دوبوفوار ، في الوجودية والنسوية و الحب الاصيل : عرض إشكالي
قد يكون الحب أحد أكثر التجارب إيلاماً للإنسان ومصدرا لمعاناته ولعلّ العلاقات العاطفية من أكثر العلاقات التي عرفت الإخفاق في التاريخ البشري، ومع ذلك لم ينتهِ الحب واستمرت العلاقات برغم الفشل والألم الذي قد ينتج عنه.
وفي العقود الأخيرة نلاحظ ازدياد التشكيك بشكل العلاقة العاطفية التقليدية، ولا سيما بعد اتساع الوعي بالخطاب النسوي، لما فيها برأي كثيرين من ظلم بحق المرأة.
تقول الكاتبة الفرنسية بيغي ساستر، صاحبة كتاب “كيف يسمم الحب النساء؟”، إن الزواج، بالنسبة للمرأة، هو نعش، والأطفال هم مساميره”. ويقول جولييه دروار، الناشط ضد الغيرية إن “الثنائي الغيري يضع شخصاً مهيمناً في وجه شخص مهيمن عليه بنيوياً من قبل المذكر”.
ولأن العلاقة العاطفية أظهرت خللاً ومشاكل دائمة، حاول مفكرون وفلاسفة إعادة صياغة مفهوم الحب، بشكل يحمي من رحلة الآلام المتوقعة والظلم الذي يقع في معظم الأحيان على المرأة. من بين هؤلاء، اهتمت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار بالحب وبعلاقته بمسألة خضوع المرأة وتحررها.
ابتدعت بوفوار مفهوم “الحب الأصيل” الذي اعتبرته واحداً من أكثر الأدوات قوةً للأفراد الراغبين بالحرية”، إلى جانب عيشها أكثر من 50 سنة في علاقة حب غير تقليدية مع شريكها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
الحب الضروري و الحب العرضي : ذات مساء من عام 1929، اقترح سارتر على بوفوار، عندما كانا في العشرينيات من عمرهما، عقداً قابلاً للتجديد كل سنتين، مبدأه كالآتي: حبنا “حب الضرورة”، ولا مشكلة في أن نعيش على هامش هذا الحب قصصاً من “الحب العرضي”. حب الضرورة هو العلاقة الثابتة والمستمرة بينهما، أما مغامرات الحب العرضي، فتتسم بالخفة والمتعة. بكلامٍ آخر اتفق الطرفان على علاقةٍ مفتوحة يحافظان فيها على شراكتهما، من دون “احتكار” الواحد للآخر. فالمغامرات العاطفية، بحسب سارتر، هي الطريقة المثلى للتعرف إلى العالم لأننا “حين نكون رجالاً نتعرف إلى العالم عبر المرأة والعكس صحيح”. الشرط الوحيد لنجاح هذا الاتفاق هو الصراحة المطلقة بين الشخصين، ألا يخفيا شيئاً عن بعض، أن تكون مغامراتهما الجانبية على الطاولة أمامهما دائماً.
قرر الثنائي الشهير في مجال الفلسفة أن يعيش الحب من دون مؤسسة، أي من دون زواج، بحرية متبادلة وبشرط الشفافية. هذا العقد كان يمثل أيضاً في حينه تحدياً صريحاً لـ”أخلاق البرجوازية”. فبرأيهما حتى الحب لا يجب أن يكون عقبةً أمام أمر العيش بكثافة، أمام استكشاف العالم. استمرت هذه الشراكة بين الطرفين 51 عاماً، وخلقت نظريات وأفكارا وكتبا عدة، وألهمت كثيرين من الأجيال اللاحقة. وبنظر بوفوار، هذه التجربة أثمرت “طفلاً” هو الوجودية.
مرّت هذه العلاقة الطويلة بنجاحات وإخفاقات، خصوصاً لناحية اعتراف بوفوار في أحيان كثيرة بغيرتها على سارتر، وعن أخبار مغامرتهما الجنسية التي لامست حدود الفضائح في حياتهما الاكاديمية والفكرية. إلا أن علاقة الفيلسوفين ظلّت متينة، حتى دفنت بوفوار في مقبرة مونبارناس إلى جانب سارتر الذي توفي قبلها بست سنوات. فما هو سرّ نجاح هذه الصيغة غير المعهودة كثيراً ؟
لا نكون بل نصير و المرأة في كتاب الجنس الاخر :
تأثرت فلسفة بوفوار إلى حدّ كبير بفلسفة سارتر. وفي “الجنس الآخر” الكتاب المرجعي المهم في النسوية حتى يومنا هذا، انطلقت الفيلسوفة في مقاربتها للظلم التاريخي اللاحق بالمرأة من تعريف سارتر للوجودية بكونها أسبقية الوجود على الجوهر. ذلك يعني أن وجود الانسان يسبق جوهره ويحدده لا العكس، أي أننا لا “نكون” بل “نصير”. لا شيء معطى سلفاً، لكن الانسان بلغة سارتر هو مشروع، يصنعه بنفسه، يركبه ويفككه إلى ما لانهاية. ذلك عائدٌ إلى كوننا، في المذهب الوجودي، متروكين في عالمٍ لا “مدير” له، لذا نحن بحسب سارتر “محكومون بالحرية”.
وتأتي هذه الحرية العارية من وحدتنا التامة في عالمٍ عرضي لا معنىً محدد سلفاً له. حين نفهم ذلك لدى سارتر، بإمكاننا بالتالي فهم أشهر عبارة لبوفوار: “لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك”. ذلك ببساطة ينسجم مع فكرة أنه ما من دور محدد مسبقاً للإنسان. من هنا ايضاً، تأتي فكرة أن الهويات الجندرية هي أمرٌ غير نهائي، بل مركب اجتماعي.
ولأن الانسان، في الفلسفة الوجودية، يعادل الحرية، لا نجاح لفعل أو لعلاقة تنكر هذه الحرية أو تحاول إلغاءها.
في كتابها “أخلاقيات الغموض” تؤكد بوفوار أن الشر يكمن فقط في إنكار الحرية (حريتي وحرية الآخرين)، وأنه لا يمكنني أن أؤكد ولا أن أعيش حريتي من دون تأكيدي لحريات الاخرين.
من هنا، اعتبرت بوفوار أن حبّاً لا يحترم حرية الذات وحرية الآخر، هو حبٌ “غير أصيل” وسيؤدي بالضرورة إلى استغلال العلاقة العاطفية لتشريع أشكال من الهرمية في المجتمع ولاستغلال المرأة.
وفي الجزء الثاني من كتابها “الجنس الآخر”، قالت إن الرجل والمرأة ينظران إلى الحب بشكل مختلف. إذ أن الرجل اعتاد أن ينظر إلى العلاقة العاطفية كجزءٍ من كل، أما المرأة ففي أحيانٍ كثيرة تجعل حياتها كلها تدور حول هذا الحب. وقد جرى تشجيع النساء تاريخياً على ألا يتوقعن أشياءً كبرى من الرجال، بالإضافة إلى تجهيز النساء للحب والزواج عبر دعوتهن إلى توقع ظلم الرجل باسم الحب. وفيما ترى بوفوار أن النساء نشأن على فكرة أن الحب هو غاية الحياة، هي أرادت أن تجعل من الحرية وحدها القيمة المحددة لحياة المرأة.
وتنظر بوفوار بسلبية إلى الحب الشغوف لأنه برأيها سيتحوّل سريعاً إلى خضوع من قبل المرأة. ورأت أن الغموض الذي يسود مفهوم الحب، أدى إلى سوء استخدامه وإلى جعله أداة استغلال ومرتعاً لما يسمى بالعلاقة السامة.
وهذه النسخة من الحب استُغلت لتشريع أشكال الهرمية وترسيخ الأدوار الجندرية في العلاقة وضمان استمرار ديناميات المجتمع الأبوي بلا تغيير. بينما “الحب الأصيل” لدى بوفوار هو الحب الذي يتقبّل عرضية الآخر ويحترم حريته، فلا يكون ظالماً ولا استغلالياً ولا يحوّل علاقة الحب إلى مجال لسوء المعاملة وطريقاً نحو التعاسة.