر ليوتار: لو أننا وظفنا شكلين أساسيين من أشكال «شرعنة السردية» لتبرير البحث التنويري عن المعرفة وأهمية البحث العلمي، سيجد الشكلان صداهما في نظرية الأنوثة. فالأول، «سردية للتحرر» وفيه تكون المعرفة أداة للتحرير، ولذلك يجد صداه الواضح في مفهوم «تحرير المرأة». وكما كتبت سابينا لوفيبوند تقول: «من الصعب أن تجد كيف يمكن للمرء أن يعد نفسه من أنصار الأنوثة ويبقى غير مبال بالوعد الحداثي في إعادة تركيب المجتمع اجتماعيا» (ما بعد الحداثة: قراءة).
ولكن القاعدة السردية الثانية لليوتار، وهي عن الذهن التكهني، وفيها تعمل المعرفة من أجل مصلحتها الخاصة، تجد أيضا صداها الأنوثي – في ممارسة «نهوض الوعي». فبنهوض الوعي، تتحقق رؤية أوسع عن نشاط سلطة المذكر («تنوير أنوثي») بواسطة تحليل المرأة المجتمعية لنفسها، وبالرفض اللاحق للافتراضات البطريركية المحلية (المستوعبة في الداخل)، وكذلك برفض طرائق الفهم والاعتراف (ما يمكن تسميته اصطلاحا الوعي البطريركي الزائف). وعليه مثل الماركسية، إن مشروع الأنوثة الأولي، يربط التحليل النظري بتحرير السردية، من خلال التحويل الاجتماعي. وعليه كان هدف بواكير حركات الأنوثة هو مساواة النساء، بواسطة قبولهم في تلك الفضاءات، التي تم إقصاؤهن منها، وتتضمن فضاءات الفكر العقلاني والخطاب النخبوي.
ل و استبعدت النساء من النظرية السياسية والماركسية والفلسفة والتحليل النفسي، وبقية الخطابات السائدة، فإن إعادة استيعابهن سيوسع، وربما يحول، تلك الخطابات، بينما في الوقت نفسه يمكن الاستفادة من وجهات النظر هذه في تنوير خبرات النساء. إن معظم نظريات الأنوثة منذ 1960 وحتى بواكير 1970، انطلقت لتوسيع وتحويل النماذج النظرية الموجودة، ولكن هناك عدد من المشكلات تتعلق بهذه المقاربة. أولا، أصبح من الواضح أنه من غير الممكن أن توسع ببساطة مثل هذه النظريات لاستيعاب النساء، فاستبعاد النساء لم يكن إلغاء حادثا بالصدفة، ولكنه مبدأ بنيوي أساسي في كل الخطابات البطريركية. وكما ذكرت سيمون دوبوفوار في «الجنس الثاني» (1949)، كانت النسوة في الفكر الغربي يمثلن الآخر – وهذا يساعد على تشكيل هوية للرجل على أنه ذات، أو على أنه كائن مفكر عقلاني. في المقابل فئة الآخر، كما تقول دوبوفوار، هي شيء أساسي مثل الوعي نفسه، بما أن الذات يمكن تعريفها فقط بالتعارض مع شيء هو ليس – نفسه. وتضيف: إن الرجل أضاف لنفسه فئة ذاته، ولكن بنى للمرأة مكانا مختلفا لتكون فيه هي الآخر: «إنها الصدفة العابرة، الشيء غير الجوهري المتعارض مع الجوهري. وهو الذات، هو المطلق- أما هي الآخر».
أضف لذلك، حتى لو استوعبنا النساء ضمن هذه الخطابات، يمكن أن يكون ذلك بمصطلحات النفس وليس الخلافه. وهذا يعني، إنها تستمر ضمن إطار يمكنه مناقشة النساء فقط بمصطلحات الإنسانية ذات المرجعية الذكورية العامة (وهو ما تسميه لوسي لريغاراي «اقتصاد المثلية الجنسية» للرجال)، وكأن النساء لسن هن ذات موضوع هذه المعارف. وعليه – بالنسبة للمفكرين والكتاب – يمكن للنساء أن يشغلن فقط طيفا من المراكز الجاهزة سلفا: أو يمكن لهن أن يعملن كما لو أنهن حاضنات ذكورية.
