الفيلسوف شارل مونتسكيو
شارل مونتسكيو Charles Montesquieu كاتب أخلاقي ومفكر وفيلسوف فرنسي، درس التاريخ والقانون والفلسفة وترك مجموعة كبيرة من الأعمال التي تميز بها، أهمها «مقالة في سياسة الرومان في الدين» (1716) Dissertation sur la politique des Romains dans la religion، و«الرسائل الفارسية» (1721) Lettres persanes، و«ملاحظات حول أسباب عظمة الرومان وأنحطاطهم» (1734) les Considérations sur les causes de la grandeur des Romains et de leur décadence، وأهمها وأشهرها «روح القوانين» (1748) De l’esprit des lois إضافة إلى مؤلفات عديدة أخرى.
يعد مونتسكيو واحداً من أكبر دعاة الحرية والتسامح والاعتدال والحكومة الدستورية في بلده، وكان من أشد أعداء الحكم الاستبدادي، ونادى بفصل السلطات، ورد أصل الدولة والقوانين إلى الطبيعة وخاصة في كتابه «روح القوانين» أو «الشرائع» إذ يقول: «إن الطبيعة هي التي تحدد نوع الدولة، أو نوع العلاقات بين الأفراد التي تحدد بالتالي شكل الدولة»، ويقصد بالطبيعة المناخ، ويرى أن نظم الحكم والقوانين تختلف من مجتمع إلى مجتمع باختلاف المناخ، وأن اختلاف المناخ هو الذي يتسبب في اختلاف العادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والأديان، بل ومفهوم الحرية، ويرى كذلك أن سكان الجبال والجزر يحسّون بحرياتهم أكثر من سكان السهول والقارات لسهولة الدفاع عن الأولى، وأن سكان الجبال يتصفون بالاقتصاد والاستقلالية والنشاط بسبب طبيعة بلادهم، وجعله هذا التفسير الجغرافي واحداً من مؤسسي نظرية الحتمية الجغرافية بعد ابن خلدون.
تجلت فكرته عن القوانين في كتابه روح «القوانين» أو «الشرائع»، فهو يعطي عنها نظرة ينبغي أن تعدّ طبيعية ودنيوية على الرغم من رجوع مونتسكيو إلى الله: العلاقات الضرورية التي تنجم عن «طبيعة الأشياء». يمكن أن يُرى في هذه الصيغة الإعلان عن حكمة دوركهايم [ر] Durkheim الشهيرة التي تقضي «بمعالجة الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء».
ويرى مونتسكيو أن: «الله له علاقة مع الكون»، وبالتحديد مع الناس الذين يرتبطون به بوشائج الأخلاق والدين، فقوانين التنظيم الاجتماعي ذات علاقة إذن بالله، «مع حكمته وقدرته». ليس المقصود معرفة ما إذا كان الله الذي يستدعيه مونتسكيو هو إله اسبينوزا [ر] Spinoza أو إله مالبرانش [ر] Malebranche. إن ما يهم عالم الاجتماع هو أن يلاحظ أنه بعد الإشارة بقوة إلى قانونية الطبيعة الاجتماعية، يتحاشى مونتسكيو بعناية الخلط بينها وبين قانونية الطبيعة الفيزيائية. إن القوانين تتحكم بشدة في سلوك الناس إلى درجة أن مونتسكيو سوّلت له نفسه القول إنه عندما تُطرح «المبادئ»، فإن «التنوع اللامتناهي للقوانين والأعراف تستسلم لها من تلقاء نفسها». مع ذلك فإن الإنسان الذي هو «كائن قابل للتكيّف»، «ومستسلم في المجتمع إلى أفكار وآراء الآخرين»، خاضع كذلك «للقوانين الخلقية والقوانين الدينية».
إن القوانين التي يهتم بها مونتسكيو تتعلق «بكائنات خاصة وذكية»، أي بفاعلين. ثم لا تظهر بالدقة نفسها التي تظهر فيها قوانين الآلية التي تقوم «بين جسم متحرك وجسم آخر متحرك». «ينبغي أن يكون العالم الفكري محكوماً بشكل جيد بنفس مقدار العالم الفيزيائي». إن القانونية التي تُلحظ في الظواهر الاجتماعية ليست ذات صفة «قدرية» أو حتمية. عليها أن تترك مكاناً لمقاصد «الكائنات الخاصة والذكية» واستراتيجياتها، التي تستطيع أن تستخدمها لغاياتها الخاصة في «الثبات» و«التماثل» اللذين تسمح للغير بإقامتهما.
إن لدى مونتسكيو نظرة واقعية جداً حول التنوع الكبير للقوانين، وهو لا يدّعي مثل بعض القانونيين الوضعيين، حصر نطاق القانون في التوجيهات الآمرة التي يجعلها فعّالة تدخل السلطات السياسية. «لسنا خاضعين فقط لقوانين الدولة، فنحن نطيع كذلك القوانين الإلهية، وقوانين الطبيعة الفيزيائية، مثل المناخ، وقوانين الطبيعة الحيوانية، مثل تلك التي تتعلق بالنمو واستمرار النوع. وأخيراً، فيما يخص القوانين الوضعية، ينبغي التمييز أيضاً بين تلك التي تتعلق بالقانون السياسي وتلك التي تتعلق بالقانون الدولي، كل نمط من القانونية له منطقه الخاص».
يبدو عمل مونتسكيو حديثاً تماماً، وبالنسبة إلى مسألة أخرى؛ لقد تداول علماء الاجتماع طويلاً منذ ماركس حول العلاقات بين البنية التحتية والبنية الفوقية، ومونتسكيو هو كذلك يتكلم عن «الأسباب» ويسعى إلى تقدير هذه الأسباب بأنها أكثر تأثيراً في مجتمع معين، ولكنه يتحصن جيداً ضد إغراء البحث عن «عامل» وحيد أو على الأقل راجح. يبدو ذلك في الطريقة التي يتطور بها مفهوم النظام السياسي في «روح القوانين» أو «الشرائع». في الكتب الأولى، تبدو القوانين مشتقة من مبادئ الحكومات وطبيعتها، ولكن الخصوبة التفسيرية للعامل السياسي تنضب بسرعة كبيرة، فيضيف مونتسكيو برباطة جأش، عوامل أخرى يحكم بأنها أكثر ملاءمة وأكثر مطابقة. إن فائدة هذا النهج مزدوجة، فليست فكرة القانون وحدها التي تغتني وإنما كذلك فكرة النظام السياسي.
ثمة جانب آخر ينبغي أن يلفت انتباه علماء الاجتماع في عمل مونتسكيو ألا وهو التفسير الذي يقترحه للتغيير الاجتماعي، فمونتسكيو لا يلتقي مع دعاة مفهوم التقدم المستقيم والمتسارع بانتظام ولا مع دعاة المفهوم الدوري، إنه حساس جداً، على غرار معاصريه، تجاه ظواهر الانحطاط، ولكنه يعطي نظرة لا ترسِّخ التفسير الوحيد الجانب لسقوط الامبراطوريات القائم على انحلال الأخلاق. في الآراء التي يعرضها حول «عظمة الرومان وانحطاطهم»، يشير مونتسكيو إلى سمة التناقض في تطورهم، «إن قوانين روما البدائية كانت تؤدي إلى تكبير المدينة ولكن ما إن أخضعت روما العالم، حتى أصبحت مبادئ عظمتها أسباباً لانحطاطها بعملية انقلاب مفاجئة بقدر ما هي محتومة». يتمسك مونتسكيو بعوامل عديدة يفتش عن الصلة بينها إذ يقول: «إن حجم المدينة والتوسع المحدود جداً للأراضي التي كان الرومان يمارسون سلطتهم عليها، كانت تعطي للدولة قوة مختصرة، تحافظ على الأفراد في مدار الأهواء المدنية». لم تعد الأمور كما كانت منذ حدوث توسع المقاطعات وتعددها، وتزايد عدد الجنود الذين يؤمنون حمايتها، وتمرد قادتهم، والتكاثر في مدينة روما ومشكلات الغذاء التي نتجت من ذلك، فحلّ محلّ الوحدة المدنية القديمة تنافس أكثر فأكثر حدّة بين الزمر المدنية والعسكرية، بين المناطق والمجموعات الإثنية التي أُخضعت منذ وقت قريب نسبياً. إن مونتسكيو يدرك تماماً تعقّد هذا التسلسل السببي، كما يصف الأفكار التي يمكن بقصد سيىء ومعيب، أن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة.