عن نوع و ضرورة الاصلاح الديني للاسلام
في مقالي الأخير في منتدى فكرة، تحت عنوان” دفاعا عن تجديد الخطاب الديني“، تناولت موضوع وجوب الإصلاح الديني في العصر الحديث. وتعقيبا على مقالي، طرح “حسن منيمنة” في مقاله المعنون “ تجديد الخطاب الديني حاجة للمؤسسة الدينية أولاً“، عدَّةَ تساؤلات، حول ما إذا كان “تجديدُ الخطاب الدينيّ” ممكناً، وما إذا كان ضرورياً، وما إذا كان الإسراع في دفعه يؤدِّي إلى نتائج عكسية.
وبعد مناقشة هذه الأفكار خَلَصَ الأستاذُ “منيمنة” إلى أنَّ فكرة “تجديد الخطاب الديني” ربما لا تفي بالغرض؛ لأنَّ أقصى ما يفعله هذا التجديد هو التوفيقُ بين قِيَمِ الإسلام ومتطلَّبات العصر، وبالتالي: يمكن أن يكون هذه التَّوفيقُ تلفيقاً لا يُحقّق التغيير المطلوب. وفي الواقع، أنا لا أدعو إلى نوع من الإصلاح الديني الذي يحاول ببساطة التوفيق بين هذه القيم وتلك المتطلبات.
ويبدو لي أنَّ منيمنة قد أخذ فقط بظاهر مصطلح” الخطاب الديني”، ولكنّي في الحقيقة قصدتُ من استخدام مصطلح “تجديد الخطاب الديني الإسلامي” بأن يكون التجديد في العمق، ويشمل إعادةَ تأصيلٍ جديدٍ لكلّ المفاهيم والأطروحات الفقهية التي تشكَّلت عبر مسيرة “تاريخ الفكر الإسلامي”، وبمعنى آخر: دعوتُ إلى إصلاح “المنظومة الفقهية” القابلة للاجتهاد؛ لتناسب عصرنا الحالي. وربما يكون مصطلح “إصلاح الفكر الديني” هو أفضل طريقة لوصف أهدافي. ومع ذلك، غالبًا ما يُنظر إلى هذا المصطلح على انه مثير للجدل، نظرًا لأن بعض شرائح المجتمع لديها حساسية مفرطة تجاه المصطلح الذي يعتقدون بأنَّه ستِارٌ للعَبَث بالدِّين الإسلاميّ.
وبالتالي: فإنَّ أطروحتي ترمي إلى أهمية أن يشمل التَّجديدُ أو الإصلاحُ المؤسسةَ الدينية التي تصرُّ على اعتبار نصوص الفقهاء والمجتهدين السابقين نصوصاً مقدَّسةً لا يمكن المِساسُ بها، وفي الحقيقة: هؤلاءِ المجتهدون أنفسُهم كان كلٌّ منهم يقولُ: (كلامي صوابٌ يحتمل الخطأ، وكلامُ غيري ـــ من وجهة نظري ـــ خطأٌ يحتمل الصواب)، ثمَّ إنَّ هؤلاء المجتهدين كانوا يغيِّرون اجتهاداتِهم بحسب تغيُّر الزمان والمكان وتطوُّر العصر، وهم الذين وضعوا قاعدةَ:” لا يُنكَرُ تغيُّرُ الأحكام بتغيُّر الزمان”، وهم الذين وضعوا أصولاً من أصول التشريع الإسلامي تُسمَّى: (العرف) و(المصالح المرسلة) و(سدّ الذرائع) و(السياسة الشرعية)، كلُّ ذلك إدراكاً منهم لهذه الحقيقة التي لا مِراء فيها، وهي: أنَّ التجديد أمرٌ حتميّ لا مفرَّ منه.
وبعدَ هذا كلِّه نجدُ كثيراً من المؤسسات الدينية جعلت من نفسها قيّمةً على الفكر الدينيّ، سواءٌ على صعيد الأفراد أو المؤسسات الخاصة أو الرسمية؛ جامدةً على الأحكام القديمة التي تحتاج إلى دراسات جديدة مُعمَّقة لمسايرة التطوُّر الهائل في هذا الزمان، الذي يرمي وراءَه كلَّ مَنْ لا يستطيع مواكبته. لذلك لا أجدُ أنّ هناك اختلافاً أو تناقضاً بين ضرورة ما طرحتُهُ وبين ما يطمَحُ إليه الأستاذ “منيمنة” في مقاله الذي دعا فيه ـــ وهو مصيب ـــ إلى ضرورة إصلاح المؤسسة الدينية نفسها قبل أيِّ شيء آخر.
وعليه: ربَّما لا أتَّفِقُ مع مقولة “منيمنة” التي تذهب إلى: (أنَّ التأخير “في الإصلاح الفكري” من شأنه ـــ إيجابياً ـــ أن يكشف واقعَ أنّه لا حاجة ولا صحَّة لاعتماد أبويَّةٍ من المؤسسة الدينية تجاه المجتمع)؛ لأنَّني أزعُمُ أنَّ التأخير في الإصلاح لن يوصل مجتمعاتِنا إلى التَّنكُّر للمؤسسة الدينية وسَدَنتها، بل إنَّ العكس هو الذي قد يحدث؛ حيثُ إنَّنا نرى مدى تعمّقِ وتوغُّلِ هذا المؤسسة في العَقْل الجَمْعيّ للمجتمعات الإسلامية، وبالتالي: يكون الانتظار مشابهاً للتسرُّع.
وفي اعتقادي أيضاً: أن عملية تجديد الخطاب الديني تشمل تجديد المنظومة التعليمية القائمة وخاصة المناهج الدراسية التي ما زالت تعتمد على التَّلْقين بدل التَّحليل، فنقطة الانطلاق تكمن في تجديد هذه المنظومة، والانتقال بها إلى عقلية علمية منفتحة باحثة تساعد العقول الشابة على معرفة كيفية تفسير الظواهر الطبيعية، وترابط الجزئي بالكلي، ووضع الفروض، وتفسير العلل، ومن ثم اكتشاف القانون.
بالإضافة إلى أنَّ المناهج التعليمية اليومَ بحاجة ـــ بعد تعديلها ـــ إلى إثرائها بموضوعات جديدة، تُؤسِّسُ للعلاقات الإنسانية عامَّةً. ومن ثم، فتجديدُ النَّظْرة للمُخالِفِ في الدِّين والعقيدة أصبح من الأولويات في عصر الانفتاح والقرية الصغيرة، وإعدادُ رؤيةٍ فقهية جديدة تنظر للمخالف في الدِّين على أنَّه شريكٌ في الوطن على أسس وطنية موضوعية متساوية الأطراف لا تقلُّ أهميةً عن سابقاتها.
إنَّ تجديدَ الخطاب الديني بهذا المعنى نابعٌ من احتياجات المرحلة التي نعيشها؛ ليكون قادراً على مواكبة العصر وتقانته، ومسايراً للثورات العلمية الكبرى التي يعيشها عالمنا اليوم، وهي: ثورة الاتصالات، وثورة البيولوجيا، وثورة غزو الفضاء، هذا على مستوى بِنْية الوعي معرفياً (إبستمولوجياً).لقد ألمحتُ في ورقتي إلى الإطار العام لــ”تجديد الخطاب الديني”؛ بحيث يتعايش مع الحداثة، وهذا يتطلب فكراً تأسيسياً يرمي إلى بناء منظومة فكرية إسلامية جديدة تتجاوز كل أشكال التعارض بينها وبين قيم العصر، بحيث تكون القيم الإسلامية قادرة على الانفتاح على الآخر وتتعايش معه وتقبله، وتتكامل معه على أُسُسِ “القيم الإنسانية”، وعلى هذا النحو، يجب أن تكون دعوة التجديد هذه كليَّةً في “العقلية الإسلامية”، على المستوى الديني والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والمعرفي العلمي.