وهكذا أصبح من الواضح باطراد أن «الذات الكونية» لحداثة التنوير، وهي بعيدة عن كونها غير جنسانية ومتعالية، لم تكن تتأثر بالجنوسة، ولكن بعوامل نوعية يحددها رجل بميول مختلفة جنسيا، وأبيض، وبورجوازي، وغربي. وما أن ننتهي من هذه الخطوة النظرية، علينا مواجهة خطوة تالية: إذا عمل الأنوثيون على بناء ذات نسوية وهي «جوهريا» كونية، و/أو كانت هي ذاتا لأفكارهم، فإن تلك الشخصية ستكون جزئية وبالمقدار نفسه تاريخيا ملتبسة. وستكون إقصائية بالمقدار نفسه الذي تجده في شريكها المذكر. ومن هذه النقطة ستصبح، ببساطة، امرأة لها ميول مغايرة جنسيا وبيضاء وبورجوازية وغربية. ولا يمكن لنظرية الأنوثة أن تدعي أن المعرفة والذات تتكونان داخل التاريخ والثقافة، وأن نظرية الأنوثة تتكلم بالنيابة عن «امرأة» نضفي عليها صفات كونية. عوضا عن ذلك، لا بد في النظرية من فروقات بين النساء، وأن تعترف المرأة بوضعها الجزئي في نظام المعرفة. وما أن يحتل الفكر الأنوثي هذه الوضعية، حتى يبدو أنه يبتعد عن بداياته التنويرية، ويشترك مع نظرية ما بعد الحداثة بأشياء كثيرة. وتلخص باربارا كريد وجهات نظر كريغ أوينز في «خطاب الآخرين»، وتقترح عدة نقاط تقاطع بين الطرفين. فالأنوثة وما بعد الحداثة تعتقد ان أن سرديات التنوير الكبيرة أو السيادية، فقدت سلطتها الشرعية. وليس، كما يبدو من خطاب الطرفين، أن لديهما اقتراحات معروضة للنقاش، وقابلة للتطبيق كونيا. بالعكس ثبت أنها صالحة لرجال من ثقافة وطبقة وعرق مخصص فقط، والقيم التي توجد خلف هذه الاقتراحات – عن الموضوعية، العقل والذات السيادية- كانت جزئية وعارضة. أيضا ذكر الطرفان أن التمثيل الغربي – سواء بالفن أو النظرية – هو نتاج معبر لا يقود إلى الحقيقة ولكن للسلطة. وكما يشير أوينز: النساء ممثلات بعدد غير محدد من التخيلات (والاستعارات) وذلك على طول وعرض الثقافة الغربية، وغالبا بشكل يرمز لشيء آخر – كالطبيعة، الحقيقة، التسامي، الجنس – ولكن نادرا ما يشاهدن صورهن وتمثيلاتهن مشروعة ومبررة. ويضيف: إن أنظمة تمثيل الغرب قبلت التصور الواحد فقط – ذلك الذي تكونه «الذات ـ المذكرة». وعند نقاد الازدواجية المعاصرين، الذين يفكرون بمنطق التعارض، يكون أحد أطراف التعارض دائما بدون قيمة: كما رأينا في مناقشة عمل دو بوفوار، حيث أن هذا النقد أساسي بالنسبة للفكر الأنوثي. ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الأنوثة وما بعد الحداثة يؤكدان على «الاختلاف واليقين غير المشترك». فكلاهما يعمل على ردم الصدع بين النظرية والتطبيق، بين ذات النظرية/ المعرفة وموضوعها. وطبعا النساء هن ذوات وموضوعات نظرية الأنوثة. ووعي النساء لأنفسهن، كما ورد في عدة مواضع، له دور أكبر بالمقارنة مع وضع الذكور.