حداثة و ديمقراطية

الفيلسوف جون لوك و الفكر الليبرالي

نبذ تاريخية عن الفيلسوف:

جون لوك (29 أغسطس 1632 – 28 أكتوبر 1704) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في لية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

درس جون لوك في كرايست تشيرش في أكسفورد وأصبح طبيباً ومستشاراً للايرال أوف شافتسبري. ثم تحّول إلى الفلسفة، فأنتج طوال فترة عملية غير قصيرة مؤلفاً قيِّماً في موضوع المشكلات التي يستطيع الفهم البشري التعاطي بها.

وقد تولى لوك عدداً من المناصب الحكومية، ولكنه فقد حظوته لما نُفي شافتسبري عام 1683م، ولكن الملك ويليام الثالث ملك إنجلترا رحّب بعودته وعيّنه مستشاراً للحكومة في ميدان سكّ النقد.

في عام 1667 أصبح طبيباً خاصاً لأسرة أنتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت أثير اللورد آشلي كتب لوك في (1689–1692) مقالاً خاصاً بالتسامح راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.

اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان “مقالتان عن الحكومة” تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر وليس ضد هوبز كما كان يظن البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة الشرطة له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها: مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding ) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704. كان لجون لوك دور كبير غير مباشر في الثورة الأمريكية إذ أن كتابه ((رسالتان في الحكم)) كان محط إعجاب الأمريكيين وكانت من ضمن آرائه في الكتاب أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية ويجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته، وقد ساهمت آرائه في زيادة وعي الأمريكيين الذين اعتنقوا آرائه وقرروا تنفيذها.ومن أشهر عباراته الفلسفية”الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً…. وتتم مقاومتها غالباً… لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد”.

جون لوك و نشأة الفكر الليبيرالي:

 ألف جون لوك (1632/1704م) كتابا بعنوان ” رسالتان في الحكم المدني” سنة 1690م لهدم الحجج التي يعتمد عليها أنصار الحكم المطلق خاصة الحكم المبني على فكرة الحق الإلهي التي وجدت صداها الواضح مع ” روبرت فلمر” ( 1588/1653م) الذي ألف كتابا بعنوان واضح هو ” الحكم الأبوي البطرياركي .. دفاع عن السلطة الطبيعية للملوك” فقام لوك بالرد عليه وتفنيد أطروحته ممهدا بذلك لمجتمع ليبرالي حر. #2# انطلق لوك مثله مثل هوبز من حالة الطبيعة لكنها لم تكن كما وصفها هوبز بالمأساوية بل كانت حالة سلام حيث مشاعة الملكية والمساواة والحرية، هذه الحقوق الثلاثة يعتبرها لوك مقدسة لكنها تعرضت للانتهاك نظرا لظروف طرأت “الندرة في الموارد” فجعلت الملكية من نصيب البعض على حساب البعض الآخر فكثر الجشع والطمع فدخل المجتمع في حالة نزاع وشقاق مما يستوجب البحث عن خلاص وهو الاتفاق على التنازل عن الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس وعن الأرض والممتلكات لسلطة حاكمة تقوم هي بدور الحماية٬ وهكذا بدأ يظهر التنظيم السياسي أو المدني أو الدولة لرعاية المصلحة للجميع. لقد ركز جون لوك كثيرا على حق الملكية فهي كانت شغله الشاغل فهو يرى أن بداية البشر، سادت فيها حالة التساوي المطلق٬ فالإنسان له الحق بوصفه كائنا لا متناهيا أن يضع يده على كل ما في العالم باعتبارها أشياء متناهية، وهذا الأمر متاح للجميع بنفس الشاكلة٬ فالأصل إذن في الفرد” أنه يملك ذاته ويملك عمله وجهده وكده”٬ فإن جنى التفاح المشاع، فهذا يعني أنه أصبح يدخل ضمن ملكيتي وبالمثل، إذا ملأت جرة ماء، فهذا الماء سيصبح ملكي، نظرا للجهد الذي بذلته في الحصول عليه٠ فقانون العقل يقول إن الغزال الذي اصطاده الرجل الهندي هو ملك له. وعندما أكون في البحر وأصطاد سمكة فمباشرة هي ملك خالص لي. وإذا ما شربت من النهر٬ فمهما شربت فلن أضر الآخر٬ ما دام هناك ما يكفي من الماء. وبالمثل نقول عن امتلاك الأرض فهي تصبح لي كامتلاكي لجرة الماء. وكخلاصة تجعل لوك من الممهدين للتنظير الاقتصادي الليبرالي الحديث نقول إن العمل هو الذي يحول الموجودات الطبيعية المشاعة بين الناس إلى ملكية خاصة لمن أضاف إليها مجهوده. لكن السؤال المهم هو: ما الطارئ الذي جعل حق الملكية ينتقل من حالة التساوي، مما يضم السلم والأمن والرخاء إلى مشكلة في حد ذاتها؟ يرى لوك أن الأمر مرتبط بالندرة. ففي البداية كانت الموارد متاحة ومتوافرة وبنفس الجودة للجميع٬ لكنها قلت ونضبت ونظرا للتفاوت بين الناس في القوة فقد أصبح هناك من يملك وهناك من لا يملك٬ فدخلنا في اللامساواة، ولهذا نجد لوك يؤكد أن أهم وظيفة يجب أن تقوم بها السلطة السياسية هي ضمان الملكية باعتبارها حقا طبيعيا أصيلا ومقدسا. يتبنى لوك مثله مثل سابقه توماس هوبز نظرية التعاقد الاجتماعي٬ لكن مع فارق٬ هو أنه إذا كان هوبز يخرج الحاكم من التعاقد لوهبه كل الصلاحيات٬ فإن لوك يجعل الحاكم في قلب التعاقد٬ فالعقد المبرم يتم ما بين طرفين هما الحاكم من جهة٬ وهو يسهر على حماية الملكية والحرية والمساواة، والشعب من جهة أخرى والذي من حقه إلغاء التعاقد مع الحاكم وعزله إذا أهمل واجباته٠ إن أفكار لوك السياسية أحدثت تأثيرا عميقا وراسخا، رهنت مستقبل “أرويا”، بل العالم كله، فجون لوك يذهب إلى أن ” الإنسان ولد حرا” وهي العبارة التي يفتتح بها روسو كتابه “العقد الاجتماعي ” كما كانت شعار الثورة الفرنسية بعد ذلك٬ بل هي مستهل “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” لسنة 1948 . كما أن مؤلف لوك ” في الحكم المدني ” كان يعد الكتاب المقدس للفكر السياسي الحديث، نظرا لما فيه من دفاع عن حق الملكية الأصيل في الإنسان وإعلائه لكلمة الإرادة العامة٬ فقد استلهمه الرئيس الأسبق توماس جيفرسون وهو يعد من الآباء المؤسسين للنظام السياسي الأمريكي٬ فأفكار لوك واضحة وساطعة في وثيقتي إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي معا. لقد رأينا كيف أن جون لوك يعد من المرجعيات الأساسية للنظرية السياسية الليبرالية بكتابه ” في الحكم المدني “، لكن تجدر الإشارة إلى أن لجون لوك كتابا آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو ” رسالة في التسامح” وكان البذرة الأساس لحرية المعتقد التي ستصبح ركنا ركينا في المنظومة الحقوقية للزمن الحديث، إنه كتاب سيروج من خلاله جون لفكرة جوهرية وهي: أن لكل واحد أن يختار لنفسه وفي نفس الوقت يسمح للآخر وفي هدوء أن يختار طريقه، دون حقد أو ضغينة، كما يدافع لوك عن استقلالية الفرد الدينية إلى أبعد مدى فليس للحاكم المدني أي سلطة على أفراد شعبه فيما يتصل بالدين لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط، يقول لوك: ” كلها بين الله وبيني أنا” ويصرح أيضا أنه ” ليس من المعقول أن يكل الناس إلى الحاكم المدني سلطة أن يختار لهم الطريق إلى النجاة، إنها مسألة خطيرة لا يمكن التسليم بها” فالحاكم مسؤول عن المحافظة على الخيرات المدنية وهي: الحياة والحرية والمساواة وحق الملكية فقط ولا شأن له بعالم الروح. بل يرى لوك أن المرء إذا ما أخطأ في العبادة فإنه لا يضر أحدا آخر غيره. إن لوك يرى أن نجاة الروح من اختصاص الفرد نفسه فهو من هذه الناحية حر طليق فهو أعلم بالدرب الآمن لنجاته. إضافة إلى ذلك يوصي لوك الحاكم المدني بأن لا يمنع الناس من ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية، فالمخالف لنا في الدين لا يجب علينا قهره باستخدام القوة ضده، بل علينا في مقابل ذلك أن نقنعه بأن ” يصير صديقا للدولة” وبهذا نجد أن أفكار لوك كانت دعامة أساسية نحو اللائكية، بجعله نجاة الروح خلاصا فرديا، و ضمان الخيرات الدنيوية خلاص جماعي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate